تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    حضرموت هي الجنوب والجنوب حضرموت    الزنداني يلتقي بمؤسس تنظيم الاخوان حسن البنا في القاهرة وعمره 7 سنوات    حقائق سياسية إستراتيجية على الجنوبيين أن يدركوها    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    الضربة القاضية في الديربي.. نهاية حلم ليفربول والبريميرليغ    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    اليمن: حرب أم حوار؟ " البيض" يضع خيارًا ثالثًا على الطاولة!    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    شبوة تتوحد: حلف أبناء القبائل يشرع برامج 2024    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    وفاة نجل محافظ لحج: حشود غفيرة تشيع جثمان شائع التركي    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبدالواسع حميد الأصبحي يتذكر الحلقة 13
نشر في الجمهورية يوم 06 - 01 - 2008

لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الاطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغريبتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. نداء.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
تأثير المغتربين في الحركة الوطنية
أبدأ أولاً:عندما فرَّ الزعيمان الكبيران أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري ،متخفيين إلى عدن،وقد ذكرت في كتابي السابق كيف ضمنهم الشيخ عبدالله علي الحكيمي، ولاداعي للإعادة.
بدأ الزعيمان الكتابة في صحيفة «فتاة الجزيرة» وهي أول صحيفة في الجنوب اليمني .كان يرأسها المحامي الأول في عدن محمد علي إبراهيم لقمان.
وكان من ضمن الفارين أيضاً المرحوم مطيع دماج الذي عاد بعد عفو ولي العهد عنه،وظلّ يعمل سراً من الداخل في الحركة الوطنية حتى قيام الثورة،ومنهم أيضاً أحمد محمد الشامي والسيد زيد الموشكي اللذان عادا أيضاً،ومنهم الأستاذ الكبير والمعذب دوماً والمدردح كما يقول هو عن نفسه الأستاذ محمد عبدالله الفسيل الذي كتب كتاباً ونشره سراً بعنوان «الرجل الشاذ» وقد كان هذا الكتاب خطيراً جداً لأن المقصود به هو الإمام أحمد الذي كان ولياً للعهد آنذاك.
إذاً ،فماذا يصنع هؤلاء الفارون، وليس لهم حتى مايقيتون به أنفسهم؟
بدأ هؤلاء بالتحرك خفية،واجتمعوا بالكثير من التجار في عدن،ثم كتبوا رسائل إلى أثيوبيا والقرن الإفريقي والسودان بعد أن همّ الزعيمان بالعودة بعد أن ظلا يتضوران جوعاً،فاليمنيون كانو يخافون مساعدتهما،لأن ولي العهد قد عذب وسجن كل من كان يمتّ لهما بصلة..وفي هذه الأثناء جاء الفرج من أثيوبيا،فقد أرسل لهما أحمد عبده ناشر،وكان رئيساً للجالية هناك 600روبية أي مايساوي الآن 60ألف دولار،قائلاً لهما في الرسالة:«استمرا في العمل ونحن من ورائكم» ،وتوالت التبرعات،فعاد الفُسيّل من الشمال إلى عدن ومعه عبدالله عبدالوهاب نعمان الملقب بالفضول،وكان أشبه بسكرتيرين للأستاذين النعمان والزبيري في «صوت اليمن» و«الجمعية اليمنية الكبرى».
لقد انهالت التبرعات على الأحرار سراً،خوفاً من بطش الإمام وولي عهده بأسر المتبرعين والمتبرع لهم.
ولا أخال القارئ يجهل ما حلّ ببيت نعمان،فقد أودعهم ولي العهد بالعشرات في سجون حجة بسبب فرار الأستاذ أحمد محمد نعمان. كما لا أخال القارئ والذين لازالوا يعيشون.. لاأخالهم يجهلون أن ولي العهد أرسل أخاه الأكبر،أي علي محمد نعمان،ذلك البطل المثقف القائد الذي استشهد بعد الثورة في حرض..أرسله إلى عدن:إما أن يأتي بأخيه أو يعود إلى السجن.وقد رفض الأستاذ أحمد محمد نعمان رفضاً باتاً العودة مع أخيه،فقال له أخوه:لقد سجنوا أهلك،ولم يبق منهم سوى النساء.فقال له الأستاذ: فليذهبوا إلى حيث القدر..أنا سأبقى هنا أناضل وأكافح،وأنت اذهب معهم إذا شئت إلى السجن وليحفظك الله وهو خير وكيل. تعانق الأخوان عناقاً حاراً،وكلّ واحد منهما يبكي الآخر.
ولما عاد علي إلى تعز أودعه الإمام أو ولي العهد السجن.
