البحسني يشهد عرضًا عسكريًا بمناسبة الذكرى الثامنة لتحرير ساحل حضرموت    يجب طردهم من ألمانيا إلى بلدانهم الإسلامية لإقامة دولة خلافتهم    ماذا لو أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيل؟    السامعي: مجلس النواب خاطب رئيس المجلس السياسي الاعلى بشأن ايقاف وزير الصناعة    شاهد ما الذي خرج من عمق الأرض في الحرم المدني عقب هطول الأمطار الغزيرة (فيديو)    إعلان حوثي بشأن تفويج الحجاج عبر مطار صنعاء    بينها الكريمي.. بنوك رئيسية ترفض نقل مقراتها من صنعاء إلى عدن وتوجه ردًا حاسمًا للبنك المركزي (الأسماء)    استشهاد وإصابة أكثر من 100 فلسطيني بمجازر جديدة للاحتلال وسط غزة    قيادي حوثي يذبح زوجته بعد رفضها السماح لأطفاله بالذهاب للمراكز الصيفية في الجوف    انهيار كارثي للريال اليمني.. والعملات الأجنبية تكسر كل الحواجز وتصل إلى مستوى قياسي    ماذا يجري في الجامعات الأمريكية؟    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    البخيتي يتبرّع بعشرة ألف دولار لسداد أموال المساهمين في شركة الزناني (توثيق)    لماذا نقرأ سورة الإخلاص والكافرون في الفجر؟.. أسرار عظيمة يغفل عنها كثيرون    فشل العليمي في الجنوب يجعل ذهابه إلى مأرب الأنسب لتواجده    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    مدرب بايرن ميونيخ: جاهزون لبيلينغهام ليلة الثلاثاء    لأول مرة.. مصر تتخذ قرارا غير مسبوق اقتصاديا    رسالة سعودية قوية للحوثيين ومليشيات إيران في المنطقة    ليفاندوفسكي يقود برشلونة للفوز برباعية امام فالنسيا    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    طفلة تزهق روحها بوحشية الحوثي: الموت على بوابة النجاة!    الكشف عن الفئة الأكثر سخطًا وغضبًا وشوقًا للخروج على جماعة الحوثي    ثلاثة صواريخ هاجمتها.. الكشف عن تفاصيل هجوم حوثي على سفينة كانت في طريقها إلى السعودية    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    رئيس مجلس القيادة: مأرب صمام أمان الجمهورية وبوابة النصر    الجرادي: التكتل الوطني الواسع سيعمل على مساندة الحكومة لاستعادة مؤسسات الدولة    حاصل على شريعة وقانون .. شاهد .. لحظة ضبط شاب متلبسا أثناء قيامه بهذا الأمر الصادم    رئيس كاك بنك يشارك في اجتماعات الحكومة والبنك المركزي والبنوك اليمنية بصندوق النقد والبنك الدوليين    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    فيتنام تدخل قائمة اكبر ثلاثة مصدرين للبن في العالم    عاجل محامون القاضية سوسن الحوثي اشجع قاضي    ليفربول يوقع عقود مدربه الجديد    رباعي بايرن ميونخ جاهز لمواجهة ريال مدريد    قائمة برشلونة لمواجهة فالنسيا    المواصفات والمقاييس ترفض مستلزمات ووسائل تعليمية مخصصة للاطفال تروج للمثلية ومنتجات والعاب آخرى    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    وفاة امرأة وإنقاذ أخرى بعد أن جرفتهن سيول الأمطار في إب    ''خيوط'' قصة النجاح المغدورة    افتتاح قاعة الشيخ محمد بن زايد.. الامارات تطور قطاع التعليم الأكاديمي بحضرموت    الذهب يستقر مع تضاؤل توقعات خفض الفائدة الأميركية    اليمن تحقق لقب بطل العرب وتحصد 11 جائزة في البطولة العربية 15 للروبوت في الأردن    استهداف سفينة حاويات في البحر الأحمر ترفع علم مالطا بثلاث صواريخ    كانوا في طريقهم إلى عدن.. وفاة وإصابة ثلاثة مواطنين إثر انقلاب ''باص'' من منحدر بمحافظة لحج (الأسماء والصور)    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    ريمة سَّكاب اليمن !    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبدلواسع الاصبحي .. يتذكر
نشر في الجمهورية يوم 30 - 12 - 2007

لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الاطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغريبتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. نداء.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
أولاً: إن وصولي إلى السعودية قبل الحج بعشرة أيام أدى إلى ختم جواز سفري بكلمة «حاج» الأمر الذي يحول دون حصولي على إقامة، ولو كنت أعرف ذلك لأخرت سفري إلى مابعد الحج فيكون الحصول على الإقامة أمراً ميسوراً، ولكن هيهات.
