السعودية تكشف مدى تضررها من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    ريمة سَّكاب اليمن !    الأحلاف القبلية في محافظة شبوة    الشيخ هاني بن بريك يعدد عشرة أخطاء قاتلة لتنظيم إخوان المسلمين    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    حزب الرابطة أول من دعا إلى جنوب عربي فيدرالي عام 1956 (بيان)    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    باريس سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    كيف حافظ الحوثيون على نفوذهم؟..كاتب صحفي يجيب    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبد الواسع الاصبحي يتذكر
مذكرات
نشر في الجمهورية يوم 15 - 01 - 2008

«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الاطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغريبتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. نداء.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
لطف القدر..
بعد أن تسلمت أوراق اعتمادي، توجهت إلى إثيوبيا، وكان في استقبالي هناك سفيرنا في أديس أبابا - رعاه الله - حسين الغفاري.. كما كان بجانبه سفير اليمن الديمقراطي - سابقاً - أحمد سالم عبيد، ثم رحلنا إلى كينيا، وقد جاءت برقية من نيروبي يُطلب فيها منا أن نتأخر في أديس أبابا لأن الرئيس «دانيال أراب ماو» غير موجود، إلا أن البرقية جاءت بعد مغادرة الطائرة مطار أديس أبابا إلى نيروبي، وقبل وصولنا وقعت لي حادثة في المطار.. هي لم تكن الأولى فقد سبقتها حادثة أخرى، وتلت هذه ثالثة، ورابعة.
كيف سلمت من تلك الحوادث؟ كيف عشت؟ كيف أتحدث الآن بل كيف أكتب؟
قصص أقرب إلى الخيال.. سأوريها لكم، ولو من باب التسلية.
القصة الأولى:
حدثت هذه القصة، وأنا في السادسة من عمري، وكل من يعرفني أو يراني يرى تلك الشجَّة في جبيني والتي عرفت بها، وهي قريبة من العين، هذه الشجة لها قصة، والذين يعرفونني كانوا يسمونني «المبعوث» أي بعثت من الموت.. وهذا فعلاً قد حدث.
كان عمري آنذاك قرابة ست سنوات، وكانت والدتي رحمها الله تستغرب، وأنا أقص عليها ماحدث لي بالتفصيل، بعد أن كبرت وصرت في الخامسة عشرة وفي العشرين، إذْ أنها لم تصدق تلك الحادثة بفاصيلها.
كنا نقعد في «مشراح» - غرفة صغيرة بعيدة عن السكن تطل على الأرض الزراعية، تستخدم لمراقبة الحيوانات التي تهاجم الزرع - ذي طابق ونصف حاولت النزول منه، فمسني «دفعني» شخص كان معي في هذا المشراح «المحراس» يدعى عبده بن سيف حميد الأسودي - وربما لايزال يعيش الآن في تونس - المهم أنني سقطت على أم رأسي، فانتشلني الأطفال الذين تجمعوا حولي، وظلوا يمسكون بصدغي، باعتبار أني أرعف «أنزف من الأنف» حتى نزف دمي، فارتميت على الأرض، وكان ذلك قبيل المغرب بقليل - كما أتذكر - وياللقدر، ومنفعة القدر.. فقد جاء في تلك اللحظات شخص من الأصابح اسمه علي فارع علي الأصبحي سنه بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة.. فلما رآني في تلك الصورة، مرميّاً على الأرض، وكأنني خرقة بالية، رفعني وحملني على كتفيه لمسافة عشرين دقيقة تقريباً حتى أوصلني أسفل الحصن ثم نادى والدتي، فلما رأتني صاحت: «واولداه، وا ولداه» وأخذتني في حضنها، ولم أعد أعي أيّ شيء، إلا بعد حوالي ثلاثة أشهر ولم أعد أتذكر أي شيء، إلا أنهم عالجوني، بمادة تسمى «دهن البلسان» ولا أدري ماهو هذا العلاج، وكل من يعرف هذا يدري.
وأتذكر أنني كنت أفتح عيني بيدي لأشاهد الذين يسبحون في مياه البركة.
ولقد ألقي القبض على الفتى الذي تسبب في سقوطي، ووالده، وأرشوا لي كما يقال - جاءوا بقاضٍ يسمى صالح الشوكاني ورأى الجرح السميك على جبيني، وحكم بنصف دية كأرش.. بيد أن والدتي رحمة الله عليها أبت، وقالت: أنا لايمكن أن آكل دم ابني؟.. الله يسامحه، ويجازيه.
وبعد حوالي عشرين عاماً من وقوع هذه الحادثة رآني طبيب فرنسي، وأنا في باريس، ورأى تلك الشجة فقال لي:
«لو لم تكن طفلاً في تلك السن عندما وقعت وأصبت.. لانتهيت».. وقد التأم الجرح، ولم يبقَ من أثر إلا تلك الشجة، هذه القصة الأولى.
القصة الثانية:
كنت في السابعة من عمري، وكانت أمي مطلقةً، وكنا في منطقة الحضارم - آل السقاف - حدث أن اختلفت والدتي مع زوجة أخيها.. فتركنا المنزل، وقعدنا في «مشراح» غرفة صغيرة بعيدة عن السكن، تطل على الأرض الزراعية، تستخدم لمراقبة الحيوانات التي تهاجم الزرع - تصوروا.. محمد عبدالواسع حميد ابن الأقيال.. يقعد في «مشراح - أي والله - ومن هناك رأيت جماعة كبيرة من الناس، والأطفال، يحملون الرايات «الأعلام» وأصوات الطبول، والمزامير، وهم يسيرون في موكب جماعي كبير على قرابة ربع ساعة، فذهبت إليهم، ورأيت أناساً يتمنطقون بالسيوف والجنابي، والخناجر، وهم يرددون «الله أكبر، ياحي، ياحي.... إلخ».
