اتحاد كرة القدم يعلن عن إقامة معسكر داخلي للمنتخب الأول في سيئون    وزارة الداخلية تعلن ضبط متهم بمقاومة السلطات شرقي البلاد    شاهد.. مقتل وإصابة أكثر من 20 شخصًا في حادث بشع بعمران .. الجثث ملقاة على الأرض والضحايا يصرخون (فيديو)    ماذا لو أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيل؟    يجب طردهم من ألمانيا إلى بلدانهم الإسلامية لإقامة دولة خلافتهم    مأرب.. رئيس مجلس القيادة يرأس اجتماعاً لقادة الجيش ويشيد بالجاهزية القتالية العالية    السامعي: مجلس النواب خاطب رئيس المجلس السياسي الاعلى بشأن ايقاف وزير الصناعة    شاهد ما الذي خرج من عمق الأرض في الحرم المدني عقب هطول الأمطار الغزيرة (فيديو)    إعلان حوثي بشأن تفويج الحجاج عبر مطار صنعاء    بينها الكريمي.. بنوك رئيسية ترفض نقل مقراتها من صنعاء إلى عدن وتوجه ردًا حاسمًا للبنك المركزي (الأسماء)    قيادي حوثي يذبح زوجته بعد رفضها السماح لأطفاله بالذهاب للمراكز الصيفية في الجوف    استشهاد وإصابة أكثر من 100 فلسطيني بمجازر جديدة للاحتلال وسط غزة    انهيار كارثي للريال اليمني.. والعملات الأجنبية تكسر كل الحواجز وتصل إلى مستوى قياسي    ماذا يجري في الجامعات الأمريكية؟    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    فشل العليمي في الجنوب يجعل ذهابه إلى مأرب الأنسب لتواجده    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    تعليق على مقال زميلي "سعيد القروة" عن أحلاف قبائل شبوة    لماذا نقرأ سورة الإخلاص والكافرون في الفجر؟.. أسرار عظيمة يغفل عنها كثيرون    البخيتي يتبرّع بعشرة ألف دولار لسداد أموال المساهمين في شركة الزناني (توثيق)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    مدرب بايرن ميونيخ: جاهزون لبيلينغهام ليلة الثلاثاء    رسالة سعودية قوية للحوثيين ومليشيات إيران في المنطقة    لأول مرة.. مصر تتخذ قرارا غير مسبوق اقتصاديا    طفلة تزهق روحها بوحشية الحوثي: الموت على بوابة النجاة!    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    ليفاندوفسكي يقود برشلونة للفوز برباعية امام فالنسيا    الكشف عن الفئة الأكثر سخطًا وغضبًا وشوقًا للخروج على جماعة الحوثي    ثلاثة صواريخ هاجمتها.. الكشف عن تفاصيل هجوم حوثي على سفينة كانت في طريقها إلى السعودية    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    رئيس مجلس القيادة: مأرب صمام أمان الجمهورية وبوابة النصر    حاصل على شريعة وقانون .. شاهد .. لحظة ضبط شاب متلبسا أثناء قيامه بهذا الأمر الصادم    رئيس كاك بنك يشارك في اجتماعات الحكومة والبنك المركزي والبنوك اليمنية بصندوق النقد والبنك الدوليين    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    فيتنام تدخل قائمة اكبر ثلاثة مصدرين للبن في العالم    رباعي بايرن ميونخ جاهز لمواجهة ريال مدريد    عاجل محامون القاضية سوسن الحوثي اشجع قاضي    ليفربول يوقع عقود مدربه الجديد    قائمة برشلونة لمواجهة فالنسيا    المواصفات والمقاييس ترفض مستلزمات ووسائل تعليمية مخصصة للاطفال تروج للمثلية ومنتجات والعاب آخرى    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    وفاة امرأة وإنقاذ أخرى بعد أن جرفتهن سيول الأمطار في إب    ''خيوط'' قصة النجاح المغدورة    افتتاح قاعة الشيخ محمد بن زايد.. الامارات تطور قطاع التعليم الأكاديمي بحضرموت    الذهب يستقر مع تضاؤل توقعات خفض الفائدة الأميركية    اليمن تحقق لقب بطل العرب وتحصد 11 جائزة في البطولة العربية 15 للروبوت في الأردن    استهداف سفينة حاويات في البحر الأحمر ترفع علم مالطا بثلاث صواريخ    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    ريمة سَّكاب اليمن !    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبدالواسع حميد الأصبحي .. يتذكر
نشر في الجمهورية يوم 01 - 01 - 2008

لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الاطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغريبتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. نداء.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
السجن مع المتهمين باغتيال الإمام
سافرت إلى اليمن لزواج شقيقتي الصغيرة،وحدث وأنا في البلاد أن حاول البطلان العلفي واللقية اغتيال الإمام أحمد في مستشفى الحديدة الذي هو الآن مستشفى العلفي، فاخترقت تسع رصاصات جسده ولكنه لم يمت.. لقد تدخل القدر ولم يمت الإمام ولو مات لحدثت فوضى ما بعدها فوضى وتدخلات أجنبية لأنه لم يكن وراء هذين البطلين تنظيم يستلم زمام الأمور، ولكنهما حطّما أسطورة الإمام الذي لايخترق الرصاص جسده وكانت في هذه العملية توعية للشعب اليمني بأن هناك من يضحي بروحه من أجله.