ولا أخالكم تجهلون أن سجون صنعاء وحجة امتلأت بالمعتقلين في عام 1945م، وفي مقدمتهم زعيمنا الروحي القاضي عبدالرحمن الإرياني والمؤرخ اليمني الكبير القاضي محمد علي الأكوع،وأخوه العالم إسماعيل علي الأكوع،والشيخ أو فيلسوف اليمن كما كانوا يسمونه آنذاك حسن الدعيس،والقاضي عبدالكريم العنسي والأستاذ أحمد عبدالرحمن المعلمي،وآخرون كثيرون وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
تعاطفاً مع الحركة الوطنية ممثلة بالمناضلين الفارين والمسجونين كان التجار يتبرعون بسخاء،مشترطين أن لايعرف أسماءهم سوى النعمان والزبيري، لكي لاكل عليهم وعلى أسرهم غضب الإمام وولي عهده.
والمعمرون لايجهلون ماحدث للشيخ جازم الحروي الذي أمر ولي العهد بهدم داره في تعز.
هؤلاء المغتربون في شرق أفريقيا وأثيوبيا،وفي عدن ،ساهموا في شراء مطبعة ضخمة ،وأصدروا صحيفة «صوت اليمن» .وأسجل هنا بصدق وللتاريخ أن جازم الحروي كان أكبر المتبرعين في شراء المطبعة..تلك المطبعة التي كانت أكبر مطبعة في عدن بعد مطبعة «فتاة الجزيرة» ولهذا مدحه الزعيم الزبيري بقصيدة جاء في أولها:
ألا فليعش في مهجة الشعب «جازم»
فدته بحياتِ القلوبِ العوالمُ
فتى هالنا بالجودِ حتى حسبتهُ
ملاكاً طهوراً أنجبته الغمائمُ
وللتاريخ أيضاً أن خلافاً كبيراً حدث بين الأستاذ نعمان وبعض الأحرار الذين فرّوا من الشمال إلى عدن بسبب إصرار النعمان على عدم إفشاء أسماء المتبرعين والمبالغ التي تبرعوا بها،والقصة معروفة. إذ كان الأستاذ نعمان يحرص كل الحرص على إخفاء أسمائهم خوفاً عليهم، لا سيما وأن بعض من فروا إلى عدن عادوا إلى الشمال وصاروا عيوناً وجواسيس للإمام وولي العهد،وهذا أمر يعرفه الذين عاصروا الحركة الوطنية.
طبعاً،أنا لست طائفياً،ولست إقليمياً،ولست مناطقياً . أنا يمني ،وإن كنت أقول «الأصبحي» معرفة بأن قبيلتي هي الأصابح.أقول وللتاريخ: إن المغتربين في كل المناطق ماكانوا يعرفون أحداً سوى الأستاذ أحمد محمد نعمان الذي عرفوا عنه الكثير والكثير وخاصة عندما فرَّ، وكتب تلك المقالات الطويلة،وسوي الأستاذ محمد محمود الزبيري عندما كتب تلك القصائد الطويلة المحرضة على الثورة ضد الإمام،لذلك كان المتبرعون لايثقون بأحد سواهما،ولذلك حرص الأستاذ النعمان على إخفاء أسمائهم والقصة طويلة.
إن الأستاذ النعمان يستحق أن يكتب عنه كتاب بل كتب ،وهذا ليس تعصباً والله وشرفي،ولكن للإنصاف وللتاريخ .هذا وقد أشاد به وأبرز مآثره ومجّد أفعاله العالم الأثري والمؤرخ إسماعيل علي الأكوع،ومع ذلك قال إنّه لم ينصفه.
لقد قامت الحركة الوطنية وحزب الأحرار آنذاك على أكتاف المغتربين سواء في عدن أو خارج اليمن.وأذكر أن بعض التجار في الشمال لم يبخلوا بمساهماتهم سواء في صنعاء أو الحديدة أو إب أو تعز أو غيرها من المدن اليمنية.
إن صحيفة «صوت اليمن» التي أشعلت جذوة الحرية في نفوس الشعب اليمني،كانت تصل تباعاً إلى تعز،وأحياناً إلى مقام ولي العهد وإلى صنعاء،وكثير من المدن اليمنية وحتى بعض الأرياف.وهذا كان يتطلب تكاليف باهظة ينبغي صرفها لهذه الأمور،للعاملين في إعدادها وإيصالها من عاملين في السر ومتخفين ولأسرهم وعائلاتهم.
ولابد لي هنا أن أذكر أسماء ربما يجهلها شبابنا..أسماء الذين ضحوا بالأموال،والذين نشروا التوعية في نفوس المغتربين.
