قيادي إصلاحي يترحم على "علي عبدالله صالح" ويذكر موقف بينه و عبدالمجيد الزنداني وقصة المزحة التي أضحكت الجميع    لا يجوز الذهاب إلى الحج في هذه الحالة.. بيان لهيئة كبار العلماء بالسعودية    عاجل: الحوثيون يعلنون قصف سفينة نفط بريطانية في البحر الأحمر وإسقاط طائرة أمريكية    دوري ابطال افريقيا: الاهلي المصري يجدد الفوز على مازيمبي ويتاهل للنهائي    ريال مدريد يقترب من التتويج بلقب الليغا    وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر    أجواء ما قبل اتفاق الرياض تخيم على علاقة الشرعية اليمنية بالانتقالي الجنوبي    عمره 111.. اكبر رجل في العالم على قيد الحياة "أنه مجرد حظ "..    رصاص المليشيا يغتال فرحة أسرة في إب    آسيا تجدد الثقة بالبدر رئيساً للاتحاد الآسيوي للألعاب المائية    وزارة الحج والعمرة السعودية تكشف عن اشتراطات الحج لهذا العام.. وتحذيرات مهمة (تعرف عليها)    سلام الغرفة يتغلب على التعاون بالعقاد في كاس حضرموت الثامنة    حسن الخاتمة.. وفاة شاب يمني بملابس الإحرام إثر حادث مروري في طريق مكة المكرمة (صور)    ميليشيا الحوثي الإرهابية تستهدف مواقع الجيش الوطني شرق مدينة تعز    فيضانات مفاجئة الأيام المقبلة في عدة محافظات يمنية.. تحذير من الأمم المتحدة    أول ظهور للبرلماني ''أحمد سيف حاشد'' عقب نجاته من جلطة قاتلة    الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    الإطاحة بشاب وفتاة يمارسان النصب والاحتيال بعملات مزيفة من فئة ''الدولار'' في عدن    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    البحسني يكشف لأول مرة عن قائد عملية تحرير ساحل حضرموت من الإرهاب    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    المليشيات الحوثية تختطف قيادات نقابية بمحافظة الحديدة غربي اليمن (الأسماء)    خال يطعن ابنة أخته في جريمة مروعة تهزّ اليمن!    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    فشل عملية تحرير رجل أعمال في شبوة    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د عبدالواسع الأصبحي يتذكر
نشر في الجمهورية يوم 02 - 01 - 2008


الحلقة 9
لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «الس ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الاطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغريبتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. نداء.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
الجندي المجهول نعمان أبو كلاب
هذا فصل جديد، أو عود على بدء.. سأعود مرة أخرى إلى الأعوام 50و 51و 1953م، لأكتب هذا الفصل الصغير الذي قد تكون فيه طرفة أو عبرة للأجيال القادمة، للشباب الذي لا يعرفون ماذا كان يعاني أولئك الأبطال المجهولون من أبناء الشعب اليمني، وما أكثرهم في اليمن، وما أكثرهم في الوطن العربي!..
أكتب الآن عن نعمان القزم، أو نعمان أبو كلاب فيما بعد.. اذكر في عام 1950م كانت تصل إلي الصحف من عدن مثل «فتاة الجزيرة» و«النهضة»، وفيها برقيات موجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة «ترى جيلفي»، آنذاك، والأمين العام للجامعة العربية عبدالرحمن عزام باشا، كان يشكو في تلك البرقيات ما يعانيه المسجونون في سجون اليمن، وما يعانية المشردون عنها، بعبارات توحي بأن من كتبها زعيم من الزعماء وبتوقيع «النعمان».
كنت أقرأ تلك الصحف وفيها تلك البرقيات، وأتساءل: النعمان؟ من هذا النعمان؟ الأستاذ أحمد محمد نعمان معتقل في سجن حجة، فكيف يتاح له أن يكتب مثل هذه البرقيات النارية الحارة والتي يدين فيها الإمامة والحكم؟
ظللت أتساءل مدة طويلة من الزمن عن هذا الإنسان من يكون، وفي عام 1953م بينما كنت أتهيأ للسفر مرة أخرى إلى فرنسا إذا بالأخ المرحوم محمد علي علوي من أبناء الحديدة، يقول لي: هل تريد أن أعرفك على شخص يحمل التاريخ فوق رأسه ويحمل اليمن وهموم اليمن فوق كتفيه؟ قلت: أهلاً وسهلاً، أين هو هذا؟ وإذا به يقدم لي هذا النعمان، نعمان القزم، قلت: الحمد لله، هذا الذي كنت أبحث عنه منذ عامين، فما شأنه؟ وإذا بي أكتشف أن هذا الإنسان كان قد بدأ يوزع صحيفة صوت اليمن منذ عام 1945م إلى أن قامت ثورة 1948، وبعد أن أخفقت هذه الثورة ظل يبيع الصحف المصرية واليمنية كبائع صحف متجول، وكان كل ما يجمعه من إيرادات من هذه الصحف ينفقها على كتابة البرقيات لتنشر في الصحف.