أما العلفي فقدانتحر بعد مطاردة طويلة، وأما اللقية فقد ألقي القبض عليه وألقي القبض علي الهندوانة ثم ألقي القبض على مدير المستشفى بحجة كيف أدخل اللقية وهو غير مسؤول،وأما العلفي فهو ضابط في المستشفى،وكيف أنه ترك أمين عبدالواسع نعمان في المستشفى مريضاً ثلاثة أشهر زيادة على المعلوم، واثقل بالقيود مدير المستشفى حسين المقدمي وهو معروف ولايزال يعيش.
في هذه الأثناء أرسل إليّ الشيخ أحمد سيف الشرجبي وعبدالجبار مكرد الشرجبي أن أفرَّ من الآن.. فكنت أفكر بالفرار ولكن ربما أن الإمام يموت مضرجاً بدمائه بعد هذه العملية فسأكون في الداخل وهذا أفضل من الخروج من البلاد.. ولكن حدث مالم يكن بالحسبان..
وقبل أن أسرد ماحدث لابد لي من أشير إلى أنني كنت أستشعر بما يشبه الحاسة السادسة وقوع شيء ما، ولعلّ هذا الذي دفعني إلى أن أكتب إلى الأستاذ الكبير أحمد محمد نعمان قبل سفري بشهر من عدن إلى القاهرة ليغير عنواني من الشيخ عثمان إلى عدن كريتر إلى عنوان الأستاذ عبدالقادر أحمد علوان، وذهبت إلى عبدالقادر أحمد علوان وقلت له: يا حبيبي ياصديقي لقد وقع اختياري عليك، وأنا مسافر هذا الأسبوع وربما أسافر إلى السجن أو إلى حتفي، أرجو إذا حدث لي شيء أن تذهب إلى المجانين الذين كلما سجن شخص من الأحرار يتحدثون عنه ويكتبون بالصحف وهذا مما يزيد في تعذيبه أو إطالة سجنه، أرجو أن تذهب خاصة إلى محمد علي الأسودي ومحمد أحمد شعلان وأخبرهما وأنت في مقدمتهم أن يدعوني وشأني ألاقي مصيري.
تأخرت في البلاد، ولم أخبر إلا شخصاً واحداً هو حمود علي الجمال، وقلت له ألا يخبر أحداً بأنني سأسافر من القرية إلى عدن، وأبديت له عذري بأن كثيرين سيسافرون معي لأنهم بدون مصاريف ومن أجل أجر السيارات، ولكنه لسذاجته أو بداوته أخبر الكثيرين.
بعد محاولة اغتيال الإمام أحمد بعشرة أيام جمعت مالدي من أوراق ووثائق وأحرقتها ومزقتها ولم أبق إلا على ورقة صغيرة موجهة إليّ من الرئيس جمال عبدالناصر مذيلة بخط الأستاذ أحمد محمد نعمان وتتضمن الشكر على تبرعي في عام 1955م.
ثم توجهت مع زملاء إلى المصلى ومررنا بجانب مركز العامل في التربة وكان القاضي حسين الجنداري فوصلنا بعد أربع ساعات من السير على الأقدام نزولاً، ومكثنا هناك مايقرب من ساعة حتى يكتمل ركاب السيارة، انطلقت بنا سيارة لاتسير أكثر من عشرة كيلو متر في الساعة وعلى الصخور، وإذا بسيارة لاندروفر تعترض طريقنا وفيها ثلاثة من الحرس الإمامي «العُكفة» ومعرِّف لأنهم لايعرفوني كشخص، أرسلهم القاضي حسين الجنداري، فاستوقفوني.. والتوقع أشد من الوقوع، فربطت جأشي ولم أخف إلا قليلاً وتذكرت بيتي الزبيري:
عمر في دقائق مستعاد
وشهور مطلعة في ثواني
أو استرجعت صداه الأماني
فكأن الماضي تأخر في النفس،
في تلك اللحظة نسيت كل شيء السجن والموت والقتل إلا تلك الورقة الصغيرة «رسالة الرئيس جمال عبدالناصر إليّ» التي ستودي بحياتي،
فطلبت من الحرس أن يطلع معي أحد الركاب،فاقترب مني أحدهم ولم يفهم ما أريد، واقترب مني الثاني ولم يفهم أيضاً،فدعوت محمد حيدر قاسم الأصبحي الذي لايزال يعيسش وكان ذكياً... فقلت للجندي يا هذا،هذا ابن عمي وأريد أن أعطيه ريالاً أو ريالين» .. ودسست الرسالة بين ريالين وسلمتها لابن عمي ليحتفظ لي بها كذكرى.
