أصبحت الحوادث المرورية تشكل وبشكل كبير هاجساً وقلقاً لدى كافة أفراد المجتمع، لما تستنزفه من الموارد المادية والطاقات البشرية، واستهدافها أهم مقومات الحياة في المجتمعات وهو "العنصر البشري"، إضافة إلى ما تخلفه من المشاكل الاجتماعية والنفسية وخسائر مادية ضخمة، باعتبارها الوباء الأسرع فتكاً بالأرواح والممتلكات. والواقع الحقيقي يبدو جلياً لما تعكسه الأرقام المهولة بأعداد الحوادث المرورية في اليمن وضحاياها الذين يقضون جراءها، أو المصابين بعاهات وإصابات بليغة أو خفيفة، ومستديمة كانت أو مؤقتة. إحصائيات مرعبة ففي أحدث مأساة مرورية لقي نحو 58 شخصاً مصرعهم وأصيب 413 آخرين بينهم نساء وأطفال بإصابات مختلفة منهم 180 شخصاً إصاباتهم بليغة، وذلك في 203 حوادث مرورية شهدتها عدد من المحافظات اليمنية قبيل وبعيد عيد الأضحى المبارك، خلال الفترة 15- 20 ديسمبر المنصرم. وبحسب تقرير رسمي صادر عن الإدارة العامة للمرور فقد بلغت الخسائر المادية الناتجة عن هذه الحوادث ب52 مليوناً و780 ألف ريال. وأرجع التقرير أبرز أسباب تلك الحوادث إلى الإهمال والسرعة الزائدة، وعكس الخطوط والتجاوزات الخطيرة، بالإضافة إلى أسباب فنية أخرى تعرضت لها المركبات المتسببة في الحوادث. وتواصلاً مع ما تكشفه أرقام الإحصائيات المرورية، فقد بلغ عدد ضحايا الحوادث المرورية خلال الخمس السنوات الماضية في مختلف محافظات الجمهورية 86 ألف شخص جراء 59 ألف حادث مروري بينهم نحو 12 ألف حالة وفاة، فيما كانت الإصابات البليغة 33 ألف حالة والخفيفة 41 ألفاً من الرجال والنساء والأطفال. وأوضح إحصائية صادرة عن إدارة المرور حصلت "الجمهورية" على نسخه منه، أن حجم الأضرار المادية الناجمة عن تلك الحوادث بلغت 11 ملياراً و328 مليون ريال. وأشار التقرير إلى ارتفاع الحوادث المرورية من 10523 ألفاً في العام 2002م لتصل إلى 13 ألف حادث مروري نهاية العام الماضي 2007م، كما زاد عدد الوفيات خلال ذات الفترة من 2101 بداية الفترة ليسجل نحو 2711 نهاية العام الماضي، وارتفعت الإصابات البليغة جراء الحوادث المرورية من 5609 إلى 7969 إصابة. وبالنسبة لعدد المخالفات المرورية، فقد سجلت عند 2002م 60 ألف مخالفة، ثم انخفضت عام 2003م إلى أدنى مستوى لها بعدد 45 ألفاً، وعاودت الارتفاع خلال الأعوام اللاحقة ليبلغ عددها نهاية العام الماضي 580 ألف مخالفة، وبلغ إجمالي المخالفات خلال الخمس السنوات الماضية مليوناً و776 ألف مخالفة. بالمقابل تشير إحصائيات مستشفى الثورة العام بصنعاء أن نحو 70 بالمائة من الراقدين بالمستشفى هم ضحايا إصابات مختلفة جراء حوادث مرورية، فيما حجم الكارثة يتضاعف في ظل عدم الالتزام بقواعد المرور لا سيما وأن الكثير منها بسبب السرعة الزائدة أو عدم وضع حزام الأمان حسب أطباء طوارئ المستشفى. الجهات الرسمية المعنية الجهات الرسمية المعنية ممثلة بوزارة الداخلية وإدارات المرور التابعة لها، تعتبر كوارث حوادث السير من أكثر الظواهر الخطيرة في المجتمع ذات الآثار الكارثية اقتصادياً واجتماعياً وصحياً. وهنا يتحدث العميد عبدالله شبيل مدير عام مرور أمانة العاصمة بالقول: السلامة المرورية عنوان كبير وتسعى جميع دول العالم لتحقيقه، ونحن في اليمن نعاني من عدم وجود جهة معينة تسعى لتحقيق السلامة المرورية لأفراد المجتمع، وهناك في كثير من دول العالم جمعيات خاصة تسعى إلى الرقي بالحركة المرورية وتوفير السلامة المرورية من خلال دراسات علمية وجهود كبيرة يتم بذلها في سبيل تحقيق ذلك ونحن نفتقر إلى الجهد الشعبي الذي يفترض أن يساعد الجهد الرسمي في سبيل تحقيق السلامة المرورية.. مشيراً