لعل لقب القزم قد علق به لأنه كان قصيراً ونحيفاً، وكان شبه أمي لم يتلق من التعليم إلا الرابع الابتدائي، ولكنه كان يعرف كل شيء عن اليمن، وحين تعرفت إليه، كان ينتقل بين عدن والشيخ عثمان ويحكي لي قصصاً وأشياء كأنها الخرافات.
كان اسمه نعمان علي العريقي أو العبسي لا أتذكر، فأمثال هذا الرجل البسيط يمكن أن تتعرف إليهم وأن يدهشوك بما يحملون في وجدانهم من أروحا المشردين وأرواح المظلومين والمسجونين والمعذبين، ومع ذلك يبقى اسمهم غير واضح أو غير دقيق في ذاكراتك، وكأن هذا أيضاً جزء من نهجهم في الحياة، إذا نهجهم التضحية في سبيل الوطن بعيداً عن دائرة الضوء، لا يهمهم تذكر الناس أسماءهم أم لم يتذكروا.
نعمان هذا كان يكدح ويتعب ويتألم وينام في كهف بسيط جداً قد حفره في جبل تحت باب عدن، ينام فيه على فراش من حصير، ويتلحف بطانية متواضعة، وينام هناك مهموماً بهم يملأ حياته كاملة كيف يتحرر اليمن ويتحرر هذا الشعب؟
مر الزمن، وعدت إلى عدن عام 1959م، بحثت عنه فوجدته في عدن كريتر، وإذا بالناس يلقبونه نعمان أبو كلاب، لماذا؟ لقد حاربته الأيام وغدرت به ونكبته، فلم يستطع أن يفعل شيئاً سوى أن يثابر على بيع الصحف المصرية وغيرها ليقتات بها.
أما لقب «أبو كلاب» فقد أطلق عليه لأنه كان يبحث عن الكلاب الصغيرة التي تلدها أماتها وتتركها، فيأخذها إلى ذلك الكهف، ويربيها، ويبحث لها عن الأقوات، وينام بينها على مدى سنوات، حين بحثت عنه وجدته، ثم وجده الأستاذ محمد أنعم غالب فاحتضنه ولم يقصر في حقه، وحاول أن يسكنه معه في غرفة واحدة، أو أفرد له غرفة في منزل أخيه طاهر أنعم غالب، رحمه الله، ولكن نعمان أبى إلا أن ينام بين الكلاب، مصراً على فلسفته الخاصة، فهو يعتقد أن هؤلاء الكلاب محرمون كما الشعب اليمني من التربية فلماذا لا يعطف عليهم وينام معهم،ويبحث عن أقوات في فيقيتهم؟
مرت السنون أيضاً فالتقيته في تعز بعد ثورة 26سبتمبر 1962، ثم مرت السنون أيضاً إلى أن عدت من الصين عام 1968م فالتقيته في تعز مرة أخرى وكان أستاذنا الكبير والشاعر الموهوب ذو القلب الكبير عبده عثمان قد عرفه أيضاً فعين له مرتباً وكأنه من أبناء جنوب اليمن المشردين، فظل يقتات بهذا المرتب الضعيف.. بماذا كان يشعر هذا الإنسان يا ترى وهو ينظر إلى الشعب من حوله مرتفع الرأس وقد تخلص من عهد الإمامة بينما هو يغوص في عالمه البائس؟
ذهب عبده عثمان كسفير لليمن في إثيوبيا، ثم عينت أنا وزيراً للوحدة بعده، فظللت أواسي ذلك الإنسان وأضيف له مرتباً يقتات به، وبعد عامين تركت الوزارة وعين عبدالله عبدالوهاب نعمان وعين العميد علي الأكوع الطيب القلب رئيساً لمكتب الوحدة، وكان العميد محمد يعرف ذلك الإنسان: نعمان أبو كلاب، كما كان يعرفه أيضاً مدير مكتبه عبدالكريم عبدالقادر الأغبري، أما الذي كان يعرفه أكثر منا جميعاً فهو الأستاذ الكبير والكاتب القصصي والمؤرخ علي محمد عبده الأغبري.. وفجأة اختفي هذا الإنسان، فماذا حدث له؟ وأين اختفى؟
كتب عنه علي محمد عبده في صحيفة أو في مجلة في الحديدة بعد أن بحث عنه كثيراً.. وهنا عرفنا الحقيقة، عرفنا حقيقة المأساة التي يعيشها هذا الإنسان وماذا حدث له: لقد تزوج من امرأة ربما كنت متسولة، لست أدري، وأسكنها في غرفة هي غرفة النوم والمطبخ وهي كل شيء، وأنجب منها طفلين، وهنا حدث له ويا للأسف حادث مؤلم، فبينما كان راكباً حماره، ذاهباً إلى قريته في ناحية القبيطة انكفأت رجله ثم سقط من فوق الحمار إلى الأرض والتف حبل حول رجله وظل ذلك الحمار يسحبه حتى تكسر منه العمود الفقري فأسعفوه إلى تعز، وياليت أنه مات من ذلك الوقت لأنه ظل بعد ذلك الحادث مقعداً كأنه خشبة مسندة، وكانت تلك المرأة ترعاه، وفي الحقيقة أننا لم لم نستطع أن نعرف ما حدث له إلا بعد أن تنبه عبد الكريم عبدالقادر إلى وجود اسم ذلك الإنسان في كشف مرتبات الإعاشة، فرصد لدى توزيع المرتبات من يحضر لاستلام مرتب نعمان أبي كلاب، وإذا بأمرأة شاحبة سمراء شديدة السمرة، تبصم بإبهامها على مرتب نعمان على العريقي أو العبسي لا أتذكر.. وهنا سألها عبدالكريم عبد القادر: أين زوجك؟ هل مازال يعيش؟ فقالت له بصوت متألم: أنا زوجته، وهو يعيش عندي في البيت، فاقتفى أثرها حتى اهتدى إلى منزل نعمان أبي كلاب.