وهكذا عدت مع العكفة إلى المصلى عصراً، فطلبت من الحرس أن أركب حماراً لأني منهك من نزول ذلك المنحدر لمدة أربع ساعات فكيف الطلوع الآن في ذلك الجبل وهو أكبر من سماره ولابد أن يستغرق من خمس إلى ست ساعات،فلم يوافقوا إلا بعد أن استأجرت لهم حماراً آخر يتداولون الركوب عليه،ورافقني في هذا الطريق أحد أبناء القرية واسمه غيلان ناصر فوصلنا في الساعة الثامنة مساء.
أما الذي دلَّ عليَّ ورافقني، وكان يتلهف شوقاً لإلقاء القبض عليّ فهو شخص أعور اسمه محمد حسن عفجل وولده الذي يعرفني.
حين وصلنا قلت لهم: عرجوا بي على منزل الدكتور غيلان سعيد الشرجبي،وكان غرضي الحصول على بعض النقود لأدفع إيجار الحمارين،
لأنه لم يبق معي شيء من النقود بعد أن أعطيتها للركاب الذين صحبوني.. لكن محمد حسن عثجل اللعين أمر ثلاثة من المرافقين أن يلتفوا حول الدار متوهماً أنني سأفر، وأنا لم أكن أريد أن أفر قط لأنني لا أريد أن أسبب أية مشاكل للآخرين.
وأخيراً أوصلوني إلى منزل العامل في الحجرية في المركز،المركز كان التربة، إلى العامل القاضي حسين الجنداري وهو عالم طيب.
وفي اليومين التاليين كما قيل لي تجمع عدد كبير من الناس، بالمئات بل والآلاف، لم يتجمعوا كما تجمعوا لأجل محمد عبدالواسع حميد الأصبحي ابتداء من بني شيبة وبني عمر ودبع والمقاطرة والزريقة وقدس وغيرها، ناهيك بذبحان والأصابح والقريشة وكلهم يريدون أن يضمنوا محمد عبدالواسع، هذا الإنسان الطيب الذي كان كلما سافر إلى اليمن يصلح بين الفئات المتناحرة وقد كان القاضي الجنداري يعرف ذلك عني من قبل،ويعرف أنني ضد الإمام، وأنني أغلف هذه الحالة بالإصلاح بين الآخرين.
وأريد هنا أن أسجل موقفاً طيباً للشيخ أحمد محمد الكباب الذي أرسل رسالة من ذبحان إلى تعز إلى عبدالرحمن عبدالواسع نعمان، وكان الوحيد الذي شذّ من أسرة آل نعمان، إذ كان يحب الإمام، ولايرضى بما يسيء إليه، وكان في الرسالة تأنيب، فقد ظن الشيخ الكباب أن الوشاية بي كانت من الحجرية أو من تعز مع أن الوشاية بي كانت قد جاءت من عدن من أناس عرفت بعضهم ومنهم الآن مسنٌّ في الثمانين من عمره غفرت لهم وحتى لم أعاتبهم.
بقيت هناك مايقرب من ثمانية أيام في انتظار سيارة البريد التي تحمل نقود بيت المال من المعافر والحجرية إلى تعز كل أسبوع أو كل عشرة أيام.. في هذا السجن زارني الكثيرون وممن زارني السيد سعيد عوض الحضرمي السقاف الذي يسكن في شرجب، وكنت أخافه لأنه كان يحب الإمام حباً جماً، وكان يقول عن الإمام:«ما أوفى منه إلا هو»،فزارني مواسياً، وقال لي: يانسب تأكد بأني سوف اراجع عليك وسأسافر إلى تعز وبعد ذلك إلى السخنة والحديدة ولو بعت هذه البنادق.. فأرسلت مع أحد الأخوة إلى الدكتور غيلان سعيد الشرجبي أسأله عن هذا،فقال لي:لاتُرع،هذا صادق، وأنا الذي أرسلته.
المزين محمد عثمان:
كنت كلما سافرت أو عدت من الغربة أذهب إلى ذبحان وشرجب والعزاعز والقريشة أزور أصدقائي هناك وكنت آنس بهم ولا أخشاهم مع أن منهم من يكتب إلى الإمام، ولكنهم كانوا يحترمونني، كنت أتحدث كثيراً، وكان يرافقني شخص هو أسنّ مني بأربع سنوات، ولايزال يعيش، اسمه محمد عثمان اسماعيل المزين، أي الحلاق، وقد كان نبيهاً يستمع إلي وأنا أتحدث بين الناس في مقابل القات، أضرب لهم أمثلة عن الثورات:
الثورة الفرنسية وكيف تخلص الشعب الفرنسي من الاستبداد والطغيان والاقطاع، ثم الثورة الروسية والثورة الصينية وهكذا حتى أصل بهم إلى الحكم الإمامي الكهنوتي، وكنت استشهد بأبيات شعرية من محفوظاتي الكثيرة، فأنا كما يقولون حفاظة اليمن، والله أعلم.