فسألت: إلى أين ذاهبون؟ فقيل لي أن الجميع ذاهبون لزيارة أحد الأولياء يدعى «شهاب الدين» في منطقة «المصعد» قرب طور الباحة.
حيث الماشي المسرع يلزمه قرابة ثلاث ساعات على الأقدام، أما الطلوع المسرع فهو مايقرب من أربع ساعات.
فمشيت معهم، وكانت والدتي قد تعودت غيابي أي أني كنت أخرج في الصباح وأعود ظهراً، وإن لم أعد ظهراً أعود مغرباً، فمشيت معهم حتى وصلنا إلى مكان ذلك الولي، فوجدنا قبراً، وعليه قبة للسيد «شهاب الدين»، وهو جد السقافين في المصعد، وفي الحضارم، وأمي تنتسب إليهم، كنت بدون فطور، فجاء وقت الغداء، وتوجه كل واحد من المجتمعين إلى مكان، رأيتهم يشترون الحلوى، والتمور، لكني لا أملك شيئاً من النقود، ورأيت داراً يدخل الناس إليها جماعات، فدخلت معهم.. رأيتهم يمضغون القات، ويشربون المياه، فجلست واضعاً خدي على كفي، وكان رأسي يؤلمني بشدة، وكدت أصاب بالدوار.. غير أني رأيت القوم يخرجون من ذلك المنزل، فخرجت على أثرهم، وسرت وراءهم، فطلعوا نقيل «جبل» يسمى «نقيل شوحاط»، فمشيت قرابة نصف ساعة، ولم استطع أن أواصل السير، فتهالكت على صخرة بجانب الطريق.. ارتميت متعباً، جائعاً، ظامئاً.. لا أملك شيئاً، وكان المارة، والمسافرون العائدون يمرون بجانبي معتقدين بأني من تلك القرى القريبة المتناثرة بين تلك التلال ماعدا شخص واحد رآني، وأنا مرتمٍ فوق تلك الصخرة، فقال لي وبصوت أجش: ياولد.. ياطفل.. اذهب إلى بيتك، تكاد الشمس أن تغيب.. اذهب سيأتي الوحوش ليأكلوك، أو الأفاعي.
فأشرت إليه بأنني لست من هذه المنطقة.
فقال لي: من أين أنت؟
فقلت: أنا.. ولم أستطع أن أكمل لقد خانتني لساني وأنا هالك من شدة الجوع والعطش، والتعب، ففهم وأخذ بيدي وقال: هيا معي.
فمشيت قليلاً ولم استطع مواصلة السير من شدة التعب فارتميت على الأرض كخرقة بالية.
وياللإنسانية، وياللمروءة والشهامة لهذا الإنسان، فقد حملني فوق كتفيه، وظل يسير بي مدة ثلاث ساعات متواصلة، حتى وصلنا إلى قرية تسمى «قرية الأبطال» - عرفت فيما بعد أنها قرية عبده بن سيف المقطري - فقرع أحد الأبواب وقد رآني متعباً، متهالكاً، لا استطيع حتى مجرد الحديث، فخرجت عجوز من ذلك المنزل لايتجاوز عمرها الستين - عرفتها والدتي فيما بعد - فقال لها: أنقذي هذا الطفل، إنه يكاد يموت جوعاً وعطشاً أنقذيه بماء.. وبدلاً من أن تأتي هذه العجوز الرؤوم، الرحيم بماء، جاءت بإناء فيه حليب مشتى «حقين» مع فطيرة من الخبز تكفي لاثنين، فبدأت أشرب من ذلك الحليب، وكانت يدها الحانية تمسك بي، وهي تقول: على مهلك، على رسلك خوفاً عليّ من أن أدوخ، أي أصاب بالدوار.
فأكلت تلك الفطيرة بكاملها، وشربت «الحقين»، وارتميت دائخاً والعرق يتصبب من جسمي، وكانت تقول: مسكين هذا اليتيم.. مسكين هذا الطفل.. أين والده؟ أين أمه؟ ولم أرد عليها، ولم يشأ ذلك الرجل الطيب الذي حملني كل تلك المسافة الطويلة الشاقة أن يجيب، ولم يسألني هو من قبل، ولا من بعد، فلو سألني لأجبت، وبعد أن ارتحت وعاد إليّ نشاطي، نهضنا لمواصلة السير، وودعنا تلك العجوز الطيبة، شاكرين لها صنيعها ومعروفها، وهنا سألني ذلك الرجل الطيب قائلاً: هل تستطيع أن تمشي الآن؟ فقلت له: نعم، وبصوت مرتفع ونشط.. نعم أنا الآن استطيع أن أمشي.
فمشينا قرابة نصف ساعة، حتى وصلنا إلى دار - عرفت فيما بعد أن اسمه دار السقاية، يمتلكه السيد عبدالهادي بن سعيد عبده السقاف وهو مقاول كبير ومشهور في أديس أبابا - فوقف هناك وقال: أتعرف منزلك؟
فقلت: نعم إنه هناك، وأشرت له إلى مكان المشراح «المحراس»، هو لم يسألني ابن من أكون.. فلو سألني ابن من أنت لقلت له ابن عبدالواسع حميد، فسيعرفني، ولو قال لي إنه هو يدعى «فلان ابن فلان» لعرفته، ولنقلت ذلك إلى والدتي حتى تتعرف إليه، ولكن مع الأسف، لم يحدث كل هذا، ولم نستطع، أن نتعرف إليه، ولانعرف من هو، ومن أي قرية هو؟ إلا أنه كان قد أشار لي بسبابته إلى جبل بعيد، وكانت الشمس قد غربت فقال لي: أنا من هناك، ولو لم أكن بعيداً لأوصلتك إلى منزلك.
كان يشير إلى منطقة «صدان العالي»، وهو مايسمى بالزكيرة والمساحين، وقرى أخرى كثيرة - ومن خلال الشفق استطعت أن أعرف مكانه في الجبل فقلت له: شكراً لك.. أستطيع الآن أن أصل إلى منزلي بسهولة، فاحتضنني دامعاً، وانصرف.
