كل لهجة من اللهجات العربية المحلية على درجات، فما يجري منها على ألسنة الناس، يختلف عما يجري منها على ألسنة الخاصة، ومايجري على ألسنة الخاصة، يتفاوت بتفاوت المستويات التعليمية والثقافية، وهذا يجعل ماأبدع في هذه اللهجة أو تلك من الأدب أو من الشعر خاصة، يأتي على درجات أيضاً، وذلك من حيث المقاييس الفنية شكلاً وصورة، ومن حيث المقاييس البيانية أو الفكرية للمواضيع والتجارب والمعاني، وكل هذا لاينفي أن المشترك بين هذه المستويات اللهجوية، هو الأعم الأغلب واللهجة اليمنية بتنوعها ودرجاتها تندرج في سياق هذا الحكم العام، والأمر كذلك أيضاً فيما يخص البنية الأدبية الشعرية التي كانت لهجات اليمن المحلية حتى اليوم، أداة إنتاجها ومستودعاً لتالدها وطارفها. وللغة العربية في اليمن تاريخ يختلف قليلاً أو كثيراً عن تاريخها في شمال الجزيرة العربية، فكلتاهما تنتميان إلى اللغة «العروبية» القديمة أي ماأطلق عليه المستشرقون اسم مجموعة اللغات السامية ولكن التفاعل والتأثير بينهما كان أقوى وأكثر قدماً. وقد تطورت اللغة العربية الجنوبية وازدهرت، منذ العصور التاريخية المبكرة، التي تعود إلى ماقبل الميلاد، وذلك بحكم التلازم بين التطور الاجتماعي حضرياً وحضارياً، وبين التطور اللغوي كماً وكيفاً، هذا بينما يعود ازدهار اللغة العربية الشمالية إلى عهد ماقبل الإسلام بقرن ونصف أو قرنين، وقد بلغت بطريقة فذة مبلغاً عظيماً من الازدهار والتطور، مستمدة قدراً من مادتها اللغوية من حيث جذور المفردات من اللغات العربية القديمة، وخاصة من اليمنية القديمة، وبدأت منذئذ تفرض سيادتها على جميع أنحاء الجزيرة، ثم أصبحت لها السيادة المطلقة عند ظهور الإسلام. وعلى هذا النحو تكون البنيان الكلي للغتنا العربية الفصحى حافلاً بالمشترك الأعظم منذ القديم، ولكن الخصوصيات اللهجوية في الجزيرة العربية ظلت قائمة، وخاصة بين لهجات الشمال التي أصبحت هي المحور والمقياس، وحينما حل عصر التدوين اللغوي منذ القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي أشارت المعجمات إلى هذه الخصوصيات، وإن كان بعض اللغويين قد بالغ في التفريق بين لهجات الجنوب ولهجات الشمال، وهي تفرقة غير قائمة على المعرفة بالخلفية التاريخية القديمة لنشوء اللغة العربية، ضمن الإطار الكلي لمجموعة اللغات «العروبية» في العالم القديم، أو في القلب والصميم من هذه المجموعات اللغوية بخصائصها وصفاتها الكلية. وتحت قوانين المد والجزر ضمن الكيان اللغوي الواحد ذي الأرجاء والساحات المتعددة انتشرت اللغة العربية الشمالية في اليمن قبيل ظهور الإسلام وتوطدت وازدادت رسوخاً بعد ظهوره، وليس الأمر بحاجة إلى التنويه بالتراث اليمني العربي الإسلامي الضخم، في جميع المجالات العلمية والفكرية والأدبية والثقافية، والذي تزخر به مكتباتنا والعديد من المكتبات ودور الكتب العربية والإسلامية والعالمية. ومع ذلك فإن الخصوصيات اللهجوية اليمنية ظلت جارية على ألسنة الناس، حتى في صدر الإسلام والعهد الراشدي ومابعدهما. وبصفة عامة فإن استمرار هذه الخصوصيات اللهجوية، مضافاً إليه الرغبة في التفلت من القواعد النحوية الصارمة، وبعض القواعد الصرفية، قد أديا إلى ظهور «الازدواجية» في جميع الأقطار العربية، التي أصبح لكل قطر منها عاميته المحلية المحكية إلى جانب اللغة العربية الفصحى الخالدة بمكانتها الدينية المقدسة ومكانتها القومية الرفيعة، ونتيجة لهذه الازدواجية اللغوية، ظهرت فيما بعد الازدواجية الأدبية بظهور «الشعر الملحون» من «الأزجال» و«الحماقي» و«القوما» و«المواليا» و«المبيتات» و«الموشحات في عهدها الثاني». هذا على أن القضية في اليمن، أعمق من ذلك وأبعد جذوراً، فنقوش المسند وإن هي لم تقدم إلا القليل من الشواهد الأدبية، تشير بهذا القليل إلى أنه كان لليمن نظامه الشعري الخاص، الذي قد يمثل أساساً للنظام الشعري الذي ازدهر في الشمال ووصلنا منه الكثير. وكتب السير والمغازي والطبقات والحديث والتفسير التي تتناول العصرين النبوي والراشدي تشير إلى مقولات يمنية كانت لاتزال محافظة على خصوصيات لغوية لهجوية متميزة، ومنها حوارات مع الرسول «صلى الله عليه وسلم» ومع الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة، والأهم من ذلك هو رسائل النبي «صلى الله عليه وسلم» إلى أهل اليمن، وهي حافلة بالمفردات والمصطلحات والتعابير اليمنية الخاصة، لأنه «صلى الله عليه وسلم» كان يحرص على أن يجعل في خطابه لكل قوم بعض مايستعملونه في لهجاتهم ليكون أقرب إلى أفهامهم. ومؤلفات بعض اليمنيين وخاصة الحسن بن أحمد الهمداني «280 نحو 360ه 893 نحو 971م» مليئة بالمقومات الأدبية اليمنية الخاصة، وهو نفسه استعمل كثيراً من المفردات والأساليب اللهجوية الخاصة. وكتب التراث العامة، والتي حرصت على إلقاء أستار كثيفة على كل نص أو مقولة ورد فيها مايخالف قواعد اللغة العربية التي تم تقعيدها بشكل نهائي بعد مضي أكثر من قرن على ظهور الإسلام.. ظهرت فيها لمحات تشير إلى مقومات شعرية تندرج تحت مصطلح «الملحون» منذ أواسط العصر الأموي. جاء في كتاب «الأغاني» عند ترجة مته ل «أعشى همدان عبدالرحمن بن عبدالله الحاشدي، ج،6 ص33 ومابعدها» مانصه: «أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم، قال سألت الأصمعي عن أعشى همدان فقال: هو من الفحول، وهو إسلامي كثير الشعر، ثم قال لي: العجب من ابن دأب حين يزعم أن أعشى همدان قال: مَنْ دَعَا لِيْ غُزَيلِّيْ أرْبَحَ اللهْ تجارَتُهْ ثم قال: سبحان الله: أمثل هذا يجوز على الأعشى؟! أن يجزم اسم الله عزوجل ويرفع تجارته وهو نصب ثم قال لي خلف الأحمر: والله لقد طمع ابن دأب في الخلافة حين ظن أن هذا يقبل منه.. ثم قال: ومع ذلك أيضاً أن قوله: مَنْ دَعَا لِيْ غُزَيِلِّي لايجوز، إنما هو: من دعا لغزيلي، ومن دعا لبعير ضال.56. وأعشى همدان مولود في بداية القرن الهجري الأول، وقتله الحجاج عام 83ه 702م، فهو لايزال ابن بيئته اليمنية وعاش في الكوفة في محيط همداني يمني، وكان كما تقول تراجمه شاعر اليمانيين في الكوفة وفارسهم في عصره، والعجب أنه إلى جانب كونه من فحول الشعراء، كان من الفقهاء القراء، ومع ذلك ينسب إليه هذا البيت من الشعر«الملحون» والذي يذكرنا وزناً وإيقاعاً بقصيدة من «الملحون اليمني = الحميني» للشاعر عبدالرحمن الآنسي تغنى اليوم بأصوات عدد من الفنانين وتقول: جَلَّ مَنْ نَفَّسَ الصَّباحْ وَبَسَطْ ظِلّهُ الْمَديدْ ألهَمَ القُمْرِيَ النياحْ يسْلَي النَّازِحَ البَعيدْ آحْ لو كان لْي جَناحْ كُنْت مثلهْ وعادَ ازِيدْ إلخ... مع مثيلات لها بنفس الوزن والإيقاع وتغنى بنفس الألحان المتعددة، ومجرد مجيء هذه الإشارة في كتاب الأغاني، ومن وقت مبكر، يثير تساؤلات حول قضية الازدواج اللغوي، وظهور الشعر «الملحون» لا في اليمن فحسب، بل وفي الأقطار العربية الأخرى. ومن الإشارات المبكرة شيئاً ما، والمتعلقة كلياً باليمن، ماجاء في معجم البلدان لياقوت الحموي «574 636ه = 000 1225م» في مادة «غيل» عند حديثه عن أحد نهيرات صنعاء، وهو «الغيل» الذي كان محمد بن خالد البرمكي والي صنعاء للرشيد، قد أصلحه ورمم