هذا المزين محمد عثمان كان يستمع إليّ وأنا أنشد قصيدة أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
فاستمع إلي وأنا أكرر هذه القصيدة ومن ضمنها هذه الأبيات:
وقالت لي الأرض لما سألت:
أيا أم هل تكرهين البشر؟
أبارك في الناس أهل الطموح
ومن يستلذ ركوب الخطر
وألعن من لايماشي الزمان
ويقنع بالعيش عيش الحفر
فحفظ تلك الأبيات ورآها بيت القصيد في التعبير عن حالتي في ذلك السجن الرهيب الذي كان كثير من الأحباب يخافون فيه عليّ من أن أعدم، وكنت شخصياً أعتقد بأنني لابد من أن أعدم على احتمال يبلغ ال 90%،فالإمام أحمد بمجرد أن أطلقوا النارس على منزله في تعز عام 1955م أعدم أخويه عبدالله والعباس، فكيف الآن وهو مضرج بالدماء؟ وكانت العيون محمرة نحوي.
في هذا السجن الرهيب وهذا الظرف الحالك زارني ذلك المزين، وقال لي:
يامحمد عبدالواسع، تذكّر:
أبارك في الناس أهل الطموح
ومن يستلذ ركوب الخطر
فعرفت أنه ذكي جداً، ليس كما كنت أتصور أنه يعمر البوري «النارجيلة» وينفعنا ويحلق الشعر إلخ فقط...
وفي اليوم الذي غادرت فيه التربة مركز الحجرية أقبل الناس وأنا فوق السيارة ويجانبي حارسان يودعونني ويقبلوني، فإذا بهذا المزين محمد عثمان يعتنقني ويهمس في أذني بكلمة:محمد تذكر أبارك أبارك .. انفرجت أساريري وابتسمت حتى أن بعض الأطفال الذين كانوا يتفرجون قالوا:
هذا الذي سوف يعدمونه،ذاهب وهو يبتسم! .. والعجيب أن شعوري في هذا الموقف شعور التفاؤل، فقد كان كل ماحولي يوحي إليَّ بأن الدنيا بخير وبأن الشعب سوف يعيش،سيعيش سيعيش الشعب.
وصلت بعد يومين إلى تعز وكان شاويش مقام الحجرية محمد السلامي قد حمل من العامل الجنداري إلى نائب الإمام حمود الوشلي رسالة تسليم« مأمورية» لكي يرسلني إلى الحديدة مخفوراً، فقال لي أنت ستذهب إلى أي مكان تريد وترك معي جندياً يحرسني، فذهبت إلى متجر علي بن أحمد سلام الأصبحي،بينما ذهب هو بالمأمورية ليؤمنوا لي طائرة مستعجلة إلى الحديدة لكي أحاكم هناك على اعتبار أنني واحد من الدستوريين الذين نادوا بالدستور...إلخ.
هكذا كان يشاع، ولكنني لم أكن خائفاً، قلت سأعدم وليكن،حبس .. حبس لم أكن خائفاً ولا وجلاً، وحين زارني الأخ والولد عبدالملك الأصبحي،وكان يواسيني ولا أنسى له هذا،فقلت له، أبعث لي عبدالرحمن عبدالواسع نعمان فربما هو أخطأ في الوشاية التي وصلت إليه من عدن،فجاءني عبدالرحمن عبدالواسع نعمان وطمأنني، فكان كلامه فاتحة خير وبشرى بأنني لن أمكث طويلاً في السجن وللتاريخ فإن المرحوم عبدالرحمن عبدالواسع لم يكن واسطة الوشاية وعلى العكس فقد كان الشافع الأول.
بعد أسبوع جاءت الطائرة تحمل مراسيل وأشياء للإمام،فطلعت مع محمد السلامي شاويش المقام ووصلنا إلى الحديدة، بينما سافر الجندي الآخر المرافق بسيارة إلى الحديدة، وفي المطار التقيت الأستاذ الكبير محمد عبده نعمان الحكيمي الذي كنت قد تعرفت إليه في جدة وفي الرياض،وهو أول يمني سفره الانجليز مع أن المعروف أنهم لايسفرون ولايسلمون أحداً،ولكن محمد عبده نعمان كان غير مرغوب فيه،فذهب إلى تعز والتقى الإمام أحمد، وبدأ «يذيع»وكان عنوان تعليقاته في الإذاعة« الجنوب اليمني المحتل»،وصل خبر إلقاء القبض علي وسجني إلى مصر، وبلغ ذلك إلى الأستاذ أحمد محمد نعمان،فكتب إلى عبدالله عثمان بني غازي الذبحاني هذه العبارة:«حميد يقتل،وسعيد ينتحر، ومحمد عبدالواسع يسجن،أما لهذا الليل من آخر؟»وسعيد المذكور هنا هو سعيد إبليس الذي نشرت بعض الصحف ولاسيما «فتاة الجزيرة» أنه انتحر.