في اليوم التالي قال لي: لقد رأيتك يا محمد عبدالواسع متلهفاً متألماً على نعمان أبي كلاب، وها قد وجدته فتعال معي.. صحبت عبد الكريم إلى منزل ذلك الإنسان فرأيت ويا لهول ما رأيت إنساناً متكوماً فوق سرير من الحبال الخوص، وهناك مطبخ بين حجرين أو ما نسميه بريموس، وحمام خارج البيت في العراء وامرأته حبلى، وليس معه مليم واحد، عدا تلك الإعاشة التي تأخذها زوجته، وفهمت فيما بعد أنها تخرج ليلاً وتتسول لتعيل ولديها وزوجها الذي تزوجها وهو في السابعة والخمسين من عمره..
كان نعمان يتكلم ويضحك ويبتسم ولكنه كان كأنه خشبة لا يستطيع حراكاً..
وهنا توجهت إلى الحاج هائل سعيد أنعم، تغمده الله بالرحمة والغفران، وعوضه عن كل ما قدمه للبائسين والمنكوبين والمعوزين، فأحاله إلى طبيب لمعالجته، ثم إلى طبيب آخر، ولكن عموده الفقري كان متهدماً، ولا يستطيع حراكاً من مكانه.. وبعد ذلك لم يقصر الحاج هائل، فقرر له ولزوجته مصاريف تعينه على الحياة، ثم ثم ثم ماذا؟ ثم مات ولم أحضر مع الأسف جنازته.. هذا هو نعمان أبوكلاب الذي بقي لديه على الرغم من قسوة الحياة الفادحة بقية من الفضل والعاطفة فقدمها للكلاب الصغيرة اليتيمة، وهل أكثر من أن يطعمها ويربيها وينام معها؟
يا أحبائي الكبار ويا أبنائي الشباب ويا أحفادي الصغار والذين سوف يأتون من بعدنا، خذوا عبرة من حياة نعمان أبي كلاب، وكيف كان يعيش شعبكم، إنه جندي مجهول عمل كل ما بوسعه في سبيل وطنه ليتخلص من الحكم الكهنوتي الاستبدادي الطاغوتي.. ليس نعمان هذا فريداً في حالته هذه فمثله ربما يوجد المئات والآلاف.. لقد ضاع نعمان، ولم أستطع أن أهتدي إلى أولاده الصغار منذ عشرين عاماً، ربما الآن هم مشردون في أصقاع الأرض وربما أنهم يعملون كعمال بسطاء لأن أمهم كانت ضعيفة.. ابحثوا عن أبناء نعمان القزم.. ابحثوا أيها الأبطال.. ابحثوا أيها الشباب، واكتبوا أيها الكتاب، وفي مقدمتكم الذي عرفه وكتب عنه الأستاذ الكبير علي محمد عبده الأغبري، فإن نعمان القزم جدير بكل الوفاء.
الفضل بن علي: آخر سلاطين لحج
هذا جندي آخر مجهول ولكنه من طراز آخر غير طراز نعمان أبي كلاب، إنه السلطان فضل بن علي آخر سلاطين لحج، وأنني أتحدث عنه في سياق ما جرى لي من أحداث فإنما هدفي هو أن أبرز المواقف الوطنية والإنسانية لهذا الجندي المجهول لا أن أتحدث عن بطولاتي أو سجوني، فأنا لست إلا واحداً من الذين تشردوا أو ناضلوا أو أحسوا بظلم هذا الشعب وتشرده وما عاناه.. وإذا كنت قد سجنت فما كان ذلك إلا لفترات وجيزة لا تقارن بالفترات التي سُجِنَها الآخرون أمثال زعيمنا الروحي القاضي عبدالرحمن الإرياني وأستاذنا الكبير أحمد محمد نعمان وأستاذنا أحمد عبدالرحمن المعلمي والمغفور له المشير السلال وقاسم غالب والقاضي عبد الكويم العنسي، أنا سجنت أيام الإمام مدة شهرين وفي عدن ثلاثة أيام وفي جيبوتي يومين وفي فرنسا يومين وفي منطقة أخرى قد يستغرب القارئ أن أسجن فيها إنها السنغال أي في دكار حيث سجنت ثلاثة أيام، ولكن سجني هذه المرة كان لقضية شخصية، أرجو إذا أسعفتني الذاكرة أن أسردها في مكان آخر، أما هنا فأروي قصة طريفة عشت أحداثها في مدينة عدن يتوضح من خلالها الدور النضالي لذلك الجندي المجهول السلطان فضل بن علي.