مجاريه، فنسب إليه قال ياقوت: «والغيل، غيل البرمكي، وهو نهر يشق صنعاء اليمن، وفيه يقول شاعرهم: وَاعَوِيْلاه إذا غابَ الحبيبْ عَنْ حَبيْبهْ إلى مَنْ يَشتكْي يَشتكْي «بِهْ» إلى والي البَلَدْ ودَمُوُعه مِثل غَيْل البَرْمكْي «وهذا شعر غير موزون، وهو مع ذلك ملحون، أوردناه كما سمعناه من الشيخ أبي الربيع سليمان بن عبدالله الريحاني صديقنا زيده الله». وليست هذه الإشارات إلا لمحة أولية عن الخلفية التاريخية للشعر الملحون في اليمن، والمهم هو أن هذا الفن من فنون القول، قد ازدهر في اليمن ازدهاراً عظيماً عبر العصور والأجيال، حتى أصبح الشعر باللهجات المحكية على شتى مستوياتها، بنية تراثية ضخمة نشر منها الكثير ولكن مالم ينشر بل مالم يدون هو الأكثر. والقاعدة العريضة لهذه البنية الشعرية، هي الشعر «العفوي» أي «الفولكلوري» الذي ينبع من بين صفوف الناس تلقائياً وغير منسوب إلى شعراء بأعينهم، وهذا فن من فنون القول عريض طويل، وعربي ضارب الجذور في أعماق التاريخ، فهو من التراث الذي تتوارثه الأجيال، ويعبر عن حكمة الشعب وشخصيته وتجاربه في الحياة، ومنه مستجد طارف ومتجدد دائماً يظهر من بين صفوف الناس ويرددونه في أغانيهم معبرين عن عواطفهم وعن مذاهبهم في الحب والعشق، وعن مختلف شؤون الحياة. وفوق هذه القاعدة يتوضع الشعر «الشعبي» المنسوب إلى قائليه من أصحاب المواهب المنتمين إلى رجال القبائل والمزارعين والمدنيين ممن لم ينالوا حظاً من التعليم، أو لم ينالوا منه إلا قليلاً، ومنهم من حظي بقسط وافر من العلم ولكنهم مالوا إلى هذا الضرب من الشعر، وفي هذا الشعر إبداعات عظيمة، وخاصة في القصائد ذات الطابع القبلي المتسمة بالقوة والجزالة، وبالتدفق والسلاسة حتى أن شعراءه يذكرون بمن ينحتون من صخر أو يغترفون من بحر. أما قمة هذه البنية الشعرية، فيتربع عليها الشعر «الحميني» وهو شعر الخاصة بل وشعر الصفوة من الخاصة، أي أولئك الأدباء الكبار، والعلماء الاعلام وأصحاب الحظ الكبير من المعارف التراثية، والعلوم العربية الإسلامية وثقافات عهودهم واليوم من أصحاب الثقافات الحديثة الواسعة. وكلمة «حٌمَيْيني» غير معروفة المعنى على وجه اليقين، كما أن إطلاقها اسماً لهذا الفن من فنون الشعر غير معروف البداية على وجه التحديد، وأحسن مايمكن أن يقال في هذا الصدد هو أن هذه الكلمة جاءت بصيغة النسبة إلى منطقة أو قبيلة والأول أرجح اسمها «حمين» وأنها تقع على الأرجح في شمال تهامة اليمن مجاورة لمنطقة وقبيلة «حكم» اليمنية الشهيرة. والقرينة التي توحي بهذا الرأي أن الشعر الذي يلتزم العمود الخليلي وقواعد اللغة العربية، يسمى في اليمن الشعر «الحكمي» بفتحتين خفيفتين على الحاء والكاف نسبة إلى قبيلة «حكم»، وبمقابل ذلك يطلق على الشعر الملحون اسم «الحميني». وقبيلة «حكم» مشهورة بأن أبناءها من أفصح القبائل العربية، ومن أكثرها التزاماً بقواعد اللغة، لافي أشعارهم فحسب، بل وفي مخاطباتهم اليومية، ولذلك روايات وحوادث استمرت إلى عصرنا الحالي، ويبدو الأمر كما لو أن حكما وحمينا كانتا تتساجلان شعراً في زمن ما، فيأتي شعر حكم فصيحاً معرباً ملتزماً لعمود الشعر العربي، ويأتي شعراء حمين بفنون من الشعر الملحون والأزجال، فكان إطلاق «الحكمي» على الأول، و«الحميني» على الثاني، واستمرت هاتان التسميتان إلى اليوم. ولاشك أن «الحميني» قد مر بمراحل وأطوار حتى استقر على الاشكال الفنية والطرق الإبداعية، والأساليب البيانية والبديعية التي أصبح عليها. وكان الشعر «الملحون» بصفة عامة، يتعرض للغمط والاطراح عبر أجيال