من تعز كنت قد كتبت رسالة، وأنا في السجن مطلق اليدين والرجلين إلى الدكتور غيلان سعيد الشرجبي أرجوه أن يرسل لي محمد عثمان المزين كمرافق يتبعني إلى حيثما أكون،وقد وصل محمد عثمان إلى تعز لاحقاً بي ولكن بعد أن كانوا أخذوني إلى الحديدة،فلحق بي إلى هناك، وحاول الدخول إلى السجن لزيارتي فمنع لأنني كنت من ضمن المسجونين الذين لايسمح لأحد بزيارتهم.. بيد أن محمد عثمان هذا قد استطاع أن يدخل السجن،ولا أعرف كيف،وكل ما أعرفه أني سمعته يقول للحرس:«أناجار، وجار الكريم يجير»و،فسمحوا له،وكان يزرني كل يوم، وعندما يظهر لي كنت أشعر بأنه مزنة لظمآن في بيداء.
داوم المزين محمد عثمان على زيارتي، وظل يتعهدني، ثم تعرّف إلى فيصل عبدالله حسين نور من الحديدة،وكان يعرفني، فأرشده إلى المشير عبدالله السلال الذي كان من ضمن اللجنة التي تحاكمنا، فذهب إليه ثم إلى عبدالله الضبي.. ولا أعرف كيف استطاع أن يتسلل إلى قلبيهما، فقد قال للمشير السلال:« إن والدة محمد عبدالواسع حميد وصلت من الحجرية إلى الحديدة تراجع عن ولدها، وهي تهدي لك هذا القلم» وهو قلم شيفرز أو باركر، فقبله منه، وقال له:«عد قل لوالدته أن تعود إلى بلادها وأنه صافي وسوف نخرجه،فأغلب اللجنة قد أجمعت على براءته».
وطبعاً الوالدة لم تأت ولكن هذا كان أسلوب محمد عثمان.
من زملاء السجن:
ومن الذين كانوا في السجن آنذاك أذكر العميد محمد الرعيني وكان يومها برتبة نقيب،هذا الرجل الذي أعدم وقتل ظلماً عام 1966م وأنا أسميه شهيداً،والشيخ أمين عبدالواسع نعمان الذي لم أجد أجلد منه ولاأشد شكيمة وقوة وشجاعة وعدم مبالاة وقد ظل في السجن مايقرب من أربعة عشر عاماً فكان ما أن يخرج من السجن حتى يعيدونه بأية تهمة كانت، فقد سجن في عام 1944م وعام 1948م وعام 1955م وعام 1959م،حيث كانت تهمته الاختلاس إذ كان مسؤولاً مالياً في حجة، فاختلس من حيث لايشعر الآخرون مايقرب من ثلاثة عشر ألف ريال ماري تريزا لتسليمها إلى المشايخ رؤرساء العشائر الذين سوف يساعدون حميد بن حسين الأحمر لقيامه بالثورة التي قد تحدثت عنها.. اكتشفها الإمام فسجنه وظل تحت السياط،وللأمانة أن الإمام أحمد كان لايأمر بالجلد، كان يسجن أو يقتل، إلا أن الشيخ أمين عبدالواسع نعمان هو أول من جلد بالسياط، أو بالأحرى الأول من بين أربعة أمر بجلدهم الإمام، وهم الشيخ أمين عبدالواسع نعمان، وسعيد حسن إبليس، والشهيد عبدالله اللقيه، والهندوانه، وقد بقي الشيخ أمين نعمان في السجن حتى قيام الثورة.
ومن زملاء ذلك السجن أيضاً محمد الأهنومي وكان أخفّ المساجين قيوداً، والأستاذ حسين المقدمي الذي كان مثقلاً بالقيود «قيدان ومرود: والمرود حديدة بين الساقين إذا خطا الإنسان خطوة زائدة نصف فتر تضربه بساقه» وكان واجماً لايتحدث فعرفت من أمين نعمان أنه مدير المستشفى الذي أطلقت فيه النار على الإمام،وكان ذنبه أنه أخر في المستشفى الشيخ أمين عبدالواسع نعمان وقد صار المقدمي بعد الثورة وكيلاً لوزارة الصحة ثم وزيراً للصحة، ولايزال يعيش.. ولا أزال أذكر أنه كان الوحيد من بين المساجين الذي ينام في سرير من أخشاب ملوي عليه بالحبال الخوص وكانت «الكتن» تعشش فيه بينما هو يخلط ال د.د.ت بالدقيق لمكافحة هذه «الكتن» وأذكر أنه كانت لدى الأستاذ المقدمي مناعة ضد لقس تلك الحشرات وأن تلك الحشرات كان لديها مناعة من الموت بال د.د.ت.