سأبدأ أولاً بعدن: ولكن قبل ذلك سأورد قصة لطيفة وطريفة:
الزبيري يحلم
في عام 1964م أي بعد قيام الثورة بعام وعشرة أشهر،قال لي الشهيد محمد محمود الزبيري ، وأنا في منزله في بستان السلطان: ياأخ محمد أنت عندك ذاكرة قوية ،فاكتب لى أسماء الذين ساهموا معنا في تأسيس الحركة الوطنية ،ابتداءً من عام 1945م حتى يومنا هذا،فأجبته:لماذا؟ قال: وكان أمله كبيراً ،يامحمد سوف نستدعيهم أولاً لتكريمهم،وليعرف الشعب اليمني وخاصة الشباب هنا بما صنع هؤلاء ،ولولاهم لما كنّا،ولما استطعنا أن نقاوم الإمامة، ولما قامت هذه الثورة ،يامحمد إن هؤلاء يجب أن يكرّموا ولو وضعنا لكل واحد منهم وساماً ذهبياً لما وفيناهم حقهم.
ثانياً:لنجمع كل القيود التي في السجون ،ونحتفل بدفنها في البئر التي كان يرمي هادي عيسى فيها بضحاياه.
ومع الأسف فإن القيود الحديدية لاتزال موجودة في كل السجون اليمنية حتى يومنا هذا.
«سلاماً ومنذ العصور الخوالي
مذ اخضر حقل بسمر الغلالِ
ومذ حُكمت سادةٌ في الموالي
تنسمت الأرض فيض الرجال
سلاماً وراحت تُصبُّ القيود
ويحمر فرط الحياء الحديد
ويطرق في الغاب خزيان عود
تصبُّ المشانق منه اعتسافا
سلامٌ وماظلّ ديكٌ يصيحُ
وما ظل في الليل نجم يلوح
وما دغدغت شامخ الدوح ريح
ستبقى رؤوس ضخام تطيح
ويبقى يضج الضريح الضريحُ»
وللأسف الشديد لازالت تلك القيود موجودة في السجون ،لماذا لانرمي بهذه القيود؟!
السجين هو السجين بين أربعة جدران ،فلماذا لانرمي بهذه القيود التي تذكرنا بألف عام،بالإمامة، وبالإمام أحمد..لماذا نقول إن الإمام يحيى يقيد،والإمام أحمد يقيد،قيود ومراود وسك وثقاله؟والقيود لاتزال موجودة إلى الآن في سجوننا مع الأسف ،أنا آسف ،آسف.
أعود فأقول: إن المرحوم الحاج محمد سلام حاجب كان غنياً جداً جداً ولم يبخل بماله على الحركة الوطنية،وتالله لقد مات فقيراً لايملك شيئاً في السبعينيات ..وعثمان قائد العريقي الذي وضع تحت تصرف الاتحاد اليمني مبنى من ثلاثة طوابق دون أي مقابل،ومات فقيراً.
والمرحوم أحمد يحيى الكحلاني الذي كان يقيت الهاربين في مطعمه،والمتظاهرين الطلبة الشباب الذين نزلوا إلى عدن..كلهم كانوا يأكلون في مطعمه..نترك هذا.الحاج محمد على الأسودي وعبدالقادر أحمد علوان وعبدالملك أسعد الأغبري،وأخوه صلاح أسعد،وعبدالرحمن عبدالرب العريقي،والسيد علوان عبدالجبار الشيباني ،وأخوه، وعبدالله عثمان الذبحاني،وعبدالقادر سعيد الذبحاني.
وفي أثيوبيا أي أديس أبابا الرجل القمة الذي ينكر نفسه أحمد عبده ناشر العريقي ،والد الدكتور أمين ناشر الذي مات في التسعينيات في حادثة.ثم أذكر أيضاً المرحوم عبدالغفار زيد الأصبحي،وله قصة: كيف هرب من اليمن؟وكيف تعلّم إلى آخر ذلك..سأكتب عنه فيما بعد.
وكذا أتذكر عبدالقوي الخرباش وسيف حمود الرازحي..كما أتذكر الحاج سيف عبدالرحمن العريقي المقيم حالياً في الحديدة وهو مسنٌ في الثمانينيات من عمره.
وفي أرتيريا شائف محمد سعيد،وفي السودان المرحوم السيد يحيى حسين الشرفي الذي سأورد قصته فيما بعد إن شاء الله كما أتذكرها من 1948م و1955م،1959م،إلى عام 1962م،وهكذا سأعود مرّة أخرى.
رجال ..وأفعال
1 عبدالغفار زيد الأصبحي
أعتقد أن الجنود المجهولين كثيرون في حياتنا في اليمن، في الحاضر وفي الماضي، سأتحدث هنا عن واحد من هؤلاء الجنود المجهولين، وهو من جيلنا الحاضر، إنّه «عبدالغفار زيد الأصبحي» الذي ألتقي معه في الجد السابع، ويكبرني بأربعة أعوام ومازال على قيد الحياة من أصدقائه وزملائه السيد عبدالعزيز محمد السقاف، صاحب عمارة السقاف في عدن أي «فندق قصر الجزيرة»، وممن يعرفه، ويعرف كيف كانت حركاته ونشاطه الدؤوب عبد الوارث عبدالمعين السقاف - مستشار البنك اليمني للإنشاء والتعمير.