أقول: كنت مع عدد من زملائي نسهر على سطح متجري في «الشيخ عثمان» وفي الساعة الحادية عشرة قبل منتصف الليل فوجئت بقرع عنيف على باب المتجر، فأطل أحدهم وقال: ربما هذا «وارَن»، أي أنهم جاؤوا يحتجزون المحل، توهمت ذلك لأنني كنت قد ضمنت أحد الأصدقاء على سيارة من شركة «متشيال كوتس»، قلت لعله لم يسدد ما عليه فجاؤوا ليحجزوا المحل، فنزلت متوجساً لأنني لم أكن أنا الذي أعمل فيه، بل كان يعمل فيه أحمد محمد إسماعيل اللص الكبير الذي سرق كل شيء فيما بعد، وكان غائباً مع زوجته في دار سعد، فنزل أخوه الصغير وأشعل النور، وإذا بالباب يقرع بعنف شديد، وهنا تذكرت كتيباً غلافه أخضر كان قد وصلني من تعزو ألفه إبراهيم بن علي الوزير آنذاك بقصد إيهام الأحرار أو بعض السذج بأن لديهم مطبعة في تعز وفي صنعاء وفي الحديدة يطبعون الكتب ويرسلونها من هناك.. أنا لم تنطل علي هذه الحيلة فقد فهمت أين المطبعة وكيف يصل الكتاب وإلخ.
وهذا شأن يخص إبراهيم الوزير ولا أريد أن أكتب عنه.
فتحت الباب الخلفي للمحل وإذا بمفتش اسمه محمود عائش وبجانبه بريطاني وكان أمراً غريباً أن يصل بريطاني إلى الشيخ عثمان، ولعلها المرة الأولى.. فوجئ أهل الحارة والرجال صعدوا إلى السطوح، أما أنا فتسللت إلى المحل لأسحب ذلك الكتاب وإذا بالمفتش يصرخ بي: اطرح، ما هذا الكتاب الأخضر؟ حطه، لا تتحرك، افتح الباب يا ولد، فتحنا الباب ودخل المفتش وقال: ما هذا؟ قلت له: هذا كتيب منشور يتحدث عن المظالم في اليمن.. نحن لسنا ضد بريطانيا..
فتشوا المحل وقلبوه رأساً على عقب، وكسروا بعض الصناديق التي كان يودعها الطلاب عندنا في إجازاتهم وفيها دفاترهم وكتبهم، وكانت تلك الصناديق من البقايا التي تشتريها الطلاب من الجنود، وهي في الأصل للرصاص.. فتشوا وفتشوا ولم يجدوا شيئاً، وأخيراً وجدوا جراباً يخشخش بداخله ، فاعتقدوا أنه رصاص، فقال لي المفتش محمود عائش، وقعت،
وقعت أيها المتآمر، وقعت ياوقاع فقلت: والله لا أدري مابداخله.
وكان مابداخله فضة وصيغة لنساء يودعها أزواجهن في المحل واسم صاحبه موجود فيه.. وبينما نحن في ذلك أطل البريطاني بقامته المديدة، ومد رأسه مستطلعاً، وإذا بمسمار يضربه في رأسه، فسالت الدماء على وجهه وعيونه بسبب ذلك المسمار الصغير وكان كلما مسح وجهه وعينيه تعود الدماء وتنفر من جديد، وأخيراً وجدوا جراباً فيه رسائل بعضها موجه إلى المعتمد البريطاني وأخرى إلى الوالي: فقال لي: وقعت وأخذني فوراً وأنا لا ألبس إلا فانيلا قطنية صغيرة وفوطة، فأدخلني إلى سيارة الشبك، وكان بداخلها سجينان، وعرفت أن مع الشرطي البريطاني شخص كان يتردد عليّ ولكنني لم أكن أعرف أنه جاسوس أخذوني إلى البريقة ووضعوني في سجن منفرد وكان الحر شديداً، وكنت أفكر: ماذا صنعت؟ عرفت في اليوم التالي أن شخصاً اسمه صالح حسن من «أبين» كان عضواً بارزاً ونشطاً في المؤتمر العمالي أخذ سيارة لشخص اسمه فلان البيحاني وطرح فيها لغماً أمام باب المعتمد البريطاني، أي في مدينة الشعب التي كان يجتمع فيها المعتمد البريطاني والسلاطين والوزراء وغيرهم.
لم يخرج المعتمد البريطاني فخرج السائق وانفجر اللغم، وكسرت رجله، وكان البريطانيون قد رصدوا تلك السيارة، فقبضوا أولاً على صالح حسن، ثم على سائق السيارة فلان الكحلاني وهو ابن أخي أحمد يحيى الكحلاني على ماأتذكر ومالك السيارة البيحاني.