وأجيال، ولكن اليمن شهد انفتاحاً فكرياً، وتحرراً اجتماعياً، في عهد الدولة «الرسولية» دولة بني رسول من أوائل القرن السابع الهجري إلى أواخر القرن التاسع وفي ظل ماساد هذا العهد من النهوض العلمي والثقافي سطعت نجوم شعراء «الحميني»، وأصبح قائلوه من أعلام الأدب ورموز الحركة الثقافية والفكرية. ومنذئذ ازدهر «الحميني» وجميع أنواع الشعر الملحون في اليمن، وحفلت ساحته بالعشرات بل المئات من الشعراء الأعلام البارزين. وهكذا ومنذ مايزيد على سبعة قرون، أصبح لكل جيل من الأجيال الأدبية في اليمن شعراؤه المبرزون في مجال «الحميني»، واشتملت أوزانهم من حيث الشكل على جميع أوزان الخليل بتامها ومحذوفها ومخبونها ومشطورها ومجزوئها..إلخ، وزادوا على ذلك فنوناً وطرائق ابتدعوها وأبدعوا فيها خاصة في مجال «الموشح» و«المبيت» و«الرباعي» و«السدادس» و«المثمن». كما استوعبت تجاربهم من حيث الموضوع كل المواضيع والأغراض التي طرقها الشعر العربي، وبرعوا براعة فائقة في مجال وصف الطبيعة وفنون أخرى مستحدثة. ولولا خشية الإطالة لاشتمل هذا المقال على نماذج متعددة تبين أشكال ومواضيع «الحميني» وأساليبه البيانية المتعددة، ويمكن الاكتفاء وهنا بثلاثة نماذج مختصرة للقاضي العلامة عبدالرحمن بن يحيى الآنسي «1167 1225ه» والذي عاصر شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني فكان ممن ترجم له، وأشاد به عالماً كبيراً، وأديباً فصيحاً وعالماً من أعلام «الحميني». والنموذج الأول يمثل «الموشح الحميني»، أما الثاني فيمثل المبيت الحميني»، وأما الثالث فمن «قصيدة حمينية». يقول الآنسي في أحد موشحاته: بيت ياشاري البرق من «تهامه» رُويدك اللمع والخفوق حليت قتل الشجي ظلامه في ذمتك قلبه المشوق مسكين مستصحب السلامه قام يسألك علم لايعوق فكان جوابك عليه حمامه ماهكذا تفعل البروق توشيح أبراك ربي وسامحك فيما فعلته بلا محك إن جبت فيما يفاتحك تقفيل هل في تهامه بكت غمامه ضحكت في دمعها الدفوق فاخضر من رملها ثمامه واصفر من نخلها العذوق .....إلخ ويقول رحمه الله من الحميني المبيت: بيت ياحي ياقيوم، ياعالم بما تخفي الصدور يا رازق المحروم، يامن بحر جوده لايغور ياناصر المظلوم، ياذا الانتقام ممن يجور يامنفذ المحتوم، في الساخط وفي الراضي الصبور بيت أسألك يارحمن بالنور الذي لاينطفي سيد ولد عدنان حبيبك من توسل به كفي أن تذهب الأحزان، والأمحان باللطف الخفي وتكشف المهموم، وتكفينا مهمات الأمور بيت عن ساكني صنعا، حديثك هات وافوج النسيم وخفف المسعى، وقف كي يفهم القلب الكليم هل عهدنا يرعى، ومايرعى العهود إلا الكريم وسرنا مكتوم، لديهم أم معرض للظهور إلخ... وله في نمط «القصيدة على النسق الحميني المصرع الملتزم بقافيتين في الصدر والعجز وقد استهلها برأيه وفلسفته حول قضية جدلية من أصول علم الكلام بدلاً عن الاستهلالات المعهودة في الشعر العربي: ليت الحذر يدفع المقدور هيهات ماقدر الله كان وعبده المنهي المأمور الخير والشر له قد بان لاهو مفوض ولامجبور بفعل طاعة ولاعصيان ولم يكن بالقدر معذور وقدرته تحتها الضدان وداعي الفعل فيه مقهور ماله على خيرته سلطان لأنها مثل باب السور من يدخل الباب بلا استئذان؟ يا بانة الوادي الممطور ياخوط، ياحلي غصون البان نوسي على نغمة الشحرور فالنوس من عادة الأغصان وإلا على نفثة المصدور فنفثتة تبعث الأشجان غريب، لاخاطره مجبور ولاسلا الأهل والأوطان يدور حول الديور والدور يصيح: من يسقي العطشان ليت الصبي فلت العصفور في الخيط قد عذبه ألوان (درامات يمنية، العدد 49 - 1993م