سبب فراره:
فرَّ عبدالغفار زيد الأصبحي من الأصابح إلى عدن، ومنها إلى جيبوتي ثم استقر به المقام في أثيوبيا عام 1928م وكان سبب هروبه من بلده أنه كان من ضمن الأطفال الذين يحملون الفطائر «الكدم» إلى الجنود المرابطين في مركز القضاء في التربة، وذلك بعد أن تفضّل الإمام يحيى برفع «الخطاط»، وأعتقد أن شبابنا لايعرفون ماهو الخطاط، لذا لابد من توضيح ماهو الخطاط «ü»، هذا الأسلوب من الإذلال الذي لم تعرفه حتى عصور العبودية.
üالخطاط في منازل الرعية:
تفضل الإمام بأنه كان يوزع على كل عزلة أكياساً من الذرة وغيرها على الرعية، وعلى الرعية أن يكلفوا نساءهم بطحن الطعام في الرحى «الماوره» بلهجة أهل الحجرية ثم بعجنه وخبزه في التنور «الموفى»، وعليهم أيضاً أن يشتروا الحطب، وهذا أخف وأهون من الخطاط، وهذا في كل أنحاء اليمن وليس في الحجرية فقط.
بينما كان المرحوم عبدالغفار زيد يحمل الفطائر مع كثير من الأطفال، عثرت رجله، فوقع على الأرض، فانكسرت بعض شطائر الخبز.
فلما أوصلها إلى المركز إذا بأحد نقباء الجند يكيل له الشتائم: لماذا كسرت بعض الفطائر؟ لماذا صنعت هكذا؟ يافاعل يا.. يا.. فأجابه عبدالغفار زيد ببراءة الطفولة: ياهذا لن تدخل الفطيرة في فمك دفعة واحدة لأنك سوف تكسرها وتأكلها، وهنا ثار ذلك الجندي عليه بالشتائم، وهم بضربه، ولكنه لاذ بالفرار إلى منزله حيث والدته الأرملة التي مات زوجها في البحر أي في فرنسا - كان زوجها من أوائل البحارة وقّادي الفحم في السفن وكان موسراً لا بأس به - فأخذ من والدته مصروف الطريق وبعض اللقيمات واتجه إلى عدن ثم جيبوتي وأثيوبيا.
üعبدالغفار يظهر في جيبوتي ثائراً وعاشقاً
غاب عني عبدالغفار زيد، ونسيته ومرّ زمن، وإذا به يصل إلينا أي إلى جيبوتي قادماً من أديس أبابا على القطار وذلك قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بأربعة أشهر تقريباً.
كنت أعمل كما قلت من قبل في الجمارك «صف ضابط جمارك».. وأول شيء فعله عبدالغفار هو البحث عني.. فلما التقينا تواعدنا أن يكون اللقاء بعد الظهر في محل عبده نعمان البسباس الأغبري، وكنا خمسة أشخاص على وجه التقريب، أذكر منهم صاحب المنزل عبده نعمان البسباس ومحمد أحمد شعلان وعلي طاهر وأحمد محمد الحاج العريقي والد فهمي الحاج، ثم الأستاذ الكبير أحمد فرج باظفاري، وإذا بعبد الغفار زيد يتحدث لمدة ساعة كاملة، ويشرح باختصار مايقاسيه الشعب اليمني من الويلات والجور والعسف والظلم والتشريد، ثم يضرب الأمثلة في ثورات الشعوب ويتحدث عن الثورة الفرنسية حديث المطلع والقارىء، وبعد ثلاثة أيام اتجه صوب اليمن، وكان يحب فتاة.. أحبها منذ طفولتها، فلما شبّ ظل يبحث عنها ويستفسر الغادي والرائح، وإذا به يكتشف أنها تزوجت بابن عم لها.. فلم يلبث ذلك الزوج أن مات.
ظل عبدالغفار يبحث عن تلك الفتاة - كما أخبرني» حتى وجدها، وتمّ زواجه منها وبينما كان في عشه الجميل الدافىء مرتاحاً، وقد تحقق حلمه الذي حلم به أكثر من عشر سنوات إذ حدث مايعكر صفو هذا الحب والزواج، فقد هدده أحد الأشخاص الذين التقاهم في أثيوبيا وذلك لحقد شخصي، حيث كان ذلك الشخص متفوقاً ويسمونه الأستاذ إلا أن عبدالغفار تفوق عليه مما أوغر صدر ذلك الحاقد عليه، فهدده بأنه سوف يخبر عامل الإمام في التربة بأنه ضد الإمامة وضد ولي العهد وضد وضد..