فواصلت سيري، وإذا بي أسمع صراخاً وعويلاً من والدتي في الوادي، وهي تبحث عني، وتنادي: يامحمد.. يامحمد.. من رأى محمد....إلخ.
فأصغت السمع، وإذا بي أسمع صوت أمي.
فقلت: أنا هنا.. أنا هنا ياوالدتي، فألتقيت بها في الوادي وارتميت بين أحضانها، وبكيت لبكائها.. وكان لقاءً حزيناً، وفي اليوم الثاني ألّحت علي بالسؤال عن ذلك الرجل الطيب الذي حملني، وأوصلني.. وكنت أوميء إلى ذلك المكان البعيد الذي أشار إليه، فقالت: «هذا ياولدي يسمى صدان العالي»، هناك أخوالي، المقارمة، الزكيرة، المساحين....إلخ وظللت بعد ذلك مدة طويلة مايقرب من خمسة وعشرين عاماً أسأل عن ذلك الرجل الطيب، ولم أجده.
القصة الثالثة:
عندما توجهت من أديس أبابا إلى كينيا لتقديم أوراق اعتمادي كسفير غير مقيم.. وقد سبق أن ذكرت أنهم حاولوا تأخيري بسبب عدم وجود الرئيس، ولكن جاءت البرقية متأخرة، بعد أن أقْلعت الطائرة.
وفي نيروبي كانت السماء ممطرة - وكما قيل لي أن البلاد قد شهدت فترة جفاف استمر قرابة ستة أشهر - ولما هبطت الطائرة نزلت من سلم الطائرة، وكنت تقريباً رابع أو خامس شخص يخرج من باب الطائرة، وكان يسير ورائي الوزير المفوض صديقي «أحمد كلز» ولما كانت السماء ممطرة فقد خفت على البلدة أن تتبلل، وكان هناك ماءً على أرض المطار مسافة ربع متر.. متجمع في شكل حوض صغير ففكرت أن أنط نطة واسعة من سلم الطائرة إلى قرب الباص الذي كان يقف بمسافة ليست بعيدة.. فقفزت، ولم أشعر إلا وأنا أضرب ناصيتي بباب الباص، ولو لم يكن هناك ذلك الحزام من الربل «الكاوتش» على الباب لإنقسم رأسي، فارتددت إلى الخلف من شدة الهرولة والصدمة - وكانت في يدي اليسرى حقيبتي الدبلوماسية - إلى سلم الطائرة ومن ثم إلى الأرض، ولم أشعر بنفس إلا وأنا محمول بين ثلاثة أشخاص وفتاة وانقلبت عيناي، ولم أعد أرى أي شيء.
مشى بنا الباص قرابة ربع ساعة إلى المطار، وهناك اسعفوني وإذا بي انتفض، وفي رأسي صداع وألم شديد، ولم أصب إلا بجرح في مرفقي الأيمن والأيسر، وجرح في ركبتي اليسرى ولاتزال آثارها باقية حتى الآن.
توجهنا من المطار إلى الفندق «أنتركونتننتال» ومعي صاحبي «أحمد كلز» الشيخ حالياً في رداع ووزير مفوض في الخارجية ونزلنا هناك.
وكان الإخوة وفي مقدمتهم سفير اليمن في الجامعة العربية آنذاك وسفيرنا الآن في باكستان عبدالملك اسماعيل رعاه الله - الذي كان خدوماً جداً، ويعود إليه الفضل في نجاحي في كينيا - فالتقرير الذي كتبته إلى وزارة الخارجية، والذي لايزال مادة خصبة يعود الفضل فيه لعبد الملك إسماعيل، وإن أنسى لا أنسى ذلك الفاضل الشهم القائم بالأعمال للشطر الجنوبي سابقاً «الحاج صالح باقيس» الذي يحترمه التجار اليمنيون جميعاً وخاصة «الحضارمة وقد انضمَّ بعد أحداث 13 يناير 1986م إلى الرئيس علي ناصر محمد ».
القصة الرابعة:
حدثت في عام 1978م، عندما ترافقنا أنا وولدي الدكتور فؤاد عبدالله ثابت الأصبحي - هو دكتور طبيب، وربما كنت قد ساهمت في تثقيفه أو إرساله إلى القاهرة في عام 1959م.. ثم ذهب إلى تشيكوسلوفاكيا، وتخرج طبيباً وتزوج هناك.
فقد جاءني ذات يوم من عام 1987م، إلى جيبوتي كضيف، وظلّ مايقرب من أسبوع، حيث كنت ارتاح له كثيراً، وكان هناك المرحوم علي بانافع، وعوض علي خليفي قال لي: ياعم محمد.. أنت قد ذهبت إلى روسيا، وإلى مناطق أخرى كثيرة من العالم.. لماذا لاتزور تشيكوسلوفاكيا؟ منها زيارة، ومنها علاج فأنت تعاني من آلام الركبتين؟
وقد كنت أعاني كثيراً من آلام شديدة في ركبتي اليسرى، وقد شفيت ولله الحمد في «بون» فيما بعد.وافقت ،لاسيما وأن كلينا كان لدينا تأشيرة تشيكوسلوفاكية،وألمانية .فلما وصلنا إلى مطار «فرانكفورت» ،وكان يود أن نمر هناك لكي يشتري سيارة،ثم يبيعها لي إذا أردتها«مرسيدس نصف عمر» يسير بها في ألمانيا،وفي تشيكوسلوفاكيا،وإن أردتها،وإلا سوف ترسل إليه إلى اليمن.هكذا كانت الفكرة،ولكنا اكتشفنا ونحن في المطار أن ورقتين قد نزعتا من جوازه وفيها«الفيزا» أو التأشيرة،وكان الضباط الألمان في المطار يدخلون الجواز إلى الكمبيوتر..فتكون الإجابة:أن لديه تأشيرة صحية ولكن هذا الجواز يعتبر غير صالح لأنه تنقصه ورقتان«أربع صفحات».