ثانياً:لم أكن أفهم ، ولم يدر في خلدي أن هناك اتفاقاً غير معلن وغير مكتوب بين السعودية والإمام أحمد مضمونه أن كل من تسوّل له نفسه الحديث عن الثورة أو عن مظالم الإمام أو أي شيء آخر يسيء إلى الإمام وتعلم به المخابرات السعودية يسفّر.
ثالثاً: إن كل من يطلبهم الإمام من الذين يشكّ فيهم أنهم يعارضونه أو يعارضون حكومته تقوم السعودية بتسليمهم له. وهذا ماحدث للمناضل الكبير الذي لايزال يعيش الأستاذ محمد عبدالله الفسيل،فقد فرّ من اليمن مروراً بعدن،فضاقت به الأرض وظلّ يتسكع في شوارع عدن إلى أن قرّر الهجرة إلى المملكة العربية السعودية لكي يعمل هناك،فعلم به الشيخ المرحوم وكيل الإمام علي محمد جبلي،وكان قد نزل في فندق في «باب شريف»،وإذا بالشرطة تأتي إلى الفندق وتأخذه مع أدواته في طائرة إلى الحديدة ومنها إلى السخنة، وهذه قصة طريفة ومحزنة ومؤلمة ليس هناك مجال لسردها.
أقول: لم أكن أعرف كل هذا،وكنت أنزل في منطقة الكندرة،وأمشي سيراً على الأقدام أو في سيارة،وكانت مدينة جدة فوضوية وشوارعها بدون تخطيط ، وكنت أذهب إلى باب شريف وهناك التقيت الزميل القديم الذي ذكرته لكم من قبل حسن عبدالله جرادي أخو الخائن ، وشتان بين الاثنين أحمد وحسن..وكان له فندق بسيط صغير يؤجره ومعرض للأثاث،وكنت أحياناً أذهب لأتسلّى بجانب مكتب شولق المليونير والصراف الذي مات قبل بضع سنين،والذي أحسنت إليه اليمن،ولم يحسن إلى اليمن ولا إلى أحد،وليرحمه الله.
وكان هناك من معارفي أحمد أمين عبدالواسع نعمان الذي أصبح عام 1988م محافظاً للواء ذمار وهو عضو في مجلس النواب وما زال حياً،هذا من الكتاب عند شولق،وعثمان عميرة الذي توظف بعد الثورة في البلدية،وعلي عمر النابهي الذي لايزال موظفاً في بيت هائل في الحديدة..وكان يروق لي أن أتفرج على الطوابير التي تريد أن تقطع تذاكر عائدة إلى بلادها من العمال المتعبين،وكانت الشرطة أحياناً تهينهم وتدفعهم بالأيدي ،فكنت أدعو أحدهم،وأقول له:من أهانك؟فيقول: العسكر .فأقول له:إن الذي أهانك هو الإمام..هو سبب غربتك ،وتشردك..الخ وربما كانت هذه مراهقة سياسية،ولكن هكذا كنت أريد أن أفهم كل يمني أن الظلم الذي حاق به هو من الإمام وليس من أي أحد ،ولا من أية حكومة أخرى..ولكن أحمد أمين كان يخاف، ويقول : يامحمد عبدالواسع دعنا نعمل دعنا نأكل ونعيش..
وذات يوم جاءني محمد علي علوي الجفري من جفارية الحديدة وليس عبدالرحمن الجفري ،وكنت قد تعرفت إلى محمد علي في عامي 1952م و1953م في عدن،فقال لي: قدم من القاهرة مسفّراَ الاستاذ ابراهيم صادق،
هل تعرفه؟
قلت: سمعت بشعره،وحفظت بعض مقطوعات من أشعاره ولا سيما هذه التي يقول فيها:
ها أنا أين أنت يا من أناديك من بلاد بعيدة
هاأنا أين أنت يا أخي لنحيا معاً في حياة سعيدة
ليس فيها زيد ولا شافعي لا انقسام إلى خلايا عديدة
إنّ أمي باتت تئن بصنعاء وخالي مكبل بالحديدة
وأبي في ذمار لايجد القوت وقد جفف الصيام وريده
وأخي في تعز باع أراضيه وهاجر إلى بلاد بعيدة
وأحفظ مقطوعات أخرى غيرها..
فقال لي :سفّر بتهمة أنه شيوعي بالبنطلون والقميص ليس إلا.
وكنت أعرف أن لديه مسحة ماركسية يسارية،فذهبت إليه..
وفي اليوم التالي وصل إلى جدة المحسن الكبير وزميلي الذي تحدثت عنه آنفاً الشيخ علي حسين الوجيه ،فأخبرته عن ابراهيم صادق .فقال : هذا من الحديدة وأعرفه.كيف نصنع به؟
فقلت له: أنا قد جمعت له 250ريالاً سعودياً.فقال: وهذه تذكرة سفر و500 ريال أيضاً،يذهب إلى عدن يبحث لنفسه عن عمل أو أي شيء آخر..ولكن ابراهيم صادق كان مغامراً أكثر منا، وكان خيالياً،وكان معه دفتر قد كتب فيه اللائحة الداخلية للثورة اليمنية التي ستكون.