عبدالغفار يفرّ من جديد
أوجس عبدالغفار خيفة، وساوره الشك، وحدث ماتوقعه فقد وصل أحد الجنود يسأل عن داره، بيد أن شخصاً في القرية دلّه على منزل آخر يبعد عنه ساعة كاملة، ثم ذهب إلى عبدالغفار وأخبره بما يبيتونه له.
وهكذا ودّع عبدالغفار زوجته باكياً حزيناً متألماً ممزقاً، ثم اتجه إلى «العاره» - مابين سُقَيَّا والعُمَيْرة - في الساحل الجنوبي، فاستقل سفينة شراعية حتى وصل إلى جيبوتي، وقد أخبرني باسم الواشي ولا داعي لذكر اسمه، فقد ذهب بخيره وشره إلى رحمة ربه، وكانوا يلقبونه بالأستاذ، ويلبس قفطاناً وجبَّةً.
كان عبدالغفار يعمل بالتجارة، وكان كأنه خلية نحل: يعرّج علينا في جيبوتي بطائرة بين كل شهر أو شهر ونصف، ومنها يطير إلى عدن لكي يسلّم الأحرار ماجمعه من تبرعات المغتربين في أثيوبيا، وكان يساعده في ذلك أحمد عبده ناشر.. وحين عودته كان يسلمنا دفاتر الاشتراكات للجمعية اليمنية الكبرى، ثمّ يحمل معه رزمة من صحيفة «صوت اليمن» التي كانت تصلنا تباعاً، ولكن كيف تعلّم عبدالغفار زيد؟
تعلمه:
كان عبدالغفار يناقش الأستاذ أحمد فرج باظفاري وكأنه موسوعة: يناقشه في النحو والصرف والبيان والتاريخ والأدب، وأذكر أنه أعطاني «رسالة الغفران» للمعري التي لم أكن قد قرأتها، كما أعطاني كتباً أخرى، وحين سألته عن تعلمه، قال إنه كان يقعد كثيراً مع أساتذة مصريين وسوريين وسودانيين، فأخذ منهم المبادىء، ثم تثقف بعد ذلك ثقافة ذاتية.. فكان يطلب الكتب من مصر ومن السودان ومن أية منطقة أخرى، وهكذا تثقف، وهكذا كان دأب الكثيرين غيره ممن كانت لديهم القابلية للثقافة.
كان رحمه الله يحس بشوق ولهفة وحزن من أجل زوجته التي أحبها منذ طفولته، ولكن فراره حال بينه وبينها فكان لايستطيع زيارة البلاد بعدها لأنه جاهر بإسمه بين الأحرار سواء في « صوت اليمن» أو في عدن أو في أثيوبيا، فقد عرف أنه من المناضلين لتغيير نظام الحكم في اليمن، وقد كان أمله كبيراً ومتفائلاً أكثر منّا في القضاء على حكم الإمام.. ولذلك عندما أخفقت ثورة 1948م أصيب بصدمة عنيفة سببت له مرضاً عضالاً في المعدة فمات، رحمة الله عليك ياعبدالغفار زيد.
لابد هنا من الإشارة إلى رسالة طويلة جداً كتبها إليّ المرحوم عبدالغفار في عام 1949م، يقول في نهايتها: «ياعزيزي ويابن عمي، أنا مكلوم حزين، ليس لفشل الثورة فحسب ولكن لأولئك الأبطال الذين أعدموا في ميادين حجة وصنعاء وغيرهما، ثم الذين يرسفون بالقيود والأغلال ويعذبون بعد أن سيقوا كالنعاج مكبلين بالحديد أو الحبال سيراً على الأقدام أكثر من ثلاثمائة كيلو متر، ثم إن الأستاذ الزبيري مشرد، والورتلاني لم يسمح له بالنزول في أي مدينة عربية، وعبدالله بن علي الوزير كما قيل لي اتجه إلى الهند لاحول له ولا قوة.
ياعزيزي محمد: لا أدري هل سيعدم الأستاذ أحمد محمد نعمان أم أنه سيخرج طليقاً ليعود من جديد إلى الكفاح، بلغني أنه مثقل بالقيود والجنازير، كنت أتمنى أن يبقى ذلك النور الذي سوف يشعُّ على اليمن.. أتمنى أن يبقى ولو سنة واحدة.
ياعزيزي محمد: لا أود أن تحزن على فراقي، فإني أسير إلى الموت حثيثاً، وكل ما أطلبه منك شيئان:
أولاً: أن تستمر أنت وكل الشرفاء في النضال لكي تغيروا وضع اليمن.. إن لم يكن أنتم فأبناؤكم.