وقفت ذات يوم بجانبه فوق السرير،وقد عرف من القيود التي أحملها أنني من الأحرار،فبدأت أنشده همساً أبياتاً من قصيدة ابن زيدون عندما كان في السجن في قرطبة:
ماعلى ظني باس
يجرح الدهر ويأسو
والمحاذير سهام
والمقادير قياس
ولئن أمسيت محبو
سافللغيث احتباس
إن قسا الدهر فللما
ء من الصخر انبجاس
ولقد توقف عند أحد الأبيات ولعله بيت القصيد بالنسبة إليه وهو:
ولقد ينجيك إغفا
ل ويرديك احتراسُ
وقد طلب مني أن أردد هذه الأبيات، فرددتها على مسامعه وفي اليوم الثاني أيضاً أشار إلي بسبابته أن تعال، ولم يكن بيننا سوى ثلاثة أمتار، فلما اقتربت منه أعدت عليه القصيدة كاملة، وفي اليوم الثالث دعاني أىضاً، وكان هو يردد: «ولقد ينجيك»، وأعاده ثلاث مرات، فقلت له: ياحسين لاتردد هذا البيت، أخشى من الجواسيس، وأرى بعض الحرس يلتفتون إلينا، وهناك أيضاً أحد الدويدرات واسمه سليمان علي الظرافي، فتوقف.
وحين حملوا الإمام على محفة إلى تعز مثخناً بالجراح، نقلوا المقدمي ونعمان واللقية والهندوانة إلى تعز، فظللت وحدي، وحاولت أن أنام على السرير الذي كان ينام عليه حسين المقدمي، وإذا بالبق تلقس بي وكأنني في جهنم.. ماهذا؟ كيف ينام حسين المقدمي؟ فأدركت تلك المناعة المتبادلة بينه وبين البق، وعدت إلى النوم على الأرض.. ولقد فرق الدهر بيني وبين هؤلاء الزملاء: فأمين عبدالواسع نعمان وحسين المقدمي وضعت على أيديهم المغالق«المغلقة في الأيادي إلى جانب القيود»، واطلعوهم بطائرة إلى تعز، فظللت وحيداً لم يكن معي سلوى سوى الشهيد العميد محمد الرعيني الذي كان نقيباً أومدير أمن عام الحديدة، وسلواي الثانية محمد عثمان المزين الذي كان يدخل إلى السجن صباح مساء دون أن يمنعه أحد ومن ذكاء هذا الإنسان أني قلت له ذات يوم وهو يحمل إلي السجائر همساً: يامحمد«الحاجة»، أي الرسائل في داخل علبة الكبريت.. فقد حصلت على قلم حبر جاف من العميد الرعيني «رحمه الله» وكان يخفيه في وسادته، وكنت أعطي بعض الحرس ريالاً أونصف ريال لكي استحم ثم أدخل إلى الحمام وأنزع قرطاس الرصاص الخفيف من داخل علبة سجائر روثمان وأكتب ما يخطر على بالي.. و في هذا تهور.. وممن كتبت لهم الاخوة في القاهرة وخاصة الأستاذ أحمد محمد نعمان وآخرون في عدن، وأرسلتها بواسطة فيصل عبدالله حسين نور«رحمه الله» فمن ذكاء هذا المزين تناوله الرسائل مني وهي في علبة الكبريت بحركة عادية لايشعر أحد بها، إذ أعطيه سيجارة وأعطيه الكبريت ليشعل، وأكون قد وضعت فيها الرسائل حين أشعلت لنفسي، وهكذا كانت خرج رسائلي من السجن.
النقل إلى تعز:
وصل من المملكة العربية السعودية محمد علي عبده المتزوج من بنت عمي، وهو من أسرتي وكان يحمل ألف ريال ماري تريزا، والألف ريال يومها مبلغ كبير، خمسمائة من الأهل المتبرعين، وخمسمائة من الشيخ المرحوم الشهيد سعيد سالم الأصبحي، ولم يستطع قريبي أن يزورني، ولكن بالمصادفة التقاني وأنا في السيارة مع خمسة من رفاقي المساجين، وبينهم محمد الكاظمي الأديب والشاعر والصحفي المشهور، وهو الآن موجود في تعز فقلت لمحمد علي عبده: ألحقني إلى تعز وأعطِ مامعك لمحمد عثمان المزين.
صحراء من رمال وشمس في صيف محرق مابين الحديدة وتعز مسافة 370كيلومتراً عبرناها في ثلاثة أيام: خرجنا حوالي الساعة الثامنة صباحاً، وأول شيء بدأت أعرفه أن الشمس قد ضربت رأسي فأصبت بالحمى ودخت وأغمي علي تقريباً، وإذا بذلك الإنسان الطيب الذي لا أستطيع أن أصف شمائله وأخلاقه الحميدة وهو ناجي شائع قد أخذ بندقية زميله حسين الروحاني ونصب رداءه عليها وصار يظللني إلى أن وصلنا إلى«بيت الفقيه»، فدخل حرس الإمام وكانوا خمسة إلى منزل العامل حاكم بيت فقيه، فلم يجدوا الحاكم، فكسروا الباب ودخلنا.