وتعرفت أيضاً إلى مساوى أحمد الحكمي،و،كان معه تابعية سعودية،وشقيقته متزوجة من أحد السعوديين وهو من الحديدة أيضاً..كان يجمعنا في غرفة إدارة وكالة التربية والتعليم،وفي الطابق الأسفل المخابرات،ولكنها لم تكن قوية،فظللنا أسبوعاً كاملاً نناقش إبراهيم صادق حول اللائحة الداخلية وحول مايشبه الدستور،وكان يقول : جيزان ونجران وعُمان من اليمن،وبعد ثلاثة أيام اقنعناه بأن يتنازل عن عُمان ونوافق له نحن على جيزان ونجران..وهكذا..وذات يوم قيل لى إنه قد ألقي القبض على الاستاذ الشاعر الفذ ابراهيم صادق ومحمد علي علوي الجفري، وفهمت أن وراء ذلك المفوضية اليمنية التي على رأسها حسين مرفق ولا يزال يعيش في جدة وعلي الجنّاتي الذي تحوّل إلى موظف لدى الإمام بدلاً من أن يكون مع الأحرار.
وعلمت أنهما قد أرسلا مخفورين إلى مطار الحديدة،وظلا في السجن بضعة أشهر،ثم أفرج عنهما كما قيل لي فيما بعد وأنا في الرياض،والذي أخرجهما هو محمد البدر الذي كان ولياً للعهد وكان عاطفياً أيضاً،وكان يريد أن يكسب الأحرار والمثقفين..وبلغني أيضاً أنهم ألقوا القبض على مساوى أحمد الحكمي الذي كان يجمعنا في تلك المدرسة التي كان يدرس فيها..وقد ظل مسجوناً خمسة عشر يوماً لا لشيء إلا لأنهم كانوا يسألونه عن صاحب الشجّة التي مازالت في جبيني ،ومساوى أحمد كان من النوع الطيب،وكان لايريد أن يشي بي بالإضافة إلى أنه لا يعرف مقرّي وينسى الأسماء،فكان يقول لهم هذا صاحب الشجّة اسمه الاصبحي ..الأصبحي محمد...الخ مساوى أحمد الحكمي هذا تشبّع فيما بعد بالروح الماركسية وذهب إلى القاهرة ليدرس ،وبعد الثورة بثلاثة أشهر التقيته في صنعاء وقد تقلّد عدة مناصب منها رئيس مجلس إدارة الشركة التجارية اليمنية المختلطة بين مصر واليمن..وهذا له قصة كيف كانت تحولاته وكيف وكيف؟
بقيت في حيرتي ماذا أصنع؟ وأين أتجه؟ إذا ألقوا القبض عليّ في السعودية فإما أن يسجنوني أو يسلموني كما سلموا إبراهيم صادق ومن قبله الفسيل، ومعنى هذا أني سأظل في السجن مدة طويلة، وقد يبحثون عن ماضيّ وعما كنت أكتب وعن أعمالي وعن وعن أشياء كثيرة مركونة في الظل ماتلبث أن توضع تحت المجهر إذا قُبض عليّ.
وهكذا لم أجد أمامي إلا أن أذهب سراً إلى التاجر الطيب الذكر محمد أحمد سلام الأصبحي رحمه الله الذي عاش طويلاً في جدة، وقلت له: أنا في خطر، هل بإمكانك أن تنقذني وتنقذ روحاً وتنقذ عائلة وتنقذ أسرة؟ يامحمد أحمد لم أقل لأحد أني في خطر.. ولو علم سعيد علي الأصبحي لتبرأ مني.. لأنه رئيس الجالية اليمنية ويصدر الجوازات..إلخ رجل فاضل.. وهو الذي دعاني للعمل معه في مكتب شؤون الجالية اليمنية.
فقال لي بلهجته الساخرة والعذبة، وكان شجاعاً،: يامحمد أنا سأعمل جهدي لإنقاذك وإخفائك حتى أوصلك الرياض، فقلت: هذا ما أريد فقال: هل تستطيع أن تصبر على «لقصات» وعض البعوض، وستنام عندي لأنه ليس لي مع عائلتي إلا غرفة واحدة والصحن «الدارة كما يسمونها» في جدة.