ثانياً: أن تتعهد تلك الزوجة البائسة التي أشقيتها، وسأتركها أرملة، إني أسير إلى الموت، وداعاً ياحبيبي».عبدالغفار زيد
وأقول للقارىء: إن أرملته لاتزال تعيش عندنا في القرية وعمرها الآن خمسة وسبعون عاماً لاتجد من يقيتها لولا بعض أفراد عشيرتها، إنها هيكل عظمي، ولاتزال حزينة حزينة على ذلك الإنسان كلّما كلمتها أو تحدثت معها، ربما تأخذ منك مساعدة، ولكنها تقول: هل سيعود عبدالغفار؟ هل تزوج في أثيوبيا؟ لماذا لايأتي؟ لماذا لايعود؟ لماذا؟ أين هو؟ إنها لاتصدق بأن عبدالغفار قد مات، لست أدري مابها، ليس بها مس ولا جنون، ولكنها تفكر أن عبدالغفار لايزال يعيش رغم مضي ستة وأربعين عاماً، إنها لازالت تفكر بأنه لم يمت، وكل الأصابح الذين يقطنون تحت حصن «نعامه» يعرفون أرملة عبدالغفار زيد بن عبدالله ناصر الأصبحي، ولكن أغلبهم لايعرفون سوى أن عبدالغفار زيد اغترب في الصغر إلى أثيوبيا، وضاع هناك.
لازالت أرملته تعيش ولا أدعي أنني أساعدها، والكثير من الأخوة الطيبين يساعدونها وهي أبية جداً جداً تسكن وحدها في دار طابقين، ولست أدري كيف تعيش ولاتخاف، تقفل الباب على نفسها في المساء، وتصبح الصباح إلى الحقل، وتعمل في بقايا أرض من حق أبيهاومن حق زوجها، فهي لم تفكر أن تأخذ وريثة لأنها تعتقد أن عبدالغفار زيد لايزال يعيش.. إنها على الرغم من عمرها المديد - في الخامسة والسبعين - تمشي كأنها ظبية تقفز من حقل إلى حقل، ولم يحدودب ظهرها كما شاهدتها منذ ستة أشهر بقامتها المديدة، بيد أنها ذاوية ذابلة وليرحمها الله إذا ماتت أو عاشت، وخير لها لو أنها ماتت.
2 الشيخ يحيى حسين الشرفي
هو أحد المناضلين الكبار والمغتربين الأوائل في السودان، وفي وادي مدني بالذات، عمل وتثقف في السودان وتزوج سودانية ومن أبنائه الدكتور محمد بن يحيى حسين الشرفي الموجود الآن في صنعاء، الذي احتضنه الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر وقد فرحت كثيراً عندما التقيته في صنعاء.
كيف بدأت معرفتي بالشيخ يحيى؟
بدأت معرفتي به في عام 1954م ثم في أوائل عام 1955م عندما وصلتني منه رسالة من وادي مدني في السودان إلى مرسيليا في فرنسا، وفيها يحييني ويحثني على مواصلة النضال بشتى الوسائل، ويلقبني فيها «بابن اليمن البار» ومذيلة بتحية وتوقيع المناضل الكبير أحمد محمد هاجي، فعرفت أنه هو الذي أعطاه عنواني في فرنسا، ويقول رحمه الله في رسالته الثانية «بأنه مستعد لطبع أي شيء يخص الأحرار اليمنيين على حسابه الخاص».
ذلك لأنه عندما زار اليمن الرائد صلاح سالم أحد أعضاء قيادة الثورة المصرية طلب منه الإمام أن يبلغ الرئيس جمال عبدالناصر لإقفال صحيفة «صوت اليمن» التي كانت تصدر في القاهرة وعدم السماح للأحرار بنشر وطبع أي كتاب يناوىء الإمام وإغلاق الاتحاد اليمني.
وقد وافقه الرئيس جمال عبدالناصر على اثنتين ولم يوافق على إقفال الاتحاد اليمني، وكان عبدالناصر رحمه الله يود أن يكسبه إلى جانبه في الدفاع عن القضية العربية ولاسيما القضية الفلسطينية والجزائرية آنذاك.
ولكن هيهات هيهات.. كيف تفلق الأحجار، كيف تذوب الحديد بين الماء.. لايمكن!
الإمام أحمد كعادته هو هو وأتذكر أن الشاعر الكبير علي عبدالعزيز نصر أطال الله عمره، وكان هارباً في عدن كتب قصيدة طويلة للرائد صلاح سالم في «صوت اليمن» التي كانت تصدر في القاهرة، ومطلعها:
«قف ياأخي إنّا نحكم فيك روحاً ثائرة»
ومن ضمنها:
«إنَّا سنجزي الظالمين بظلمهم...» إلى آخر هذه القصيدة.