ولما كانت حقائبنا قد نزلت من الطائرة اليمنية في مطار «فرانكفورت» فلم يسمح له بالدخول إلى مكان إعادة العفش...لأن ليس لديه أي تأشيرة دخول.
وكنت أنا متعباً كثيراً، ومتهالكاً..فلم أنم يومها ولمدة أربع وعشرين ساعة. ومع ذلك ذهبت مع أحد الجنود «صف ضابط» من الجمارك..إلى الطابق الأسفل الثالث أرضي فحصلنا على الحقائب ،وأخذنا عربية «جاري» وطلعنا في السلم الحديدي الكهربائي..ولما كنت متعباً،ومجهداً ..فقد وضعت يدي في مؤخرة «الجاري» أدفعه إلى الأمام،ولما وصلنا إلى آخر السلم..لصقت عجلتا العربية «الجاري» في السلم..فعاد بكل ثقله إلى صدري،فارتميت مندفعاً على قفاي إلى الخلف..ومن حسن الحظ أن كان هناك الركاب من خلفي الذين عملوا على صدي ،وحموني من الوقوع على الأرض..فعدت مسحوباً بالجاري مرة أخرى،ومن ورائي الركاب يدفعونني إلى الأمام وأنا متمسك بالجاري تماماً.
جاء أحد الجنود،فأخذ الجاري،والحقائب وذهب إلى الجمارك بيد أني ارتميت أرضاً متهالكاً،وإذا بالدماء تنزف من مرفقي الأيمن،والأيسر، وإذا بي أرى الجوارب قد تمزقت، وهناك حروق فوق الكعب الأيسر من الكهرباء.
أحد الركاب المسافرين ،الذين شهدوا الحادث من أوله وهو فلسطيني الجنسية ترافقه زوجته،وابنته كان قد عاش في صنعاء كما حدثني فيما بعد قال لي: شو ها اللي صار؟
حمداً لله على سلامتك..كيف عشت بعد كل هذا؟! ألم يحصل لك أي كسور..؟وأنا والله،وحتى هذه اللحظة لا أدري كيف حدث هذا؟ولا كيف عشت وسلمت؟ وقد قرأت فيما قرأت إن هذا مايسمى بالوقاية الطبيعية أو «الإلهية».
كانت هذه هي الحادثة الرابعة التي أنجو فيها وبأعجوبة من بين أنياب الموت المحقق.
هذه أقاصيص يتسلى بها القارئ..لا لكي استعرض عضلاتي أو كما يقال ،يريد أن يتحدث عن نفسه كثيراً..ماذا صنع،وماذا حدث له!!فلو قصصت ما حدث لي لملأت كتباً وأسفاراً..ففي جعبتي الكثير، والكثير جداً.
عودة إلى نيروبي
عندما وصلت إلى نيروبي..أجريت لي مراسيم الاستقبال الرسمية ، بعدها توجهت إلى الفندق، وفي المساء دعاني الأخ العزيز عبدالملك إسماعيل سفيرنا في باكستان حالياً،وكان سفيراً في الجامعة العربية إلى منزل الشيخ الكبير، شيخ المشائخ كما يحلو لي أن أسميه «سالم بالعلي الحضرمي».
وقد اتصل بي قبل ذلك المرحوم الصديق الطيب الذكي جداً جداً،الوطني جداً «أحمد محمد الشجني» الذي كان هناك سفيراً غير مقيم.
فقال لي: يجب أن تلتقي بالشيخ سالم بالعلي..فقد كان من أصدقاء «جيمو كنياتا» أول رئيس لجمهورية كينيا.وكان عضواً في البرلمان الكيني باعتباره كينياً،كغيره من اليمنيين..ثم تعين نائباً لوزير المالية ثم استقال،وتفرغ لإدارة أعماله التجارية..فهو غني جداً من أعضاء البنك البريطاني للشرق الأوسط، ومن أعضاء بنك آخر للتأمين لكنه بأخلاقه الرائعة ،ودماثة خلقه..يبدو متواضعاً، وكأنه لايملك شيئاً «تراه إذا ما جئته متهللاً..».
فظللنا هناك في منزله،وبعد تناول طعام الغداء،توجهنا للمقيل وتناول القات الكيني،وكنت قد جئت بقات من أديس أبابا.وفي اليوم التالي استضافني الكثير من اليمنيين.كانت هناك صعوبة كبيرة في تقديم أوراق الاعتماد..فقد تقدم قبلي أربعة من السفراء،ولم يستطيعوا أن يقدموا أوراق اعتمادهم.
ظللت ورفيقي «أحمد كلز» في نيروبي ،وأحياناً نمر على مناطق أخرى ،وقد احتفل بنا المرحوم وابنه الملك غير المتوج «فيصل عبدالباري ناكوري» في منطقة كما أتذكر اسمها «ناكوري».
فاستضافنا ،واحتفى بنا احتفاءً كبيراً...حتى أنه خصص لنا طائرة لكي نذهب إلى أوغندا،بيد أن بعض الإخوة من السفراء العرب قد نصحونا بأن لانذهب في تلك الأيام،لأن هناك حوادث.. وفعلاً كانت هناك حوادث فلم نذهب.
يوجد الآن في وزارة الخارجية تقرير مفصل، كنت قد تكلمت عنه،ورغم أن صحفيين كثيرين، ولجان كثيرة ذهبت من وزارة الخارجية والمغتربين وغيرهم، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بما يساويه ماقدمته وما كتبته في ذلك التقرير. هذا جانب.وجانب آخر،هو أنني كنت ألقي شبه محاضرات تاريخية عن العرب، وعن الحضارم بالذات الذين ذهبوا إلى أندونيسيا وجنوب شرق آسيا،وهناك نشروا العلم، والإسلام بدون قتال..طبعاً هؤلاء قد كتب عنهم الكثير،وأسجل هنا كلمة فقط،وهي أن هؤلاء الحضارم الذين ذهبوا للتجارة قد أسلم على أيديهم كثير من شعوب جنوب شرق آسيا،ولا سيما أندونيسيا مايقارب 90%.