وقلت له: فلأعرض لأي عض سواء من البعوض أو الكتن أو البق أو غيره.. المهم أن أنجو من السجن والتشريد من جديد.. وهكذا ظللت عنده في الليل لا أنام من عض النامس ولكن في النهار أنام وأنا مرتاح البال.. ثم دبّر تذكرة سفر بالطائرة من جدة إلى الرياض ب 250 ريالاً، وسافرت إلى الرياض فألتقيت أول ما ألتقيت بمندوب سعيد علي الأصبحي رئيس الجالية اليمنية الذي كان ينتظرني، ومن لن أنساه أيضاً: بجاش حيدر مجاهد الأصبحي، وكان سعيد علي رحمه الله قد علم مسبقاً بقدومي، هذا الإنسان الفاضل الذي كان يعمل ويكسب الملايين، ولكنه كان ينفقها أو ينفق نصفها في خدمة اليمنيين، والذي قتله الأفاقون المخربون أصحاب الجبهة أيام عبدالله عبدالعالم في أوائل أيام تولّي أحمد الغشمي رئاسة الجمهورية، كان بسيطاً وقتل والقصة معروفة.
ظللت في الرياض مدة ثلاثة أشهر، ولكن لامناص لي من العمل رسمياً، فكيف أعمل؟ وكان رحمه الله يشفق عليَّ كثيراً ويعطف عليَّ ويعطيني ثلثي مرتب، ولكني خجلت من نفسي، وقلت ماذا أصنع؟ هل أبقى هنا وأنا بدون عمل ويدفع لي هذه المبالغ؟ فكّرت في أن أحصل على جواز، وأمرّ به في أية منطقة حتى أعود إلى عدن على الأقل، وهناك سأدبّر لي عملاً أيّ شيء كان حتى ولو أعود إلى فرنسا، أمّا جيبوتي فلن أعود إليها، لأني قد عرفت أن فيها جواسيس وكل عيونهم محمرّة نحوي.. وبالمصادفة كان هناك في الدمام مدير مكتب شؤون اليمنيين التابع لسعيد علي الأصبحي، واسمهُ أحمد محمد الحكمي الذي توجّه بعد عام من وصولي بمنحة مدفوعة من سعيد علي الأصبحي للدراسة في القاهرة ومنها توجّه إلى ألمانيا، ولايزال يعيش، وهو موجود في صنعاء وزير مفوض، وتزوج ألمانية إلخ.
أقول وجد أحمد محمد الحكمي جواز سفر ليمني تركه وفيه ورقتان «4صفحات» مكتوب فيها شوهد في مطار الدمام قادماً من عدن، وفيه إقامة لمدة سنة مضى عليها ستة أشهر، فجاء فرحاً متجمّلاً لسعيد علي الأصبحي، وقال له بالحرف الواحد، وهو لايعرفني، ياشيخ سعيد وجدت جوازاً وبإمكاني أن أخرج الورقتين وألصقهما بجواز ابن عمك محمد عبدالواسع، فقال له الشيخ سعيد: هذا هو محمد عبدالواسع بجانبي.
فأخذنا الورقتين من ذلك الجواز وقطعنا ورقتين من جوازي وألصقناها، وإذاً فأنا مقيم.. وهناك بدأت أعمل.
بدأت العمل موظفاً كمدير لمكتب شؤون اليمنيين الذي يرأسه الشيخ سعيد علي الأصبحي، وهو مقاول مشهور، ورئيس الجالية اليمنية، وكان قد أعطي له حق إصدار الجوازات، وكان يضمن كل يمني يمرّ بالرياض والمنطقة الشرقية والدمام والخبر والظهران، وكان قبلي في إدارة المكتب سلطان علي راوح الشيباني الذي يعمل الآن في وزارة الخارجية، وقد بقي إلى جانبي أكثر من أربعة أشهر، ولكنه كان يتوق لإكمال دراسته الثانوية، فأرسله سعيد علي الأصبحي إلى القاهرة للدراسة على حسابه، وهنا وفد علينا سعيد حسن فارع، الملقب «إبليس».
هذا الإنسان قلة من اليمنيين هم الذين يعرفونه.. وأنا شخصياً لم أجد في حياتي كلها إنساناً ديناميكياً وحركياً مثله، كان يتحرك في كل منطقة، وأقول أولاً إنه كان من الفدائيين الذين طلعوا إلى صنعاء في ثورة 1948م، واستطاع أن يتسلل بذكاء خارق، ويفرّ إلى عدن، وقد آل على نفسه أن لايتزوّج حتى تنتهي الإمامة الفاسدة من اليمن، فطلق زوجته وتغرّب، وكان وكيلاً لشركة بيبسي كولا في الخبر والدمام، وكان عندما يغيب يحلّ محلّه سعيد محمد الحكيمي، الموجود حالياً والمشهور بصنعاء، فالتقيت سعيد حسن فارع ذات ليلة في مأدبة عشاء لدى الشيخ سعيد علي الأصبحي، فقال: يا أخ سعيد لدي رسالة من ثلاثة أشهر من الأستاذ أحمد محمد نعمان، وهذا بيني وبينك لايوجد سوانا إلا ابن عمك، والرسالة باسم محمد عبدالواسع الأصبحي، فقال له: هذا هو محمد عبدالواسع.