وهنا عرفنا أن المرحوم المناضل الكبير يحيى حسين الشرفي أبلغ الأحرار أنه مستعد لطبع أي شيء يخصهم ويخدم القضية الوطنية أي أنه يطبعها على حسابه، وقد زاره شهيد الوطن الكبير القاضي محمد محمود الزبيري، ثمّ وصل إليه الشهيد الحي وأضغط على كلمة الشهيد الحي الأستاذ أحمد محمد هاجي البائس المنكوب الآن في اليمن، ثم عاد بعد زيارته له إلى القاهرة.
استمر الشيخ يحيى في السودان وتزوج من سودانية، إلى أن جاءت حكومة عبود في السودان فطلب الإمام أحمد من الرئيس عبود أن يوقف يحيى حسين الشرفي الذي كان شعلة من شعل الحرية، وكان يصنع كل مالايقدر الأحرار على صنعه في القاهرة من نشر البيانات والمطبوعات ضد الإمام، كما طلب الإمام أحمد تسفيره من السودان فصدر الأمر بتسفيره.
وهنا تحرك اليمنيون المغتربون، فأرسل الاتحاد اليمني في عدن وكنت آنذاك مساعداً للأمين العام فيه برقية مؤثرة إلى الرئيس عبود يرجوه وقف تسفيره وبرقية أخرى من المؤتمر العمالي في عدن، وبرقية من أثيوبيا «أديس أبابا» باسم الجالية اليمنية، وأتذكر أنها كانت بتوقيع أحمد عبده ناشر العريقي الذي لايزال يعيش في صنعاء متعباً، وبرقية من القرن الأفريقي وهي بتوقيع علي حمود الجائفي شقيق اللواء حمود الجائفي، ومن كينيا بتوقيع المرحوم المناضل الكبير السيد محمد الوريث، ومن ذا الذي يجهل محمد الوريث وتضحياته؟ وهذا يجب أن يكتب عنه الأستاذ أحمد عبدالرحمن المعلمي والأستاذ محمد عبدالله الفسيل وإبراهيم الحضراني وآخرون، لأنهم يعرفونه من الألف إلى الياء.
وأخيراً قامت مظاهرة صاخبة في السودان ابتدأت في وادي مدني ثم بور سودان والخرطوم لشجب قرار التسفير وليعلم القارئ أن المرحوم يحيى حسين الشرفي كان إلى جانب نضاله وتضحياته في الحركة التحررية في اليمن لايبخل في مشاركة السودانيين في قضايا التحرر من الاستعمار.
وهذا مادفع الشعب السوداني الشقيق إلى أن يردّ الجميل.
وهكذا لم يسع الرئيس عبود تحت ضغط الجماهير السودانية بالدرجة الأولى والمغتربين اليمنيين في الدرجة الثانية إلا أن يوقف أمر التسفير، وكان هذا عام 1959م.
بعد قيام ثورة 26 سبتمبر المباركة زار المرحوم يحيى حسين الشرفي وطنه بعد غياب دام أكثر من ربع قرن، وكنت أزوره في دار الضيافة التي يقيم فيها بأمر المرحوم المشير السلال.
وكان الزبيري والشرفي يتزاوران، وكم كان يحلو لي الجلوس معهما، وقد تأكد لي حينذاك أن يحيى حسين الشرفي كان إلى جانب وجاهته وتحرره مثقفاً بثقافة لابأس بها.
شد الشيخ يحيى الرحال إلى الشرفين أولاً لزيارة بقية أسرته التي تركها منذ ثلاثين عاماً وثانياً والأهم: لإقناع أصحاب تلك المناطق النائية والوعرة بأن يدخلوا مع الجمهوريين بدلاً من أن يحاربوا في صف الملكيين وكان معظمهم كما قال لنا من أتباع الملكيين.
لقد تجشم الصعاب والسير على الأقدام حافياً في كثير من المواضع، إذ من الصعب أن يسير الإنسان في تلك الطرق الوعرة بشناخيبها، وحتى الحمير لاتستطيع السير بتلك النقل والتضاريس.. وظل السيد يحيى هناك أكثر من شهر، ينشر بينهم الوعي، رغم أنه قد نُصح من قبل الأصدقاء بأن لا فائدة، وأنه قد يلاقي حتفه.. وفعلاً عاد هذا الشيخ إلى صنعاء يائساً وحزيناً ودامي القدمين، وماطلع تلك الجبال ولا عانى ماعانى إلا في سبيل القضية اليمنية وفي سبيل تحرر هذا الشعب.. ثم عاد إلى مقر عمله وبين أهله في السودان، وقد وافته المنية بعد بضعة أعوام من عودته.
رحمه الله ورحم أولئك الأبطال الذي ضحوا في سبيل هذا الشعب.
