الفراغ.. هو ذلك الغول المخيف الذي يفترس الإنسان العاطل.. وهو من أقوى أسلحة الشيطان ضد الشباب.. والمجتمعات التي لاتستثمر شبابها إنما هي مجتمعات تنتحر انتحاراً بطيئاً.. وإننا لنعجب كل العجب من تلك الدول المسلمة التي تعيش عالة على ماتنتجه العقول الشرقية والغربية في شتى مجالات الحياة نعجب إذ تترك شبابها نهباً للفراغ والضياع.. لماذا لانقيم معسكرات عمل للشباب على جميع الجبهات، وعلى كل المستويات،وكأنه استنفار عام، وتعبئة شاملة..؟ لماذا لانقيم للشباب معسكرات للتدريب العسكري في فترات اجازاتهم لتنمى فيهم روح البطولة،ولتكون بمثابة متنفس نظيف لطاقاتهم المذخورة في كيانهم؟ لماذا لاتقوم الأجهزة المسئولة عن الشباب في كل بلد مسلم بإقامة المعسكرات الإسلامية، وإقامة النوادي «النظيفة» التي تستمد لوائحها ونظامها من خلق الإسلام وسلوكه؟ والإجابة.. لا أدري ألا أن ذلك ضرباً من ضروب الكسل والاهمال وسوء التخطيط الذي أصبح سمة لعامة المجتمعات الإسلامية في هذا العصر. ونحن نعلم كيف كان موقع الشباب في صدر الإسلام، وكيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك شبابه وقوداً هشاً لنار الفراغ المحرقة. فلا عجب إذا رأينا رجلاً كمونتجمرى وات يقول في كتابه «محمد في مكة»: «إن الإسلام كان في الأساس حركة شباب». نعم.. كان حركة شباب، وبسواعدهم ارتفع البناء شامخاً يناطح الجوزاء.. وعلى هذا النهج السامي في تربية الشباب سار خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنجد عمر رضي الله عنه يخاف على الشباب غوائل الفراغ فينبه ولاته إلى ذلك قائلاً لأحدهم: «ياهذا إن الله قد خلق الأيدي لتعمل، فإذا لم تجد في طاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك المعصية». ويوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إلى أن الوقت من النعم التي لايشعر بها الإنسان فيقول:«نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس:الصحة والفراغ». ويصور الحق تبارك وتعالى مشاهد الحسرة التي تقطع نياط قلوب الغافلين عند الموت فيقول: «حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعونü لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون» «المؤمنون :100». «رب لولا اخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحينü ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعلمون» «المنافقون:10-11». ولأن هذه الأعمار كانت خراباً وصفراً من كل عمل نافع من الأعمال الصالحة فإن أصحابها يتوهمون أن عشرات السنين التي مكثوا فيها على الأرض ماهي إلا ساعة،أو عشية وضحاها أو يوم أو بعض يوماً... «ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون مالبثوا غير ساعة»«الروم:55» «كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عيشة أو ضحاها» «النازعات :46» «قال كم لبثتم في الأرض عدد سنينü قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين»«المؤمنون:112 113» فوقت الإنسان هو عمره، وهو أغلى من الذهب، لأن الذهب يذهب ويعود والعمر إذا ذهب فإنه لايعود:حياتك أنفاس تعد فكلما مضى نفس منك انتقضت به جزءاً، فتصبح في نقص وتمسي بمثله وما لك معقول تحس به رزءاً. وليته إذاً مضى لايخلف آثاراً ولاتبعات،ولكن يسئل عنه كل إنسان في ساحات القيامة قال صلى الله عليه وسلم:-«ماتزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسئل عن أربع:عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه». إن مرحلة الشباب ياشباب هي مرحلة الطاقة المتوقدة والحيوية المتدفقة، والعطاء بغير حدود.. والفترة التي تستطيع فيها أن تصنع العجائب.. وآمالك ومستقبلك إذا لم يتحقق في هذه المرحلة فعليك العفاء.. إذا المرء أعيته المروءة ناشئا