جاء بعض الشباب من الشيخ عثمان ليستطلعوا حالنا، وأذكر منهم عبدالرحمن محمد ناصر القرشي، وهو الآن طيار في القوات الجوية، تسلل بين الرمال والأسلاك الشائكة، ورمى لي بسيجارة دائماً السيجارة تلاحقني..وبعد أربع وعشرين ساعة أخذونا إلى محكمة الشيخ عثمان، وكان هناك حاكم من أصل هندي، وأذكر أن الذي كان يترجم له هو أحمد علي باشراحيل أخو الأستاذ المرحوم محمد علي باشراحيل صاحب جريدة الأيام وابنه هشام.. قال لي الحاكم: أنت متهم بالشروع في القتل و...و... وكال لي كل التهم..فقلت له: ياهذا أنا لا أقتل حتى القطط..وحاولوا أن يجدوا عليّ شيئاً فلم يجدوا فأعادوني وطلب الحاكم العسكري إضافة 24 ساعة أخرى، ليتحققوا من أمر الرسائل، وإذا بهم يكتشفون أحد الجنود في معسكر «الليوي وشبرد» هو الذي قدم تلك الرسائل إلى الوالي، ولما سألوه قال لهم: نعم أنا صاحب تلك الرسائل، وطرحتها في ذلك المحل أمانة، وهذا نقلها معي، وكان شجاعاً فأضاف:«أنا الذي كتبت عن المعتمد البريطاني، وكتبت عن السلطان الفضلي، وكتبت للوالي، وسأكتب للملكة اليزابيث إن لم تنصفوني، وهكذا أفرج عني بعد يومين بكفالة من الأستاذ محمد علي الأسودي بمبلغ 30000 شلن ضمانة عليّ إذا كررت أو فررت.
بعد يومين من خروجي اكتشفت في المتجر اكتشافاً مروعاً، إذ لو أطل ذلك البريطاني على الدرج الثاني الذي فيه الكتيب لوجد كمية كبيرة من المنشورات وهذه المنشورات كان قد وضعها في الدكان، على غير علم مني، صالح حسن، فقد كنت أثق به..أما تلك المنشورات فقد كانت ضد الحكم البريطاني والاستعمار منشورات نارية رهيبة حداً، لو اكتشفوها لظللت في المعتقل إلى ماشاء الله. ماذا أفعل بهذه المنشورات؟ ظلت فترة أسر بها سراً وأدفنها في الرمال في خبت الشيخ عثمان، أما المعتقلون الآخرون، بمافيهم صالح حسن، فقد أعادوهم إلى مايسمونها المحميات وظلوا هناك مسجونين حوالي عامين، أما أنا فقد تذكر اسمي ذلك البطل المجهول سلطان لحج فضل بن علي، فقال لهم: هذا يمني، أي شمالي مالنا وماله.. لم تجدوا عنده شيئاً، ولم يفعل شيئاً، أفرجوا عنه..فكان هو سبب الإفراج عني، وأعتقد أن السلطان فضل بن علي كان قد عرف اسمي من قبل في حادثة سابقة، لابأس في أن أتذكرها الآن:
أذكر في ليلة من ليالي أوائل عام 1961، حوالي منتصف الليل تقريباً، جاءني الشيخ محمد أحمد الحباري، رحمه الله، وقال لي: الشيخ سنان أبو لحوم يريدك وكان بيننا مايقرب من مئتي متر، فذهبت إلى منزله ولم يكن عنده إلا الشهيد علي بن علي الرويشان، فقال لي: أنت مسافر إلى اليمن أم لا؟ قلت له: مسافر بعد غد.. قال: لاتسافرش قلت: لماذا؟ قال: أنت مطلوب من الإمام..أنت مطلوب من الإمام..أنت وآخرون، ولكن يامحمد إياك أن تبوح بهذا السر فتضرني وتضر نفسك قلت له شكراً ولكنه أردف قائلاً: أبحث عن شخص تعرفه من السكرتارية أو من المخابرات، أو أي شخص آخر، لتعرف لماذا يطلبك الإمام فهمت فيما بعد أن من ضمن المطلوبين أيضاً الأستاذ محسن العيني وللتاريخ أقول إن الشيخ سنان أبو لحوم كان يجلني ويحترمني وحتى الآن لايزال يقول عندما يلتقي بالشيخ عبدالله بن حسين الأحمر وآخرين: أنا تعبت في عدن ماحد كان يواسيني أكثر مماكان يواسيني محمد عبدالواسع حميد الأصبحي، هكذا كان يلهج دائماً، أشكره على كل حال، وماقمت به تجاهه كان عملاً وطنياً، وواجباً محتماً عليّ.
أما الأستاذ محسن العيني فقد سفروه إلى القاهرة لأنه كان عضواً بارزاً في المؤتمر العمالي وحزب البعث العربي الاشتراكي.
في تلك الأثناء كان الشيخ محمد أحمد نعمان عاملاً في المفاليس، ولما كان في طريقه إلى تعز مر في لحج، وكانت بينه وبين السلطان فضل ابن علي صلات قديمة تعود إلى أيام الآباء والأجداد، وعندما التقيا سأله السلطان: هل تعرف شخصاً اسمه محمد عبدالواسع حميد الأصبحي؟ قال: نعم هذا من أبنائنا، وهذا إنسان طيب وهذا..وهذا.. فقال له السلطان..كان الإمام قد طلب تسليمه أو تسفيره، وكنت أنامن ضمن الحاضرين في الاجتماع، فرفضت وقلت لهم: لست أنا ولا أنتم شوائيش للإمام لنسلم له من يريد ونسفر له من يريد، وهذا موقف يسجل للسلطان فضل، وأتذكر موقفاً آخر، لابد من تسجيله أيضاً.