قال: أنا أسمع به.
قلت: وأنا أسمع بك أيضاً، لكننا لم نتعارف.
وكانت الرسالة موجهة من الأستاذ إليّ في جدّة جوابية على رسالتي الطويلة، التي كانت في سبع وعشرين صفحة، وصورة عنها في دفتر مع أحمد أمين عبدالواسع نعمان الذي كان يعمل في مكتب شولق في جدّة، ولاأدري إن كان يحتفظ بها أم أضاعها.
وقد جاء في رسالة الأستاذ نعمان الجوابية «يا أخ محمد قرأت رسالتك وعرضتها على المسئولين في مصر فاستفادوا منها فائدة كبيرة خاصة مايتعلق منها بمداخل البحر الأحمر وجزرها وخطورة إسرائيل في البحر الأحمر».
وأذكر أني في تلك الرسالة نبهت الإخوة المسئولين المصريين إلى أن فرنسا في أيام جيموليه تفكر في أن تعطي إسرائيل مداخل باب المندب، وباب المندب يقابلها «كما قلت سابقاً والتي يعرفها الأستاذ الكبير حسين علي الحبيشي» سيان بجانب أبخ وبعدها تسير إلى رُحَيْتَه ومنها إلى عصب.. طبعاً سيان تتحكم بالبحر الأحمر، وهي ساحل، وكانت إسرائيل تريد أن تبني قلعة مسلحة بحيث تحمي أيضاً مداخل باب المندب، لأن مابين جزيرة ميون التي يطل عليها جبل الشيخ سعيد وبين سيان عشرين كيلومتراً، ومعنى هذا أن لفرنسا الحق في 10كم، وعددت لهم الجزر الموجودة وسمّيتها، وذكرت لهم أن هناك شركة إسرائيلية لتصدير اللحوم، وهي شركة اينكود، وقد قمت بتعطيل عمل هذه الشركة حين كنت أميناً عاماً لنقابات عمال الميناء حين أوعزت إلى بعض الإخوة الصوماليين واليمنيين بأن يفتعلوا إضراباً، فذهب اللحم سدى وقيمته ما يقرب من مليون دولار.
أعود إلى حيث تعارفت والأخ سعيد حسن فارع «سعيد ابليس»، فقد التقاني في اليوم التالي لتعارفنا وقال لي: الحمدلله أني وجدتك، فأنا لم تكن لي فرصة بالنسبة إلى مدينة الرياض، واليمنيون فيها كثيرون حوالي 15000 إنسان، أنا أودّ من يجمع التبرعات، فهل تستطيع.
قلت: على الخبير وقعت...
وعلى الرغم من أني كنت في خطورة إلا أني كنت شغوفاً بجمع التبرعات من أجل العمل الوطني.
حميد بن حسين الأحمر
تعرفت إلى حميد بن حسين الأحمر بالاسم فقط، عندما كان سجيناً في حجة عام 1948م، وكان شبه أمّي، فتعرف إليه الأستاذ أحمد محمد نعمان حين كان سجيناً مع بقية الأحرار،فبدأ يدرسه وكان ذكياً جداً بعقلية كمبيوتر، فالتهم تلك الدروس.. حتى أنني سمعت الشيخ سنان أبو لحوم يقول:إن الأستاذ أحمد محمد نعمان قد تفله تفلاً.
ما سأكتبه عن هذا الرجل هو صفحة واحدة من حياته، أما بقية الصفحات كميلاده وأعماله وماذ صنع و.. و.. فهذه مسؤولية الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر ومسؤولية مجاهد أبو شوارب وآخرين..
ماسأكتبه أنا يبدأ من أواخر 1957م وأوائل 1958حين بدأنا نتحرك، وكانت الفكرة أن ثورة 1948م وئدت لأسباب منها أن المشايخ لم يشتركوا فيها إلا قليلاً، وأنه كان هناك أيضاً في شمال الجزيرة العربية من هم ضد الثورة، وعليه لابد من أن تكون هناك رئاسة من القبائل، وتكون البقية من المثقفين،وقد رشح حميد بن حسين الأحمر لرئاسة الجمهورية سراً.
وهذا الأمر لم يكن معروفاً إلا لأفراد قلة لايتجاوز عددهم الثلاثة في السعودية وكان معروفاً أيضاً في القاهرة لمحمد أحمد نعمان الشهيدنجل الأستاذ أحمد محمد نعمان، وبدأت المنشورات ترسل من عدن، أما في السعودية فلا..
وأقول وأؤكد ولا فخر أن التبرعات التي جمعت من المملكة العربية السعودية من المغتربين والمهاجرين لم يجمع مثلها إطلاقاً.