إلى أن الجهود حالياً مبعثرة هنا وهناك لتوفير السلامة المرورية ونعاني من عدم الاهتمام من قبل أفراد المجتمع المدني في هذا المجال، كما أننا نفتقر إلى الدراسات العلمية في هذا المجال. ويضيف العميد شبيل: إن مرور أمانة العاصمة يسعى جاهداً وبالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة لتوفير الحد الممكن من السلامة المرورية في أماكن إقامة المشاريع، وإن كنا نعاني من عدم تعاون الجهات العاملة في مجال البنية التحتية التي تتطلب إقفال الشوارع أو تحتاج إلى توفير لوحات إرشادية، ونحن نطالب بتوفير كل وسائل السلامة المروية في الشوارع التي تحصل فيها حفريات وكذلك لوحات إرشادية للخطوط البديلة ومصابيح إضاءة ليلية لأماكن العمل والحفريات. ويشير مدير مرور أمانة العاصمة إلى الإجراءات التي يتم اتخاذها للتقليل من حوادث السير خلال المناسبات الوطنية والدينية وفي مقدمتها أيام عيدي الأضحى والفطر المباركين، ومنها تعميم الإدارة العامة للمرور لمدراء الفروع بجميع محافظات الجمهورية بتكثيف الخدمات داخل المدن والأماكن المزدحمة ومداخل عواصم المحافظات وبالذات في الخطوط الطويلة، وتكون السيارات الدورية مستمرة لمراقبة السرعة القانونية والمتجاوزين وضبط المخالفين وتطبيق القانون على أي مخالف وبالذات الحمولة الزائدة مع السرعة الزائدة. يذكر أن الإدارة العامة للمرور كانت قد طالبت في وقت سابق بتضمين عدم وضع حزام الأمان في السيارات ضمن المخالفات المرورية، ورفعت بذلك مذكرة إلى وزارة الداخلية للرفع بها إلى رئاسة الوزراء لإصدار توجيهاته بهذا الخصوص. خبراء ودراسات تحليلية وعلى الرغم من الأرقام المتصاعدة للحوادث المرورية، فإن مراقبين يؤكدون أهمية تضافر جهود الجهات الحكومية والشعبية والمنظمات المدنية إزاء هذه الوباء الذي يفتك باليمنيين، ويحصد عشرات الآلاف منهم سنوياً، بين قتلى ومعاقين وأرامل وأيتام ومسجونين معسرين، ومليارات الريالات من الخسائر المادية. المهندس نعمان صالح عائض، مصمم ومنفذ عدد من الجسور التي تنفذها المؤسسة العامة للطرق والجسور يقول: في أغلب الأحيان لا يمكن اعتبار الحوادث المرورية بأنها ناجمة عن مشكلة فنية، كما يروج لها البعض باستمرار، ومن الخطأ الاعتقاد بأنه يمكن حل مشاكل حوادث الطرق بواسطة حل هندسي، عبر إقامة جسر أو نفق هنا أو هناك.. ولكن المسألة هنا تتمثل في الشعور بالمسؤولية الوطنية بأهمية الانضباط كأجدى وسيلة للتقدم والرقي، وهذا الانضباط يقوم على أساس القناعة الذاتية والالتزام الطوعي. ويضيف: نحن بحاجة إلى الانضباط المروري في المجتمع وذلك حرصاً على سلامة المواطنين، والتوعية المرورية للجماهير أساس السلامة المرورية، كما أن العقوبة ليست السبيل الوحيد لخلق مجتمع جديد وإنما الأساس في عملية النهوض هو شعور كل فرد بالمسؤولية الكبيرة إزاء حياته وحياة الآخرين الذين يرافقونه في سفره أو المارة. شرطي المرور الملازم محمود عيضة وصف الحوادث المرورية بالوباء الأول في اليمن والذي يجب أن تشحذ له الجهود من أجل مواجهته بإجراءات سلامة تحقق الغاية وتحد من الأخطار والكوارث المترتبة على تلك الحوادث والتي تتعدى الشخص الضحية في الحادثة الى أسرته وأطفاله. وبحسب ما يراه رجل المرور عيضة: فإن تجاهل السائق وعدم التزامه بقواعد السلامة المرورية، وعدم توفر شروط المتانة والأمان في المركبة وإهمال الفحص المكنيكي المستمر لها، إضافة إلى قلة الوعي لدى البعض وجهلهم لقوانين المرور، وعدم اهتمام سائقي السيارات بالحمولة القانونية، ناهيك عن مدى استيعابهم لشبكة الطرق التي تفرضها في أغلب الأحيان الطبيعة