بعد قيام الثورة نزلت إلى عدن لجمع التبرعات فالتقيت الأستاذ عبدالله عبدالوهاب نعمان، وكان صديقاً حميماً للسلطان، فسلمني رسالة وقال: أسرع بهذه الرسالة لأن فيها خطورة يامحمد، أنت موضع السر..شريف بيحان وآخرون يحشدون الحشود ليجهزوا على الثورة عن طريق مأرب، هذا مايجب أن تعرفه، أما البقية ففي الرسالة، سلمها لشائف محمد سعيد هو الذي سوف يسلمها لبعض المخابرات المصرية..فقمت بتوصيل هذه الرسالة.
ومرة أخرى أرسل معي برسالة ثانية وقال: أي شخص تجده سلمها له، وإذا وجدت العميد محمد علي الأكوع فسلمها له..وإذا بنا نكتشف فيما بعد أن هذا السلطان كان مع الثورة مائة في المائة ولا أقول تسعين في المائة، وكان مع التغيير الجذري للحكم في شمالي اليمن، ولكن هكذا الأقدار وضعته، وكادوا يقتلونه فيما بعد الذين يقرحون الرصاص في عمليتي تلغيم.
لقد خدم هذا الرجل القضية اليمنية، وخدم الجمهورية، ومات فقيراً رحمه الله، مات في جدة على ماأتذكر.
المفتري محمد أحمد خالد العبسي
وكما يذكر الجنود المجهولون الطيبون بأعمالهم الحميدة،كذلك لابد من أن يذكر الأناس السيئون بأعمالهم الشريرة، ومحمد أحمد خالد العبسي واحد من الصنف الثاني، وليستمع القارئ إلى هذه القصة.
في نهاية عام 1963م نزلت إلى عدن لجمع التبرعات سراً، وذهبت كعادتي لزيارة الأخ محمد علي الأسودي قبل أن يعين عضواً في مجلس الرئاسة، فابتدرني قائلاً: هل تعرف عبدالكافي سفيان؟ قلت: نعم أعرفه.
فقال: لدي هنا وثيقة تدينه بالحكم بالإعدام فقلت: أرني هذه الوثيقة، فتلكأ، ثم أراني إياها، وإذا هي رسالة مزورة خلاصتها مايلي:
«سمو الأمير عبدالرحمن بن الإمام يحيى حميد الدين حفظه الله..أرسلنا لكم بواسطة عبدالكافي سفيان مئتي ألف شلن وبواسطة عبدالله شمسان الدالي أيضاً مئتي ألف شلن وبواسطة علي حسين الوجيه أيضاً مئة ألف شلن، ولولا أن الخائن لأمته وإمامه محمد أحمد خالد العبسي وقف في طريقنا لأرسلنا الكثير والكثير من المغتربين الذين يجلونكم».
التوقيع عبدالكافي سفيان..وكانت الوثيقة صورة طبق الأصل..فلما قرأتها ضحكت وكنت أْعرف الخلاف بين عبدالكافي سفيان ومحمد أحمد خالد العبسي وكل المغتربين في جيبوتي..وكنت قد عرفت قبل ذلك مافعله محمد أحمد خالد العبسي في عملية تزوير صور تخص الباخرة التي يملكها بيت الوجيه وكان اسمها «الظفر» إذ قام هذا المزور الحاقد على كل شيء بخدعة تصويرية، فجاء بلوحة كبيرة كتب عليها ميناء حيفا وعليها رسم العلم الإسرائيلي ثم وضعها أمام الباخرة «الظفر» والتقط صوراً توهم الذي يرى الصور أن هذه الباخرة راسية في ميناء حيفا الإسرائيلي..وكان يتعاون مع علي محمد الجبلي الذي كان يحقد على بيت الوجيه..وقام بتسريب هذه الصور إلى الجامعة العربية بطريقة ما وإذا بالأمانة العامة للجامعة العربية ترسل نسخة من الصور للإمام أحمد في عام 1957م وتحتج عليه لذهاب هذه الباخرة إلى إسرائيل.. فغضب الإمام أحمد واستدعي أحمد حسين الوجيه رئيس شركة بيت الوجيه الذي احترق بالطائرة التي فيها محمد عبدالله العمري وزير خارجية اليمن والقاضي محمد الحجري مؤرخ اليمن والدكتور عبدالرحمن رافع أول دكتور يمني..استدعاه وخاطبه وهو في غاية الغضب قائلاً: انظر ماذا يفعل أخوك علي حسين الوجيه..وأطلعه على الصور.. فأجابه قائلاً: أنا مستعد لأن أقود أخي إلى الميدان وأشهد إعدامه بنفسي إذا كان قد صنع هذا بيد أني أستبعد أن يفعل هذا أخي علي حسين ثم أرسل من يأتي بعلي حسين من عدن أو أبرق له.
ولما حضر علي حسين قال أيضاً: اسجنوني، وإذا تأكد هذا علي فأعدموني هنا.
وبالمصادفة تدخل القدر إذ وصلت الصورة إلى الأخ علي عوض خليفي وهو لايزال مقيماً في جيبوتي، أخذ نقل الصورة إلى أسمرة، وكان صديقاً لعلي حسين الوجيه، وعرضها على خبير ايطالي، فقال له الخبير: هذه مزورة وليست صحيحة.