لماذا؟لأنني كنت في الرياض مدير مكتب شؤون اليمنيين، إذ كنا نضمن الإقامة ونجدد الجوازات ونصدرها،وكان حسين مرفق يعطي كل طلبات سعيد علي الأصبحي عشرة آلاف جواز سبعة آلاف جواز .. الخ لذا فقد كنت أعرف معظم اليمنيين، وكنت أمر بهم في متاجرهم، وأقول للذين أعرفهم: أنت عليك 200ريال وأنت 500 وأنت 300 الخ.
أما سعيد علي الأصبحي فلن أنسى أنه كان يدفع في كل شهر ما لايقل عن 2000 ريال وعبدالله محمد صالح الأصبحي أو الأديمي من 500إلى 1000 ريال في الشهر.. والآخرون أيضاً حتى محمد شمسان أخو الشيخ عبدالسلام شمسان لم يكن يقصر وكان معي في المكتب زميلان أحدهما من الوادي من صنعاء علي محسن الزرقة والثاني أحمد حسين النجار، كانا معي وكنت أرسلهما أو يذهبان بنفسيهما متطوعين لتوعية العمال اليمنيين بدلاً من أن يظلوا في المساء يرقصون ويلعبون.
فكان النجار هذا يطلع فوق صخرة ليوجههم قائلاً: من ظلمكم؟ من شردكم؟ أين اليمن الخضراء؟ ويناقشهم،كان دينمو في العمل الطوعي والتوعية السياسية والوطنية، كما كان معي أيضاً عبدالملك الأصبحي وسلطان الشيباني.
لقد كنت أجمع ولافخر،في أقل شهر 15000 إن لم أقل 20000 ريال وكان سعيد إبليس يمر فيأخذها وهو يجمع من الدمام والخبر ما يجمع،ومحمد أحمد سلام من جدة فترسل كل هذه المبالغ إلى القاهرة، ويرسل مايرسل منها إلى اليمن.. وهناك بدأت الحركة الوطنية.. عادت الحركة الوطنية من جديد، بمرشحها الأول لرئاسة الجمهورية حميد بن حسين الأحمر..
هكذا كانت الفكرة، ومعنى هذا أننا كنا نلتم من جديد.
وأذكر حين ذهب الإمام أحمد مشلولاً أو مريضاً بمرض خطير إلى روما في أوائل 1959م، أن القبائل كانت تزمل حينما يمر حميد بن حسين الأحمر بجانب دار البشائر وفيها ولي العهد محمد البدر،وكان في زاملهم تحدٍ حيث يقولون:«إمامنا ناصر ومن بعد حميد
سبحان من رد العوايد لأهلها»
يقصدون ناصر مبخوت الأحمر طبعاً.
كنا مغتربين أيضاً.. إذاعة صنعاء تحولت إلى إذاعة حرة.. أتذكر كلمة للبدر:«أيها الأخوة اعذروني أنا ضحية عهد فاسد».. أحمد حسين المردني كان يعلق من الإذاعة وكان كثيرون يقولون هذا من صوت العرب بينما هو يعلق من صنعاء.. هكذا كانت الحركة والإمام في روما..
إذن بدأت الحركة الوطنية من جديد،وبدأنا نجمع التبرعات سراً كيلا تنتبه المخابرات السعودية، وبدأنا نترقب سير الأحداث في الوطن العربي ومنعكساتها على الوضع في اليمن، إلى أن قامت الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا في 22 فبراير 1958م، أي قبل ثورة 14 تموز العراقية بخمسة أشهر، وهذا دفع الإمام ولأول مرة ليوافق على أن يدخل في هذا الاتحاد على أساس فيدرالي بين اليمن والجمهورية العربية المتحدة،ولقد كان لولي العهد البدر دور إيجابي في هذا الشأن.
وفي يوم من الأيام وصل ولي العهد البدر إلى الرياض بطلب من الملك سعود، وكان قاصداً أن يواصل رحلته،وأن يلتقي الرئيس جمال عبدالناصر في سورية.. فجرى اتفاق مابين السعودية والاردن وكانتا على خط سياسي واحد،أي ضدعبدالناصر،على أن يعرقلا رحلة ولي العهد البدر، ويحولا دون سفره إلى سورية، باقناعه بعدم التوقيع على الاتحاد الفيدرالي مع ال ج. ع.م،فأرسل الاردن وزير خارجيته الرفاعي وأرسل العراق وزير خارجيته فاضل الجمالي،وحاوراه في الأمر، ولكن البدر كان مصراً،وكان مؤمناً بعبدالناصر أكثر من المصريين، حتى أنه رفض التريث 48 ساعة أو حتى 24 ساعة لكي لايتيح لهم الفرصة للاتصال بوالده واقناعه بالعدول عن توقيع الاتفاقية.. وكان يرافقه في الوفد الشهيد البطل الذي كان يؤمن بالوحدة أيضاً محمد عبدالله العمري وزير الخارجية،ويرافقه أيضاً محمد عبدالله الشامي المعروف، وحسين مرفق الذي كان وزيراً مفوضاً بجدة، وآخرون.