الشيخ ناجي شائع:
في هذه الرحلة عرفت أن أخلاق الانسان في اليمن قد تغيرت وأن العسكري صار متفهماً، فها هما ناجي شائع وحسين الروحاني وزملاؤهما من الحرس يعاملونني ويعاملون زملائي المساجين بأفضل مما كنت أتوقع: كان زملائي لايملكون شيئاً وهم أربعة، أما أنا فقد كان في«ثباني» كما يقولون في لحج أي في جيبي عشرون ريالاً والبقية طرحتها عند المزين، فأردت أن أعطي الخادم الذي يأتي بالطعام ثلاثة ريالات، وإذا بالشيخ شائع يثب وكأنه نمر، قائلاً: «اسمع ياهذا، أنت محبوس، نحن سنعطيك، نحن«عن قرية» أي مجاناً».
وجاؤوا بالغداء فتغدينا جميعاً، ثم جاء دور مضغ القات، فأعطيته خمسة ريالات، فقال: اسمع، أنت محبوس، نحن سنعطيك» وبعد لأي ماقبل أن أعطيه ريالاً لكي يأتي بقات لي ولزملائي، وهكذا جلسنا في صفين متقابلين، خمسة من الجنود، في صف، يقابلهم خمسة من المساجين لايفصل بيننا سوى مترين، والقات بيننا.
كنت خلال الطريق أوهم العكفة بأني انسان بدوي، أو من الصومال أو من خارج اليمن، وأنني لا أفهم شيئاً، ولكنهم اكتشفوني في بادرة من بوادر الكلام، فبينما كان محمد الكاظمي يردد:«ويل الانسان من ظلم الانسان» ويدعو دوماً علي محمد تركي مدير الأمن في تعز الذي سجنه ظلماً وعدواناً، إذ طلعت الشاعرية في ذهني، فقلت له: صدق المتنبي، وبدأت أنشده همساً:
صحب الناس قبلنا ذات الزمانا
وعناهم من شأنه ماعنانا
ربماتحسن الصنيع ليالي
ه ولكن تكدر الاحسانا
إلى أن وصلت إلى قوله:
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا
ومراد النفوس أهون من أن
نتعادى فيها وأن نتفان
ثم رفعت صوتي في البيت الأخير:
غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولايلاقي الهوانا
وإذا بحسين الروحاني يقول لناجي شائع: ألم أقلك لك إن هذا من الاخوة، أي من الاحرار، أي من الذين هم ضد الإمامة وضد هذا الحكم؟ ثم قال له: أراك تعطف على هذا، أي علي.
فقال الشيخ ناجي: هذا من الحجرية دين الله الواحد منهم يساوي قبيلة ثم أردف وسألني أتعرف الشيخ أحمد سيف شرجبي؟ قلت: نعم.. أتعرف الشيخ سعيد نعمان الحكيمي؟ أتعرف؟ حتى وصل إلى سعيد حسن فارع ابليس، أتعرف سعيد إبليس؟ قلت: لا أعرفه وعرفت بعد خروجي من السجن أن الشيخ ناجي كان زميلاً لسعيد ابليس في سجن حجة، فحارسي اليوم هو زميل سعيد ابليس في سجنه بالأمس، وعرفت أيضاً أن ناجي شائع كان محكوماً عليه بالاعدام لم أكن أعرف هذا.. عرفت ذلك من الشيخ سنان أبولحوم في عدن.
وعندما وصلنا إلى«حيس» كان الشيخ ناجي يحضنني ويلفني بين كتفيه لينزلني من السيارة المرتفعة إلى الأرض، ويتناول الغداء معنا، ويدفع ثمن الدجاج والجبن وغير ذلك لي ولزملائي حتى وصلنا إلى تعز.
وفي «هجدة» أنزلونا لنفطر، وكنت أريد أن أتبول، والسيارة كانت تسير بسرعة ستة كيلومترات في الساعة في الجبال، ولم يكن هناك طرق معبدة طبعاً، وكان الناس من تلك القرى المجاورة يلتفون حولنا، وينظرون إلينا بعاطفة مشبوبة، لأننا في نظرهم ذاهبون إلى الاعدام.
نصيحة بالانتحار:
أذكر هنا هذه الحادثة الطريفة: بينما كنت أضع رجلي في «الترسة» لأرتفع قليلاً ثم ينتشلونني إلى السيارة، إذ مر فتى لم يلتفت إلى أحد وكان أشجع القوم، وقال لي كلمة لا أزال أتذكرها بلهجته البدوية«: «أونا يابن» أي ها هنا ياولد، «تحت الموتر» أي ارم بنفسك تحت السيارة «قدهي موته لمو تذهب معهم إلى تعز يعذبوك ويقتلوك» وانصرف.
التفت إليه باسماً لأشكره لكنه انغمس بين الجماهير وكان أشجع القوم.. وصلنا إلى تعز، وهناك أعطيت ورقة إلى هذا المرافق الطيب ناجي شائع بحوالة 25ريالاً ماري تريزا إلى علي بن أحمد سلام، فعندما وصلت الحوالة إليه أعطى النقود للشيخ ناجي وقال: قل له إذا أراد نقوداً فسنعطيه، وهذه الورقة مزقها.. ومزقها.