وأخيراً جاؤوا بخبير ايطالي من روما كما أخبرني بذلك جميل محرم الذي كان يلازم الإمام أحمد دوماً، وهو رجل طيب فاكتشفوا أنها مزورة ثم أرسل وفد إلى الجامعة العربية وأخبروهم أنها مزورة، وفهموا بعد فوات الأوان.
كيف ولماذا لم يكتشفوها في الجامعة العربية ولديهم خبراء؟ لست أدري هل الغباء تدخل؟
أقول: تذكرت هذه القصة وكنت على علم بأعمال محمد أحمد خالد مع المغتربين فقلت للأسودي: هذه مزورة على الرغم من أن الورقة كانت من الورق الرسمي الذي تستخدمه الجالية اليمنية في جيبوتي وعلى الرغم من التوقيع باسم عبدالكافي سفيان القدسي.
سردت قصة الباخرة هذه على الحاج الأسودي وقلت له هذه من صنع الخائن محمد أحمد خالد العبسي، وهذه الوثيقة أيضاً هي من صنعه.
أسألك سؤالاً: إذا كنت لاتعرف عبدالكافي سفيان فإنك تعرف عبدالله شمسان الدالي الذي تبرع للحرس الوطني بخمسين ألف شلن وهب أنك لاتعرف الدالي فكيف يدخل اسم علي حسين الوجيه في هذه الرسالة وهو من تعرف عنه، والذي كان يدفع للاتحاد اليمني وللطلبة ماينوف على أربعين ألف إلى خمسين ألف شلن كل عام سراً بحيث لايدري الإمام.
فقال وكيف بالتوقيع: فطلبت منه أن يأتي بثلاث أوراق بياض وكربون، وطلبت منه أن يوقع فلماً وقع على واحدة، أعطيته الورقة التي وقعها وقلت له: هاقد بقي معي نسختان موقعتان بتوقيعك.. أما اسم الجالية اليمنية في رأس الورقة، فهذا الورق متوفر ويمكن الحصول عليه بسهولة.
ثم سألته : من أوصل لك هذه الوثيقة؟ فقال: جاءني شخص في منتصف الليل، وناداني: ياأبا قيس.. وسلمني تلك الرسالة ثم اختفى.
وهكذا فهم الأسودي كل شيء.
وبعد عودتي إلى صنعاء من عدن، وفي يوم من الأيام كنا في المؤسسة اليمنية للإنشاء والتعمير حيث تعودنا أن نقيل ونمضغ القات بها، ويغشانا في هذا المقيل علي محمد سعيد أنعم. إلا في ذلك اليوم فقد جاءنا متأخراً في الساعة الخامسة عصراً، وكان مربد الوجه متغيراً فسألته ماذا بك ياعلي؟ فأجابني قائلاً: الآن كنت عند المشير السلال أراجع عن عبدالله شمسان الدالي الذي أمر المشير سكرتيره العسكري الخاص أحمد الجرموزي بأن يذهب إلى مطار صنعاء ليعيده ويثنيه عن السفر ويضعه في سجن القلعة فقلت للمشير: هذا من الأحرار..هذا تبرع..هذا فعل..ولكنه كان يقول لا أريد تبرعاتهم ولامعوناتهم يتبرعون ولكن يتآمرون علينا، وغداً سوف يحكم عليه بالإعدام.
وهنا عادت إلى ذهني صورة الوثيقة التي أراني إياها الأسودي والتي كنت أظن أنها انتهت، بيد أن الخبيث محمد أحمد خالد قد عمم تلك الرسلة حتى وصلت إلى المشير السلال.
فسألت علي محمد سعيد: هل أراك السلال تلك الوثيقة؟ فقال: نعم فقلت له: هل مكتوب في أعلاها الجالية اليمنية في جيبوتي؟ وهل هي بتوقيع عبدالكافي سفيان؟ قال: نعم.
وعندها حكيت له ماكان بيني وبين الأسودي حول هذه الرسالة واقتناعنا بأنها مزيفة.
وفي الحال طلب مني أن أكتب تقريراً حول هذه الحادثة، وذهب في الساعة السابعة ليلاً مع تقريري الذي وضحت فيه بجلاء عملية محمد أحمد خالد في تزييف وتزوير صور الباخرة صورة هذه الرسالة.
وهنا عاد السلال إلى رشده وعرف كل شيء، وأفرج عن عبدالله شمسان الدالي في الساعة العاشرة ليلاً.
وبعد شهر ذهبت إلى تعز وكنت خالي الوفاض بادي الأنفاض، لا أملك بلغة، ولا أجد مضغة، صفر اليدين وأفلس من ابن يومين، وبالمصادفة التقيت في سوق الشنيني العميد محمد علي الأكوع مدير المخابرات آنذاك وكان صديقاً لي، وكنت أبحث عنه بالذات لأقترض منه خمسة ريالات أجرة سيارة إلى القرية، ولأطلب منه مسدساً كإعارة، وإذا به يقول: أهلاً..أهلاً بالذي تحول من الجمهورية إلى الملكية..ماذا بينك وبين البدر حتى تراسله وتكتب له؟
فانفجرت ضاحكاً لأني أعتقدت أنه يمزح، وقلت له: دعني من هذه الخرافات والتفاهات،أريد منك خمسة ريالات ومسدساً لأذهب إلى القرية.