ولابأس هنا من أن أروي القصة التالية:
استدعى الملك سعود محمد البدر وفاضل الجمالي والرفاعي إلى قصر «الناصرية» وكانوا قد نزلوا ضيوفاً في الدرعية وهي العاصمة القديمة لآل سعود، وكانت تبعد آنذاك 20 كم عن الرياض، وكان هناك مايقرب من 400 عامل يمني يعملون في تلك القصور.. ففكرت ماذا يمكن أن نعمل تأييداً لموقف البدر من الاتحاد وإبرازاً لموقف الشعب اليمني الحر إزاء هذه القضية؟
لابد من إعداد مفاجأة صادمة لهذه الجهود الرجعية المتكالبة ضد فكرة الاتحاد،وكان لنا ذلك، فقد اتصلت برؤساء العمال ومن ضمنهم البطل، وكلمة البطل هنا أصرّ عليها، أحمد حسين النجار وهو شيخ مازال حياً يعيش في حدّة من بني مطر، وأوعزت إليهم بأن يجمعوا العمال ويرتبوهم وفق خطّة مدروسة لتحية البدر وتأييده، بالتصفيق والهتاف بالشعارات المؤيدة للوحدة العربية..
وهكذا اصطف العمال اليمنيون في صفين في كل صف مايقرب الخمسين عاملاً، ووراء هذين الصفين تجمهر بقية العمال، وهنا حدث فوق ما كنت أتوقع وأكثر مما خططت له، فماذا فعل العمال اليمنيون الأمجاد؟ ما أن خرج البدر حتى انطلقوا بتصفيقة واحدة ملؤها الحماس والقوة، وهتفوا بشعار واحد: «يعيش البدر، تعيش الوحدة العربية، تعيش الوحدة اليمنية مع الجمهورية العربية المتحدة تعيش تعيش تعيش...»
إلى هنا انتهى ما خططت له، ووقعت المفاجأة بفعل عفوي أكبر من كل تخطيط، ليعبر عن سخط الجماهير وغضبها على أعداء الوحدة، فما أن خرج الجمالي والرفاعي حتى أدار العمال لهما ظهورهم، فكان مشهداً، لا أبلغ منه في السخرية، أن ترى مسؤولين كبيرين يمران بين صفين من المستقبلين تعقبهما صفوف وصفوف قد ولتهم الأدبار وسط صمت مطبق.. يالها من لحظات رسمت على وجهي المسؤولين علائم من الامتقاع والانزعاج ولقنتهما درساً لا ينسى.
وقبل أن يتوجه الوفد إلى سوريا، كان لنا لقاء معه، وكنت بجانب الشيخ سعيد علي الأصبحي الذي كان رئيساً للجالية وصديقاً للبدر، وكان يشتري له أشياء كثيرة ليحملها كهدايا وللتشريفات لأن والده الإمام كان مقتراً، ولا أخالني أظلم أحداً.. وأذكر أن الشيخ سعيد علي قد اشتري في يومها هدايا بحوالي25000 ريال.
وفي هذا اللقاء سلمت على البدر فكان متواضعاً، ثم دخلت على محمد عبدالله الشامي ومحمد عبدالله العمري وقعدنا حوالي نصف ساعة فوجدت لدى الشهيد العمري حماساً كبيراً للسفر فوراً إلى سوريا.
وفعلاً توجه الوفد اليمني إلى المطار ليغادر ذاهباً إلى سوريا وخرجنا في موكب الوداع وكنت في السيارة الخامسة من الموكب بجانب سعيد علي الأصبحي، وكانت أمام سيارة البدر سيارة يقودها أحد السواقين الذين كانوا يسمونهم العبيد وكان مكلفاً بأن يقوم بحركة تحدث اصطداماً مع سيارة البدر، ولكن المحاولة باءت بالإخفاق فتدحرجت سيارة ذلك السائق، وهي كاديلك كما أتذكر، بينما لم تصب سيارة البدر إلا إصابة طفيفة.. وفي المطار رافقت الوفد إلى الطائرة ومعي الهدايا، فلاحظت أن الطيارين المصريين قد فهموا الحادثة المدبرة، فكانوا يهنئون الوفد على نجاتهم بالسلامة.
وبعد مغادرة الوفد ظلت المخابرات السعودية أكثر من أسبوعين تبحث عن مدبر تلك المظاهرة السليمة في الدرعية، ولم ينفعني في الإفلات من قبضتهم إلا كوني مرافقاً للشيخ سعيد علي الأصبحي الذي كان صديقاً لهم.. ومع ذلك كان من أحسن الأحرار.