الجغرافية للبلاد اليمنية ممثلة بالتضاريس والسهول والمرتفعات وصولاً إلى عدم التزام السائق بالإرشادات المرورية سواء من رجل المرور أو من اللوحات المرورية.. جميعها تعد في مقدمة الأسباب الرئيسية لوقوع الحوادث المرورية المختلفة. هذا وكانت دراسة تحليلية للحوادث المرورية المسجلة خلال العام 2006م قد كشفت أن السرعة الزائدة وإهمال السائقين لقواعد المرور كانت السبب الرئيسي في وقوع معظم الحوادث المرورية وبنسبة 60 في المائة. وبينت الدراسة أن قيادة صغار السن والقيادة بدون رخصة للسيارات والمركبات شكلت سبباً في وقوع ما نسبته 14 في المائة من الحوادث المرورية. وبناءً لمنظمة الصحة العالمية، تحصد الحوادث المرورية أرواح أكثر من مليون شخص سنوياً، وتصيب ثمانية وثلاثين مليون شخص (خمسة ملايين منهم إصاباتهم خطيرة). جهود حكومية من جهتها تسعى الجهات الحكومية المعنية للسيطرة على هذه المشكلة التي تؤرق المجتمع بكل فئاته المجتمعية ومستوياته العمرية على حد سواء، وهو ما تؤكده في الوقت الراهن من إعداد جملة من الإجراءات والسياسات الجديدة لاستثمار مليارات الدولارات لزيادة نظام الطاقة الاستيعابية للطرق من خلال استحداث شبكة طرق جديدة تربط عدداً من المحافظات بعضها ببعض، إضافة إلى إنشاء الجسور والكباري، وزيادة عدد المعابر على طول المحافظات اليمنية. جدير بالذكر أن أمانة العاصمة شهدت في وقت سابق تنفيذ عدد من الأنفاق الرئيسية الهامة في عدد من مواضع الكثافة والازدحام المروري، أبرزها تقاطع جولة 45 بشارع تعز وتقاطع جولة النصر بشارع المطار وتقاطع شارع الزبيري بشارع كلية الشرطة، فيما يجرى حالياً تنفيذ جسر ونفق بتقاطع شارع النصر مع شارع عمران، إضافة إلى تشييد عدد من الجسور التي تخللت مشروع السائلة. حكايات ومأسٍ مُرة كثيرون هم أولئك الذين يحتفظون في ذاكرتهم بصور مأساوية عن حوادث مرورية رأوها في حياتهم أثناء أسفارهم، أو ربما عاشوها واكتووا بنيران ما خلفته من عاهات جسدية، وتشوهات نفسية، أو فقدوا عزيزاً عليهم نتيجة حادث مروري ما. وهنا يحدثنا عبدالجليل أحمد وهاس الأب الذي فقد طفله الصغير في اليوم الخامس من أيامه بعامه الدراسي بالصف الأول الابتدائي.. هي مأساة مرارتها شديدة وحرقة قلب ومشاعر إنسانية جما كشفت عنها تنهدات الأب عبدالجليل ونحوب صوته، ما جعلنا نكتفي بموجز قصير لحكاية فقدانه ولده (بشير)، أكد خلالها وبكل إصرار أن السرعة الزائدة لسيارة "هيلوكس" يقودها شاب مراهق طائش حسب تعبيره كانت السبب الرئيسي وراء فقدانه ل( بشير). أما عمر صالح العديني فحكاية من نوع آخر، لكنها قاسية وصعبة بكل المقاييس ليس إلا لأنه فقد شقيقتاه ووالده فيما أصيب هو وأمه بإصابات، إصابة أمه بليغة أقعدتها الفراش. وحسب الشاب عمر فإنه وفي ثالث أيام عيد الأضحى المبارك المنصرم وأثناء عودته وأسرته إلى صنعاء عقب أداء واجب المعايدة والسلام على الأهل والأصدقاء في بلاده بإحدى مديريات محافظة إب، ونتيجة خلل فني بالسيارة التي تقلهم، انحرفت عن خط السير الأمر الذي أدى إلى انقلابها عشرات المرات ليفيق بعدها بأيام بإحدى مستشفيات صنعاء بفقدان أب وشقيقتين وأم قعيدة الفراش، وإصابات بليغة غير معيقة لا تزال آثارها على جسده ومنها إصبع يد مبتورة. والقصص الواقعية عن قضايا ذات صلة رئيسية بحوادث المرور قد ملأت ملفات وزارتي الداخلية والعدل، لتحكي وجها آخر لقصص وحكايات بآلام وآهات يئن بها ضحايا أبرياء تعج بهم المستشفيات. إذن هو شلال هادر من الدماء تنزفه البلاد يومياً من خلال معركة تتجدد كل صباح ومساء تحمل اسم "حادث مروري" فهل من سبيل..؟ رافقتكم السلامة .