فقال لي: لا..لا..أنا لا أمزح..هذه حقيقة. هل بإمكانك أن ترافقني إلى المكتب؟ فركبت السيارة معه إلى المكتب وأنا أضحك وأمزح ولا أعرف ماذا خبأ لي القدر.
في المكتب قرأ لي رسالة ولم أرها، خلاصتها أني أتعاون مع الإمام المخلوع البدر فانفجرت ضاحكاً فقال: لماذا أنت تضحك؟ فقلت له لعل هذه الرسالة من محمد أحمد خالد من جيبوتي ولماسألني كيف عرفت ذلك؟ حكيت له باختصار ماجرى بيني وبين الأسودي وماذا جرى لعبدالله شمسان الدالي الذي كان على قيد شعرة من الإعدام..وهكذا توضحت الصورة.. وهنا بادر العميد الأكوع وكتب إلى وزارة الخارجية في صنعاء مذكرة بأن يستقدموا المدعو محمد أحمد خالد، ومادام أن فرنسا لاتعترف بالجمهورية فكيف بقي هو كقنصل في جيبوتي، قنصل لمن؟ فلما وصلت إلى جيبوتي مذكرتان من الخارجية بطلبه، أخذ مسدساً وأطلق على قدمه النار برصاصة أخذت أصبع قدمه الصغرى، وادعى بأنه كان ينظف مسدسه فخرجت الطلقة بشكل عفوي، ودخل المستشفى بهذه الحجة، وهنا نسوه في صنعاء وتداخلت الأمور، وجدت أحداث فما عاد أحد يسأل عنه و ممن يعرف كل ذلك ولاينساه أبداً، ومازال حياً: عوض علي الخليفي وناصر علي عثمان.
وفي غمرة اشتباك المشاكل في صنعاء وتغير الحكومات والمسؤولين نسي الناس محمد أحمد خالد ولكن أفاعيله لاتنسى.
وبقي المذكور في جيبوتي تلك الأعوام يمثل نفسه ويمثل الملكيين، وسخر نفسه جاسوساً حتى عام 1967م وحين استقل الجنوب اليمني ذهب إلى عدن، وفي عدن عام 1970م صار المذكور شيوعياً، وقد التقيته لدى المرحوم عبدالله باذيب الذي كان يجهل عنه كل شيء وقد صدقه بأنه ماركسي.
وقبل أن التقيه في عدن، وفي عام 1969م عندما كنت وزيراً للوحدة دعاني لمأدبة عشاء المرحوم القصاص الذي ذهب في طائرة الموت إلى حضرموت محمد عبدالولي المشهور «الكلليس» وحضر المأدبة أيضاً الصحافي المشهور سعيد الجناحي، وعندما دخلت قدم لي محمد عبدالولي محمد أحمد خالد، قائلاً: أقدم لك محمد أحمد خالد العبسي، وكانت المرة الأولى التي نرى فيها بعضنا بعضاً، ثم قدمني له قائلاً: أقدم لك محمد عبدالواسع الأصبحي.. وهنا وجم الرجل وتشنج وارتعشت وجنتاه وكاد يغمى عليه فرأيت في وجهه المربد وانفعالاته كل دلائل الإثبات على إدانته.
فقلت له: على مهلك..على مهلك..تمهل..ترفق..اعتبرني صديقاً، وبعد دقائق سنأكل عيشاً وملحاً، ولاتهتم بكل مامضى.
وهنا أخذني جانباً صاحب الدعوة الأستاذ محمد عبدالولي، وقال لي: لماذا ارتعش محمد خالد؟ فحكيت له القصة، وكان قد عرفها مني من قبل ولكن دون أن أبوح باسم محمد أحمد خالد.
وهنا أخذ الأستاذ محمد عبدالولي صاحبنا إلى غرفة أخرى بعد أن قعدت أنا في الصالة وسمعته يناجيه قائلاً له: أنت لاتعرف محمد عبدالواسع..هذا إنسان طيب لايؤذي أحداً، وحتى الذين آذوه لايعاتبهم، فاطمئن وتعش وأنا ضمين لك بأنه لن يحدث لك شيء، فعاد ضاحكاً وسهرنا معاً حتى منتصف الليل، ولكنه لم ينم فقد غادر تعز إلى عدن، ومن هنا كتب لي رسالة مع هدية فوطة، ويريد مني أن أرد له جواباً، فكتبت له أشكره على الهدية وعلى تلك الأمسية اللطيفة..الخ.
وبعد أعوام التقيت سعيد الجناحي، وقلت له: بلغ سلامي إلى محمد أحمد خالد، وقل له أي خدمات أنا تحت أمره فأجابني سعيد الجناحي: هذا الإنسان يحقد عليك ويكرهك ولايستحق حتى السلام دعه.
وكادت هذه الدنيا أن تكون دار حساب فصاحبنا الآن هارب في عدن مشلول، وقد تخلت عنه زوجته الفرنسية الأم عافانا الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.