الأحداث في الوطن العربي تتوالى، والحركة الوطنية في اليمن تتنامى، فبعد توقيع اتفاقية الاتحاد الفيدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة قامت ثورة العراق في 14 تموز 1954م، وأرسل الإمام أحمد ولي عهده البدر للتهنئة..
أما نحن فكنا نوالي عملنا في جمع التبرعات وندعو للجمهورية سراً.. بضعة أشخاص بل أقل في السعودية وبضعة أشخاص في القاهرة وفي عدن يعدون على الأصابع أما في اليمن فقد كان معظم مشايخ حاشد وبكيل قد بايعوا حميد بن حسين بن ناصر مبخوت الأحمر، وكان الحماس متقداً.
ليسمح لي القارئ هنا بأن أعود إلى ذكر سعيد إبليس، أي سعيد حسن فارع، فأنا حين سميت كتابي هذا «محمد عبدالواسع حميد الأصبحي يتذكر» قد أعفيت نفسي من سرد كل قصة على حدثها، وعولت على الاستطراد والتداعي، ومنحت الذاكرة حرية التنقل بين الأحداث والأشخاص، وهناك سببان وجيهان في رأيي هما اللذان أمليا علي هذا الأسلوب:
أولهما: أنني أتذكر حقاً بكل ما تعني كلمة أتذكر من معنى، فبعد ضياع مذاكراتي ورسائلي ووثائقي كما ذكرت في مطلع الكتاب لم يبق لي ما أعول عليه سوى ذاكرتي التي تشتبك فيها مجريات الحياة، وأنى لما أحكمت تشابكه حدة الشباب أن تحل الشيخوخة خيوطه باللطف والأناة.
وثانيهما: اعتقادي بأن تقديم بعض المواقف والأحداث والترجمات على شكل لوحات في فقرات يتيح للقارىء أن يستعرض بانوراما تعج عناصرها بالحركة والحياة.
إذن أعود إلى سعيد ابليس فأقول بأن الكتاب قد قصروا كثيراً بحق هذا الإنسان وأنا أتحدث عنه هنا لا لأنه زميلي وصديقي بل لأنه كان شعلة من شعل الحركة الوطنية بحركته الدؤوبة ونشاطه الفريد، ففي السعودية كان على صلة بالمسؤولين ومتواجداً في كل مكان في الرياض وفي الدمام وفي الخبر وفي الظهران وفي جدة وفي كل مكان، يطير من السعودية فيحط بالقاهرة، يختفي من القاهرة فيظهر في عدن، ويغيب عن عدن فيحضر في صنعاء ثم في تعز ثم في الحديدة ثم يعود من جديد ليظهر في السعودية، هكذا في حركة دورية لا تفتر تتكرر كل شهر أو كل شهر ونصف.
يجمع التبرعات ويحملها وينقلها ويوصلها إلى زعماء الحركة أينما كانوا، ثم يعود محملاً بالرسائل وخاصة من الأستاذين اللذين كانا يكتبان لي باسمي الحركي وهو «خالد محمد»، وفي داخل الظرف يضمنان رسالة أخرى إلى سعيد علي الأصبحي الذي كان اسمه الحركي «هشام».. وفوق ذلك كان يتمتع سعيد إبليس بالرؤية السياسية الصائبة، فقد كان يقول لي: «لا تصدق، مادام الإمام أحمد موجوداً فلن تكون هناك وحدة».
ولقد كان صادقاً في هذه الرؤية.
لم أصبح عميلاً:
كان المسؤولون السعوديون يظنون أنني ابن عم الشيخ سعيد علي، ولما كانوا على صداقة معه، فقد اطمأنوا له ووثقوا به، إلى درجة أنهم عرضوا عليه رغبتهم في تكليفي بمهمة لصالحهم، فقالا له: ما رأيك أن نكلف ابن عمك ليذهب إلى عدن، ويكتب هناك في الصحف ضد هذا الاتفاق بين اليمن وال ج.ع. م، ويشكل جماعة مناوئة، وله مليون ريال سعودي، أو يذهب إلى البحرين ويجمع حوله ولو عشرين شخصاً من اليمنيين ويكتب ضد الاتحاد، وله نصف مليون ريال سعودي؟ فقال لهم:
سأحاول معه، ولكنه عنيد أو يخاف على نفسه من الإمام أو.. الخ، أي اعتذر لهم شتي الأعاذير، وعندما جاء إلي وأخبرني، قلت له: هل ستكون أنت الضمين؟ قال: نعم، قلت: إذاً لا فائدة، فلو لم تكن ضميناً لأخذت هذه النصف مليون ريال، أما أن آخذها وتدفعها أنت فهذا مالا أقبله بتاتاً.
ولا زالت هذه الحادثة مثاراً للتندر بيني وبين الزملاء، فلقد كان من طريف الدعوات أن أدعى لأصبح عميلاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.