التصفية الجسدية
كيف قتل الشيخ الشهيد محمد علي عثمان؟
التصفية الجسدية تعني بالمفهوم السياسي التخلص بالقتل من الخصوم السياسيين أو المناوئين للحكم. وهي أسلوب لا إنساني ابتليت به الإنسانية في كل زمان ومكان،في مختلف الحضارات وفي كل الشعوب وعلى مدى العصور.
لقد تركت التصفية الجسدية بصماتها الدامية على تاريخنا العربي،فما زال خيط الاغتيالات السياسية يمتد ويمتد.. والشيخ الفاضل محمد علي عثمان واحداً من الذين ذهبوا ضحية الغدر..وقاتل الله السياسة فإنها تعمي وتصم.
كيف قتل الشيخ محمد علي عثمان عضو المجلس الجمهوري؟ ولماذا؟ سأختصر الحديث عن هذه المأساة وما تلاها من مآسي «الجبهة القومية في جنوب اليمن».
نظمت هذه الجبهة،وكان أغلب أعضائها في حزب رابطة أبناء الجنوب التي كان مقرها القاهرة،بعد رحيل السلطان السابق علي عبدالكريم فضل ومستشاره محمد علي الجفري ،ثم انفصل المرحوم قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف...الخ.فانضموا إلى «حركة القوميين العرب»،ومنذ عام 1963م و1964م حدث الاندماج بين الجبهة القومية وجبهة التحرير،ولم يوقّع على الاندماج سوى اثنين:علي أحمد السلامي وطه أحمد مقبل.
باختصار: حصل الاقتتال بين الجبهتين، وتسلمت الجبهة القومية الحكم من بريطانيا، وأقصيت جبهة التحرير..وحدثت أحداث جسام في الجنوب اليمني كتب عنها عدد كبير من الكتّاب العرب والأوروبيين في الشرق والغرب.
والطلائع اليمنية تعرف حق المعرفة وبالتأكيد أن الانقلاب الذي حدث لإزاحة الرئيس قحطان الشعبي ثم قتل الشهيد فيصل عبداللطيف بتلك المسرحية الملفقة...الخ. كان وراءها روسيا والموالون لها من اليمنيين وغيرهم ،فتسلم الحكم اليسار المتشدد وعلى رأسه المرحوم سالم ربيّع علي الذي كان حاكماً من وراء الستار أحياناً.
باختصار أيضاً:إن أي شخص معارض للحكم في عدن كانت تصدر بحقه إشارة إلى بعض المرتزقة لتصفيته جسدياً،فينفذ المرتزقة ذلك كما حدث في لبنان لعبدالعزيز الحروي والشعيبي ومحمد نعمان وأحمد الشامي الذي نجا بأعجوبة من موتٍ محقق.أما في الداخل،أي في شمال اليمن وجنوبه فإن المنفذين كانوا من اليمنيين الذين احترفوا الإجرام والقتل بالاشتراك مع المرتزقة والمخططين من غير اليمنيين.
إذاً ،كيف قتل الشيخ محمد علي عثمان،ثم تلاه في بيروت المرحوم عبدالعزيز الحروي؟والجريمتان مرتبطتان بعضهما ببعض.
أولاً : المدعو قائد سيف الشرعبي محترف قتل،فرّ إلى عدن، وكان غالباً ما يتسلل إلى التعزية وشرعب و...فيحدث الرعب وو..
وذات يوم وليلة جاء شخص مخبر يعمل في الجهاز بعدن إلى منزل الشيخ محمد علي عثمان،وقال له بالحرف الواحد: أنا سأدلكم على القتلة السفاحين بمجرد خروجهم من عدن حتى وصولهم تعز إلى منزل تعودوا أن يصلوا إليه ويختفوا فيه ولكني أريد نقوداً وذلك كديةٍ لي ولأولادي فيما لو حدث لي مكروه وعرفوا أنني دللت عليهم، وطلب مبلغ خمسين ألف ريال نصفها تدفع له مقدماً والنصف الثاني عندما يقبض على المجرمين.