هذا أحد المناضلين ذكرته لكي يعلم شبابنا الذين لايعرفون ماكان يصنع هؤلاء، وأثر المغتربين في الحركة الوطنية، فلولاهم لظلّت الإمامة أكثر مما كنّا نتصور.
والآن إلى قصتي مع مناضل آخر يجهله الكثيرون من الشباب، وحتى الذين بلغوا الأربعين من العمر لايكادون يعرفون من هو هذا الإنسان.
إنه أحمد محمد هاجي.
3 أحمد محمد هاجي
من هو أحمد محمد هاجي؟
إنه من أبناء الحديدة، ومن اليمن أولاً، طبعاً..فر إلى عدن وظل يدرس هناك في مدرسة النهضة وبازرعة ليقيت نفسه وهروبه لم يكن عن خوف أو وجل أو تعسف ولكنه فكر وقدر، ورأى نفسه كمثقف لابد له من أن ينضم إلى قوافل الأحرار والمناضلين في عدن، وغير عدن، مع المغتربين.
ظل في عدن حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952م فذهب إلى مصر، وتسجل هناك وكتب في قائمة اللاجئين السياسيين وبقي في مصر إلى أن ذهب إلى السودان وظل يكتب لي ولغيري سواءً إلى أثيوبيا أو إلى المغتربين في أي قطر آخر يعرف فيه عناوينهم.
عندما أقفلت «صوت اليمن» في القاهرة، بعد أن أصدرت عشرة أعداد، وكان في العدد العاشر منها كلمتي أو مقالي، بتوقيع «السندباد اليمني» كان هو يتنقل مابين السودان ومصر.
في 56، 1957م اضطر أحمد محمد هاجي، أو دفعته وطنيته، عندما رأى أن لامناص ولامجال هناك للأحرار الشرفاء والمناضلين في القاهرة، إلى مراسلة صحيفة «الأحد» التي كان يصدرها الشهيد المناضل الناصري فيما بعد رياض طه في لبنان وراح ينشر فيها مقالاته النارية على مدى الأعوام 56، 57، 1958م وهو في القاهرة وكان المغتربون في جدة، والرياض، والدمام، والظهران يتلقفون أعداد هذه الصحيفة «الأحد» التي تأتي من بيروت بلهفةٍ وشوقٍ وشغف.
كما أن الأخوة السعوديين لم يقصروا، فكانوا يتساهلون كثيراً، فارتفعت أعداد الصحيفة من عشرة آلاف نسخة إلى خمسين وإلى ثمانين ألف عدد في كل أسبوع.
وهكذا ظل أحمد محمد هاجي يكتب ويكتب حتى تحول رياض طه لا أقول بأنه توقف عن نشر الكتابات بأمر من الإمام، ولكن رحمه الله، وغفر له أو منعت صحيفته لسبب أو لآخر.
وفي القاهرة ظل أحمد محمد هاجي لاجئاً بعشرة جنيهات ..لولا أننا تنبهنا وهذا أستاذنا المعلمي يعرف ذلك، فكنا نحن المغتربين نرسل في كل شهر لخمسة أفراد مبلغاً إضافياً، عشرة جنيهات لكل واحد منهم إلى جانب عشرة الجنيهات التي كانوا يحصلون عليها من مصر ورعى الله مصر عبدالناصر.
ومنهم أيضاً كان العميد محمد علي الأكوع الذي قاسى الأمرين في تلك السنوات من 1955م حتى قيام الثورة، وتجلد تجلداً كبيراً هو وغيره من الشرفاء..عشرة جنيهات ماذا تصنع لهم؟
هذا أحمد محمد هاجي الأديب والمناضل..تزوج في مصر من مصرية وعندما قامت الثورة المباركة عاد إلى اليمن، لينعم بالأمن والاستقرار فظل يتأرجح من وظيفة إلى أخرى حتى تعين وكيلاً لوزارة الإعلام وكان مبرزاً ومثقفاً وكل الأخوة يعرفونه، ولكن أين هو الآن؟
لست أدري..ربما إنه يتسكع في شوارع الحديدة، أو ربما في شوارع صنعاء، أو يقبع في منزل متواضع أو كوخ..لست أدري!
أيها البطل..تحياتي لك، وتحياتي لكل المناضلين اليمنيين أرجو أن يتنبه لك الشرفاء والذين قاسوا وعانوا الأمرين في الماضي.
وأخيراً بلغني أنه يعمل برئاسة الوزراء، وهو محدودب الظهر، يعاني مايعاني.
هامش:
(ü) راجع الهامش في ص204، أو يرجع من يريد أن يفهم «الخطاط» إلى كتاب «الأنة الأولى» للأستاذ أحمد محمد نعمان بتعليق الأستاذ عبدالودود سيف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.