فمطلبها كهلا عليه عسير يقول عالم النفس وليم جيمس: «إذا قسنا إلى مايجب أن نكون عليه لاتضح لنا أننا أنصاف احياء، فإننا لانستخدم إلا جانبا يسيراً في حدود ضيقة يصنعها داخل حدوده الحقيقية.. إنه يمتلك قوى كثيرة مختلفة.. ولكنه عادة لايفطن لها، أو يخفق في استخدامها». أتعرف أيها الشاب أن الفراغ الذي تعاني منه قد حدا بعمالقة البشر إلى أن يستثمروه في الحصول على بطولات رياضية،أو انتصارات علمية تنعم البشرية في ظلها اليوم، ففرضوا أنفسهم على الناس أحياء وأمواتاً، ولم يذهبوا كغثاء السيل، ولم يرضوا لأنفسهم أن يكونوا نسخاً مكررة من ملايين النسخ التي تشاهدها في النماذج البشرية كل يوم،وإنما رحلوا عن الدنيا وقد تركوا بصماتهم عليها.. والفتاة المسلمة أيضاً ينبغي علينا أن نقيم لها النوادي المغلقة بها لتمارس فيها نشاطها الاجتماعي والرياضي،وعليها أن تشغل أوقات فراغها بالتفصيل والتطريز والقراءة«وتمريض النساء».. وأن تعد نفسها لتكون زوجة مثالية،وأماً مثقفة ينعكس ظل ثقافتها على تربية أولادها بل وعلى مجتمعها المسلم أيضاً. تقول «دروثى كارنيجى»وكثيرون هم الناجحون الذين بلغوا ذروة النجاح معتمدين على ماجنوه من علم ومعرفة خلال أوقات فراغهم.. كان «تشارلس فروست» اسكافياً ولكنه استطاع أن يصبح من المبرزين في الرياضيات بتخصيص ساعة واحدة من يومه للدراسة. وكان «جون هتز» نجاراً.. ثم شرع يدرس «التشريح المقارن» في أوقات فراغه، مخصصاً لنومه أربع ساعات وحسب من الليل، حتى أصبح حجة في هذا الميدان.. واستطاع «سير جون لايوك» أن يقتطع من يومه المزدحم بالعمل بوصفه مديراً لأحد المصارف ساعات يقضيها في دراسة التاريخ حتى أصبح علماً بين المؤرخين. وتعلم «جورج ستيفنسون» الحساب في أوقات نوباته الليلية بصفته مهندساً، ووسعه مستعيناً بهذا العلم أن يخترع القاطرة.. ودرس «جيمس واط» الكيمياء والرياضة في أثناء اشتغاله بالتجارة فأمكنه أن يخترع المحرك البخاري.. والله كم كان يخسر المجتمع الإنساني لو أن هؤلاء الرجال قنعوا بأعمالهم المتواضعة، ولم يجدوا في أنفسهم دافعاً للاستزادة من العلم والمعرفة.. ولايلو من أحد إلا نفسه إذا لبث مغموراً مجهولاً لأنه تخلى عن متابعة العلم منذ اللحظة التي أدرج فيها اسمه في كشف المرتبات». صديقي الشاب، إذا لم تشغل نفسك بالحق شغلتك بالباطل، وقد يهجس لك الشيطان فيغريك ويمد لك في حبال الأماني الكاذبة فيقول لك:إنك مازلت ترفل في حميا الشباب ومازال العمر ممتداً لتحقيق الآمال، ولكنها وساوس خبيثة تجعل الشاب بعد أن أصبح في عداد الشيوخ ينظر إلى عمره الذي ولى وكأنه حلم نائم.. يقول«ستيفن ليكوك»:«ما أعجب الحياة، يقول الطفل: عندما أشب فأصبح غلاماً.. ويقول الغلام: عندما أترعرع فأصبح شاباً.. ويقول الشاب:عندما أتزوج .. فإذا تزوج قال: عندما أصبح شيخاً متفرغاً.. فإذا واتته الشيخوخة، تطلع إلى المرحلة التي قطعها من عمره، فإذا هي تلوح كأن ريحاً اكتسحتها اكتساحا.. إننا لانتعلم إلا بعد فوات الأوان أن قيمة الحياة في أن نحياها،وفي أن نحيا كل يوم منها وكل ساعة». إننا في حاجة إلى الطبيب المسلم، والصيدلي المسلم، والمهندس المسلم، والمعلم المسلم، والمحاسب المسلم، والمحامي المسلم، والموظف المسلم، والمحترف المسلم.. في كل ميدان نحتاج إلى علماء مسلمين، حتى يقدموا العطاء الكبير لهذا الدين،ولن يتمكنوا من العلم لهذه الغاية النبيلة من خلال هذه المجالات إلا إذا كانوا علماء فيها،ولن يكونوا علماء فيها إلا إذا سخروا أوقات فراغهم لبلوغ هذا الهدف العظيم.. وأخيراً تأمل معي قول الشاعر: اثنان لو بكت الدماء عليهما عيناي حتى يؤذنا بذهاب لم يبلغا المعشار من حقيهما فقد الشباب وفرقة الأحبابرئيسة قسم خدمة المجتمع مركز الارشاد التربوي والنفسي جامعة صنعاء