في تلك الليلة استدعى الشيخ محمد علي عثمان الرجل الذي لايقول لا إطلاقاً: عبدالعزيز الحروي، وطلب منه أن يأتيه فوراً بمبلغ خمسة وعشرين ألف ريال، أي مايساوي حالياً خمسة آلاف دولار..وفعلاً سلمت للمخبر وبعد عشرة أيام جاء ذلك المخبر وكان صادقاً، فأخبر الشيخ محمد علي عثمان بأن فلاناً وشخصين سوف يصلون إلى تعز غداً مساءً إلى منزل علي قاسم في وادي المدام، وكان مدير الأمن في تعز آنذاك العقيد محسن اليوسفي والقائد درهم أبو لحوم ونائب مدير التموين المقدم ناجي الرويشان، ثم قائد الشرطة العسكرية، ربما أن اسمه صالح المطري..وعند وصولهما بلّغ المخبر الذي كان يقتفي أثرهما من عدن حتى تعز، بلغ الشيخ محمد علي عثمان الذي بلغ بدوره المسؤولين وعندما حاصروا منزل علي قاسم في وادي المدام إذا بعلي قاسم يخرج من منزله وهو يرتعد ويرتعش، وقد قال على ماأتذكر لمدير الأمن: إنهما اثنان داخل منزلي، اقتحموه بدون موافقتي، وهما غير مسلحين، ولكنهما يحملان قنابل..في هذه الأثناء خرجا فجأة ورميا قنبلتين إحداهما هجومية والثانية دفاعية، ولحسن الحظ لم تنفجر سوى قنبلة واحدة وهي الدفاعية، وإلا لكانت أودت بحياة الجميع بمافيهم مدير الأمن محسن اليوسفي وقد أصيب رب المنزل علي قاسم بشظية بمؤخرة رأسه، وجرح قائد الشرطة ومساعده، ولاذ المجرمان بالفرار
اعتقل صاحب المنزل، ثم اقتيد إلى المستشفى العسكري لعلاجه، ومع الأسف الشديد فقد ظل يعالج في المستشفى مع حارس واحد فقط، ويحملون إليه الأكل من خارج المستشفى مماسهل على زملائه أن يهددوه، ثم سرّبوا إليه حبّة علاج مغلفة وبداخلها سم زعاف، وأثناء التحقيق بدأ يستعيد نشاطه، فهدد وتوعد لكنه بلحظة واحدة ارتعش ولفظ أنفاسه الأخيرة، وعندما فتشوا منزله وجدوا فيه أشياء مذهلة جداً منها خريطة وصفية تحدد الأماكن التي توجد فيها المتفجرات والألغام، منها على سبيل المثال:« 350 لغماً» في المسراخ، و«180 لغماً» في المواسط «الحجرية قدس» والذي تولى الحملة للاستيلاء عليها على ماأتذكر هو علي قناف زهرة..ومن جملة مااكتشف في المنزل دفاتر بأسماء المتبرعين ورسائل تؤكد أن أعضاء حركة القوميين كان لهم مخطط رهيب جداً لاسيما في لواء تعز، وعندما عرف القادة أن السبب في كشف مخططهم هو الشيخ محمد علي عثمان وأن الممول هو عبدالعزيز الحروي فقد أمروا بتصفية الشهيد محمد علي عثمان على الصورة التي عرفها الجميع
اغتيال الشيخ الفاضل عبدالعزيز الحروي
بعد أن تمت تصفية الشهيد محمد علي عثمان على الصورة البشعة التي عرفها الجميع..والجناة من اليمنيين طبعاً، ارتكبوا جريمتهم وفروا إلى عدن يتقدمهم قائد سيف الإرهابي وصاحب قنبلتي وادي المدام..وظل بعض الجناة أحياء حتى يومنا هذا!
إن عبدالعزيز الحروي رئيس الغرفة التجارية في تعز هو إنسان يعجز أي كاتب مهما أوتي من البيان أن يصف كرمه وأخلاقه ووجهه المبتسم دائماً..لقد كان يكره الشر، وينظر إلى البشر جميعاً على أنهم أناس طيبون.. ولكن بإشارة من عدن نفذّ أحد المرتزقة جريمة قتله في بيروت، تماماً كما قتلوا محمد الشعيبي ومحمد نعمان وكما حاولوا اغتيال الأديب أحمد محمد الشامي، ومن ثم الذين ذكرتهم في بريطانيا.
لماذا قتلوا عبدالعزيز الحروي بدون جريرة أو ذنب..لماذا؟ لأنه دفع تلك النقود التي طلبها منه الشيخ محمد علي عثمان، هكذا أودوا بحياة هذا الإنسان، وأستطيع أن أقول إنه على الرغم من مضي واحدٍ وعشرين عاماً على اغتياله فإن أهل مدينة تعز، إن لم أقل لواء تعز بكامله، لايزالون يذكرونه بأسى وحزن.. فهو رجل ينطبق عليه قول الشاعر:
ولو أن مافي كفه غير نفسه لجاد بها، فليتق الله سائله
أجل فليتق الله سائله، فكيف قاتله؟
دمعة حرى وحزن عميق
بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962 المباركة بثلاثة أيام وكنت مع الأصدقاء في عدن كما ذكرت، كنا نصيخ السمع باهتمام بالغ إلى إذاعة «صنعاء» وهي تذيع الأنباء، وحينها استمعت إلى تنفيذ الإعدامات فسمعت من بين الذين أعدموا اسم عبدالله عبدالكريم، وهنا أجهشت بالبكاء وبشهيق، ثم انتبهت إلى أحد الأصدقاء يهزني، ويربت على كتفي قائلاً: لماذا تبكي على قتل رجعي مثل عبدالله عبدالكريم؟ إنه من أركان العهد البائد وبالتالي فإنه متزوج بنت الإمام أحمد الطاغية الراحل، فالتفت إليه وهنا أتذكر أنه أن الأخ المناضل المرحوم محمد أحمد شعلان، فقلت له: اسمع يارفيق دربي، أود منك أولاً أن تفسر لي معنى الرجعية بمفهومها الصحيح؟ ثم ماهي الجرائم التي ارتكبها عبدالله عبدالكريم؟
هل زواجه من بنت الإمام أحمد جريمة؟ وفي التاريخ أمثلة كثيرة عن الارتباط الأسري بين أناس مشاربهم مختلفة، ثم إني ياصاحبي، أبكي الأخلاق والقيم والمثل والطهارة التي كان يتحلى بها هذا الإنسان، وأيضاً يجب أن تفهم بأن هذا الإنسان كان ذا عواطف جياشة، ولقد عرفته عام 1958م عندما كان مع البدر وفي الوفد الذاهب لتوقيع الاتحاد الفيدرالي مع ج.ع.م ثم عرفته عندما كنت مسجوناً في الحديدة بعد محاولة اغتيال الإمام أحمد أيام العلفي واللقية والهنداونة، وكان حينذاك رئيساً للجنة المحاكمة.