لقد ترك ناجي شائع في نفسي أثراً طيباً حتى أنني بعد الافراج عني ووصولي إلى عدن كتبت رسالة إلى الأستاذ محمد محمود الزبيري قلت له في نهايتها: لوكنت معي، أو لوشاهدت ماشاهدت، لقد تغير الجندي الذي وصفته إن الجنود لم يعودوا أولئك البلهاء، أو«خليفة الحمادي» ولانطبق عليهم قولك:
والعسكري بليد للأذي فطن
كأن ابليس للطغيان رباهُ
أما ناجي شائع فقد التقيته بعد قيام الثورة في الحديدة في مطعم، وكان يرافقه أربعة أشخاص وأنا يرافقني ثلاثة، فذهبت إلى مدير المطعم لكي أدفع عنه، وإذا به ينط، ولا أنسى ذلك الانسان الكريم، ويقول: نحن سنضيفك الآن، نحن مبسوطون، نحن مرتاحون ولله الحمد.
مر الزمن ثم التقتيه في باب السبح بصنعاء، وكنا نشتري القات، فتعانقنا كصديقين حميمين، فحاولت أن أشتري له قاتاً، لكي يمضغه مع أصدقائه أو أكون معهم، ولكنه أيضاً رفض بإباء وشمم، وقال لي: ألا زلتم هكذا أنتم أصحاب الحجرية.. أو أنت بالذات.. أقول لك نحن سنضيفك، ولكن أنا مشغول الآن وسألتقيك فيما بعد، هذا كان في أوائل عام1963م، ثم اختفى ناجي شائع، وظللت أسأل الغادي والرائح من بني حُشيش، فعلمت أنه تحول إلى جند أو إلى ضابط مع الملكيين لأسباب، فقد أهين هو وكثير من رفاقه في تلك الثورة العارمة.
ومر الزمن أيضاً وتعينت فيما بعد نائباً لوزير المواصلات، ثم وكيلاً لوزارة الصحة ثم سفيراً للجمهورية العربية اليمنية في الصين الشعبية آنذاك، ثم عدت وتعينت وزيراً للوحدة في عام1968م، ولم ألتقه.
رد الجميل:
وذات يوم كنا في منزل الشخ سعد الجهمي رحمه الله الذي يجتمع فيه عليه القوم أمثال الشهيد عبدالعزيز الحروي رئىس الغرفة التجارية بتعز، وجازم الحروي، وعلي محمد سعيد، وقد حضر ذلك المقيل الشيخ عبده فارع غانم الأديمي، فحدثتهم عن ذلك الانسان الوفي والشهم، وفي اليوم التالي إذا بعبده فارع غانم يقول لي: ناجي شائع موجود في فندق ديلوكس في تعز يسأل عنك.
فذهبت إليه ومعه رفيق واحد فقط فأخذته معي في سيارتي الفولغا إلى البيت وتغدينا معاً، واشترينا قاتاً، وذهبت إلى منزل الشيخ سعد الجهمي، وعندما سألته عن أي خدمة يريد أن أقدمها له، قال لي: أما الآن فإني أطلب منك خدمة.. فقلت له: وماذا؟ قال: أخي قتل خطأ ويريدون مني دية.. فسألته: كيف قتل: أبعيار ناري؟ قال: لا كان يدحرج بعض الصخور ليبني بها عريماً للعنب والقات فمرت الصخرة فوق شخص فقتلته، وهذا قتل خطأ، وقد حكموا عليه بأن يدفع نصف دية، أي 12000ريال والخمسة ريال آنذاك تساوي دولاراً» وقال لي: أود إذا مكن أن تقرضني 4000ريال فقلت له: أبشر أبشر، على الرأس والعين.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى أمين عبدالواسع نعمان المناضل المكافح الذي تعذب كثيراً وطويلاً في السجون، وكان محافظ لواء تعز فأخبرته عن ناجي شائع، وكان محافظ لواء تعز فأخبرته عن ناجي شائع،وكان يعرفه طبعاً، فسلم لي 2000ريال ثم عبدالعزيز الحروي2000ريال وعلي محمد سعيد 2000ريال وأنا لم أقصر وهكذا جمعت له مايساوي 14000ريال وقلت له: هذه السيارة خذها توصلك إلى صنعاء، أو إلى بني حُشيش وقلت له كلمة لاأزال أتذكرها: وأين الفريق قاسم منصر الذي هو منكم من بني حشيش؟ لم لا يساعدك؟ فقال لي: كلمة بكلمة وعينه تقدح شرراً: ذاك الذي تنكر، وذلك هو الصائع الضائع، وسوف يلاقي مصيره.. وهكذا افترقنا.. ومنذ عام 1970م حتى الآن لم أجد هذا الانسان رغم ذهابي إلى بني حشيش رحمه الله إن مات ورعاه الله إن كان عائشاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.