وهنا لابد لي من أن أورد قصة اسميها «بين العاطفة والواجب» إن الكثير من الناس يتبجحون، ويرددون، قصصاً تكاد أن تكون أقرب إلى الخيال ومنها ماهو صحيح، وأغلبها غير صحيح، بينما قلة من الناس لايفعلون ذلك فمثلاً لم أسمع القاضي عبدالرحمن الإرياني أو النعمان يتحدثان عما جرى لهما من الأذى والسجون والقيود والسير على الأقدام مئات الكيلومترات لذلك أقول: أود سرد قصتي مع الشهيد عبدالله عبدالكريم، وليس سرد قصة سجني الذي لم أمكث فيه سوى ثلاثة أشهر مع أن الظرف كان رهيباً جداً، إذ أن المسجونين كانوا يعتقدون بأن مصيرهم الإعدام لماذا؟ لأن الإمام أحمد أمر بإعدام اخوته عبدالله والعباس لمجرد إطلاق النار على قصره أي داره في عرضي تعز، فكيف وهو الآن يتشحط في دمائه بعد إطلاق تسع رصاصات عليه، ولم يمت ولهذا كان اعتقادهم أنه سيأمر بإعدام كل من صوب الرصاصات إلى جسده وقتل «حارسه الخاص» البليلي والرويشان بل وسيأمر بإعدام كل المتهمين المسجونين بهذه القضية ومن ضمنهم كنت «أنا» وهكذا.
الأخلاق والإنسان
كان رئيس لجنة المحاكمة ولأول مرة في تاريخ حكم الإمامة هو «السيد عبدالله عبدالكريم» وعندما استدعيت للاستجواب وكان أغلب الأعضاء معنيين للتمويه، ومنهم مثلاً: المشير عبدالله السلال ومحمد علي عثمان وعبدالله الضبي ومحمد الذاري وآخرون، فسألت عن عبدالله عبدالكريم، فقيل لي بأنه سوف يأتي قريباً، وعندما انتهوا من استجوابي، إذا بي أفاجأ بوصول عبدالله عبدالكريم، فأمر بأن أذهب بمعيته إلى غرفة منفردة، ثم بدأ كالعادة مع المسجونين ليستخرج منهم اعترافاً اسمع يامحمد: لماذا تتآمرون على الإمام وتكتبون المنشورات وترسلون المتفجرات إلى تعز وإب ومناطق أخرى ثم تقدمون على قتل الإمام.. وظل يهدد ويتوعد؛ وهنا أجبته وأنا مثقل بالقيود، اسمع يا سيدي، أولاً:أنا لم أقتل حتى قطة في كل أدوار حياتي فكيف أقدم على قتل إنسان لاسيما إذا كان هو «الإمام»،ثم إني لو كنت أشك في نفسي أنني متهم أو متآمر، لماسافرت ومشيت الطريق التي يسلكها المسافرون وقد كان لي مندوحة عنها.. ثم اردفت قائلاً: ياسيدي أنا متهم وسجين وأرسف بهذه القيود التي تراها على أقدامي، وأنا انتظر بفارغ الصبر حكم الله وحكمكم وأنا واثق بعدالة الله وعدالتكم؛ ولست خائفاً غير أني حزين جداً على والدتي التي ودعتني وهي باكية صارخة تمزق ثيابها وتنفش شعرها صارخة: واوالده واوحيداه وهنا كعادتي انفجرت باكياً لذكر الموقف؛ فقال لي: إن الرجال لايبكون فلماذا تبكي؟فأجبته برباطة جأش: ياسيدي أنا لا أبكي جزعاً من الموت، ولكن ذكرى والدتي أهاجتني فبكيت كما ترى؟
وهنا توقف ذلك الإنسان عن بقية الأسئلة التي ربما كان يريد أن يسألني؛ وقد والله شاهدت على وجهه علامة الحزن وقد غابت عنه ابتسامته التي عرف بها.. ثم ماذا؟ وبعد أن انتقلت وزملائي إلى «تعز» بعد انتقال الإمام أحمد في محفة وهو مثخن بجراحه إليها نقلوني وأصحابي إلى تعز؛ إذا بالمفاجأة المذهلة تحدث لي؛ ماذا أرى ياتري وأنا مثقل بالقيود وبعد إعدام الرفاق اللقية والهندوانة.. أرى من أرى ياترى أيها القارئ أرى وانظر ولا أكاد أصدق عيني؛أرى عبدالله عبدالكريم يدخل السجن ليزورني،ويتحول من محاكم إلى مدافع؛ثم ماذا يريد مني هذا الحاكم؟كنت أحدث نفسي هكذا:هل جاء لينهال علي بأسئلة جديدة يريد منها إدانتي؟ وكنت رابط الجأش فقال لي .. ولا ولن أنسى تلك النبرة الحزينة التي قالها في مجمل حديثه:يامحمد سوف تطلق من السجن غداً أو بعد غدٍ، عرفنا براءتك، ولهذا فإني أطلب منك أن تأتي بثلاثة يكفلونك أي يضمنونك للخروج من السجن، ولولا أني رئيس اللجنة لضمنتك، وسمى لي من الكفلاء «الحاج عبدالله محمد صالح الأصبحي» ورحت أبحث في ذهني عن اثنين بجانبه، فأرسلت محمد عثمان المزين المرافق الوفي إلى علي بن أحمد سلام وإلى الشيخ الذي لا ولن أنساه عبده فارع غانم الاديمي، الشجاع والبطل الذي كان من ضمن من سجنوا في حجه عام 1948م وبكفالتهم خرجت في اليوم الثاني وفي اليوم الثالث ذهبت مع عبدالله محمد صالح إلى منزله في «دار الناصر» بتعز القديمة وإن كنت سأنسي فلن أنسى أنه قال لي قبل مغيب الشمس يامحمد إني ما أزال متأثراً بما حكيته لي عن والدتك الحزينة فأرجو أن تسرع بالعودة إليها لكي تستقبلك، وكأنك خلقت من جديد.
ومرّت الأيام والشهور والأعوام وفي مطلع عام 1972م كنت وصديقي الشاعر الرقيق والإنسان الذي ينكر ذاته الأستاذ «إبراهيم بن أحمد محمد الحضراني» في مقيل قات فتذاكرنا ماكان يعانيه الأحرار من الإرهاب والتعسف وثقل القيود على أقدامهم،ومنهم من تضاف إليه «المراود» بين ساقيه والثقالة فوق عنقه، وكيف كان الأستاذ« أحمد محمد نعمان» في أسوأ حال، فحدثني إبراهيم الحضراني قائلاً: إن عبدالله عبدالكريم، دخل عليهم السجن في حجة، فاستدعى الأستاذ أحمد محمد نعمان وقال له: يا أستاذ هذه برقية من الإمام الناصر لدين الله الإمام أحمد يقول فيها بالآتي:إن مولانا الإمام سوف يخفف عنك هذه الأثقال والقيود ومافيها من مشاق بالإضافة إلى أنه سوف ينقلك من الرادع إلى نافع حيث السجن هناك أخف وطأة، شريطة أن تكتب له أسماء الذين كانوا يتبرعون لكم ولحزب الأحرار وصحيفة صوت اليمن فأجابه الأستاذ أحمد محمد نعمان وهو رابط الجأش مكفهر الوجه،ومربده قائلاً: أناشدك الله ياعبدالله عبدالكريم أناشدك الله ياعبدالله عبدالكريم:إني كما ترى في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فيه يبر الفاجر ويصدق الكافر، هل يجوز لي برغم ماتراه مني من هذا العذاب أن أبوح أو أكشف عن أسماء أشخاص كانوا يتسللون ليلاً تحت جنح الظلام لكي يدفعوا لنا مع زميلي الزبيري بعضاً من النقود نسد بها رمقنا من الجوع، فهل ياترى يجوز لي شرعاً وإنسانية أن أسبب أذى لهؤلاء؟وهنا تجلت عاطفة عبدالله عبدالكريم وإنسانيته فانصرف وإذا به يتحول إلى «مراجع» وفعلاً لم يعدم النعمان بعد أن كان متأهباً للموت في أية لحظة، وبعد مضي مايقرب من شهر خفف الإمام عن النعمان القيود وبعدها أفرج عنه عام 1955م وربما كان الإفراج عنه عام 1954م.
ومرت الأيام والشهور وكاد الناس ينسون عبدالله عبدالكريم ما عدا أسرته؛ ولكن في مطلع هذا العام وفي شهر ابريل 1996م، وكنت في منزل الرجل الفاضل الذي هو أحد بناة اقتصاد اليمن الشيخ علي محمد سعيد أنعم، فذكرت له الماضي بمآسيه وأفراحه وحلوه ومره؛ فتذكرت الطيبين؛ وبسرعة مرّ في خاطري ذكر ذي الخلق الكريم عبدالله عبدالكريم؛ وإذابعلي محمد سعيد يفاجئني بالقصة التالية:
قال لي: يامحمد عبدالواسع، أود هنا أن أضيف إلى ماحكيته لي عن عبدالله عبدالكريم؛أنه عندما كان يبني منزله المتواضع ولأول مرة في تعز «بالاسمنت المسلح» أن هذا الإنسان لم يكن يملك مايتم به هذا المنزل المتواضع في تعز آنذاك من ثمن الحديد والاسمنت، فاقترض مني مبلغاً يساوي ستة آلاف ريال «ماري تيريزا» وكان هذا المبلغ آنذاك مبلغاً كبيراً؛ فأقرضته ولم أعد أفكر في تقاضي ذلك المبلغ؟ ومرت السنون، وقامت الثورة وأعدم ذلك الإنسان.
وفي عام 1973م اتصل بي ولده لكي يقابلني وضربت له موعداً للمقابلة؛ وهنا كانت المفاجأة فقد أراني ولده دفتراً فيه المبلغ الذي أقرضته ويوصي من بعده أن يسدده تبرئة للذمة؛
وقد قال لي علي محمد سعيد أنعم:أنت يامحمد عبدالواسع على حق عندما تبكيه، وتبكي الخلق.
أما بالنسبة للمبلغ الذي جاء الولد لتسديده، فإن علي محمد سعيد أنعم قد قال للولد: إن ذمة والدك بريئة وسامحه الله ولن أقبل هذا المال؛ وللأسف أن هذا الولد قد مات بحادث سيارة بعد شهرين من هذا اللقاء بينه وبين علي محمد سعيد أنعم، فرحم الله عبدالله عبدالكريم ورحم الله ولده.
ولابد لي هنا من أن استطرد إلى ذكر واحد من الجنود المجهولين وهو «قاسم سعيد الحامض الأصبحي» سائق عبدالله عبدالكريم الخاص، الذي كنت أرسل له المنشورات من عدن إلى تعز، فيهتبل فرصة سياقته للسيارة ثم يوزع المنشورات للذين قد عرف عنهم حماستهم.... ومن أعماله أيضاً عندما وصلت إلى تعز معتقلاً، أنه كان يزورني تباعاً، ثم عرفت فيما بعد أنه كان من ضمن الذين دفعوا بالمرحوم عبدالله عبدالكريم للإفراج عني، فله التحية إذا كان على قيد الحياة، ورحمه الله إذا كان قد انتقل إلى الرفيق الأعلى.
اعذروني أيها القراء واعذروني أيها الأصدقاء،فأنا على الرغم من أن دموعي لاتجف على من عرفت من الرجال المخلصين، إلا أن ذاكراتي قد تخونني في بعض الأوقات، فيغيب اسم أحدهم عني.. وإن هذا من باب النسيان وليس الإغفال، فمعاذ الله أن أغفل اسماً له حق علي أن أذكره.
فكيف لي أن أنسي رجلاً من أمثال «العقيد علي العنسي» الذي دافع عني دفاع الأبطال عندما كنت سجيناً،وهو الذي دفع بالمرحوم القاضي حسين الجنداري إلى أن يراجع ويستميت في المراجعة من أجلي، وهذا الرجل من الجنود المجهولين.
هل تعرفونه أيها الأبناء والأحباب؟ إنه العقيد المسن علي العنسي الذي قاتل قتالاً مريراً في سبيل الثورة والجمهورية، وكان في يوم من الأيام مديراً للكلية الحربية، وهو الآن قابع في منزله في «بستان السلطان» رعاه الله، وجزاه عني وعن أعماله البطولية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.