من ضمن المفاهيم الكثيرة التي كانت محل نقاش الكثير من العلماء والباحثين في مختلف التيارات العلمية والفكرية وتناولها علماء على تباين عقائدهم العلمية وجذورهم الفكرية بحيث لم يخل مذهب من المذاهب والتيارات سواء العلمية البحتة أو الفلسفية أو الدينية إلا وتناولها بشيء من التحليل مستغرقاً في أبعادها متمحصا في دلائلها ناظراً إليها بعين الناقد البصير نظرة حملت في إحدى جوانبهاً طابعاً فلسفياً وتارة طابعاً علمياً نظرياً بحتاً وتارة جانباً دينياً .. إنها قضية نشأة الكون .. كيف ولد وكيف كانت الثانية الأولى من عمر الكون وكيف تكون إلى أن غدا على الصورة الحالية غير الثابتة طبعاً ... على غرار هذه المعضلة نشأت نظريات عدة تفسر الكيفية التي وجد بها الكون والحدث الذي أسهم في تكوينه على هذا النحو .. فكانت أنجح النظريات التي شرحت بنجاح هذا السيناريو الكوني : نظرية الانفجار العظيم Big Bang .. والتي أثبتت الشواهد والكشوفات العلمية والنظريات العديدة يوماً بعد يوم نجاح هذه النظرية ... تفترض نظرية الانفجار العظيم أن كل مكونات الكون وموجوداته من المادة والطاقة كانت متمركزة في نقطة صغيرة جداً - غاية في الصغر - عالية الكثافة إلى حد عظيم حدث معها انفجار عظيم تناثرت فيه المكونات من مادة وطاقة في الأرجاء كونت فيه المجرات والنجوم والكواكب وكل أجزاء الكون .. حدث هذا كما قدره العلماء قبل حوالي 13.7 مليار سنة .. الغموض والتعقيد العلمي الشديد الذي يلف هذه المسألة هو أن ظروف حدوث هذا الانفجار (من الكثافة العالية والحرارة الشديدة والجاذبية المهولة الناتجة عن التركيز الشديد للمكونات في الحيز الصغير أو ما يمكن أن نسميه بالبذرة الكونية الأولى) هذه الظروف تدعونا إلى تخيل محيط مغاير للتفاعل عما هو في أذهاننا من الظروف الأرضية للتفاعلات الطبيعية .. بحيث يدفعنا هذا إلى القول أن الانفجار العظيم لم يحدث في فضاء ذي إحداثيات، فقبل هذا لم تكن هناك إحداثيات والانفجار لم يحدث في الفضاء لأن الفضاء لم يكن موجوداً أصلاً وإنما نشأ الفضاء نتيجة هذا الحدث الهائل ومن ثم التوسع الحادث كنتيجة للانفجار ؟؟؟!!! أعتقد أن المسألة بدأ فيها بعض الغموض وليعذرني القارئ ولكن النظرية بحد ذاتها تستدعي هذا وهو ما ولّد نوعاً من الاتجاه الفلسفي لهذه المعضلة العلمية وحتى علماء الطبيعة ناقشوها بشيء من التفكير النظري المجرد إلى أن صبغت بشيء من الجانب التطبيقي المعاين بعد ظهور الشواهد العلمية التي أكدتها كالتوسع الكوني في المجرات والخلفية الميكروية Microwave background .. سيناريو الحدث .. باستعراض سريع للسيناريو الذي جرت أحداثه في اللحظات الزمنية لنشوء الكون إلى أن وصل إلى الوضع الحالي كالتالي :- بعد الانفجار مباشرة بدأت الأجزاء المتناثرة بالتباعد والتمدد والذي يمكن تشبيهه كنقاط مرسومة على بالون باستمرار نفخه بالهواء تتباعد النقاط عن بعضها البعض. .. كانت درجات الحرارة بعد الانفجار مرتفعة جداً ومع مرور الوقت بدأت بنيته التركيبية تتغير ... مع استمرار التمدد الكوني تمددت المادة والطاقة وبالتالي بدأت هذه الموجودات تبرد تدريجياً ... بعد مرور ثلاث دقائق بدأت الأنوية بالتكون بعد محاولات فاشلة نتيجة لاصطدام البروتونات والنيوترونات بالجسيمات الأخرى وببعضها البعض في حالة فوضى طاقية .. بعد مرور 500000 عام بدأت الذرات بالتكون نتيجة تجمع الأنوية المتكونة سلفاً مع الالكترونات حولها بعد فشل هذه الأخيرة في التكوين نتيجة التصادمات مع بقية الجسيمات الموجودة في ملعب الحدث... مع التضاعف والتوسع والتمدد للكون باستمرار كان يصاحبه برودة في مكوناته باستمرار... بوصول عمر الكون إلى مليار عام بدأت ذرات الهيدروجين و الهيليوم تتجمع بفعل الجاذبية مُشكلة سحبًا غازية ضخمة Giant Gas Clouds و تتحول بعد ذلك إلى مجرات، أما السحب الصغير فكانت تنهار مُكوّنة النجوم الأولى... و باستمرار هذه العملية، وصل الكون إلى ما نراه اليوم من مجموعات المجرات Galaxy Groupsالمحتوية على نجوم والتي بعضها كون حوله مجموعات شمسيةSolar System كمجموعتنا الشمسية ... براهين دامغة .. القول بنجاح هذه النظرية وطغيانها على بقية النظريات والتفسيرات التي برزت في القرن السابق لتفسير نشأة الكون كان لا بد له من بعض الدلائل الدامغة التي أيدت هذه النظرية بل وأبطلت بشكل أو بآخر النظريات الأخرى ... من هذه الدلائل : إزاحة الضوء الأحمر Red shift وإشعاعات الميكروويف الخلفية Background Microwave Radiation .. يمكن فهم إزاحة الضوء الأحمر كالتالي : من المعروف أن أي جسم يصدر طيفاً (إشعاعاً) بطول موجي يعتمد على المكونات التركيبية للمادة كما تنص قوانين المطيافية .. ولكن وجد العلماء أن الضوء القادم من المجرات والنجوم البعيدة لا يتطابق مع المواد التي تكون هذه النجوم وإنما تصل موجات قريبة من طول موجة الضوء الأحمر أو أقل قليلاً،مما يعني أن الضوء القادم منها حصلت له إزاحة(مد ومط لطول الموجة) نحو الأحمر المعروف بأنه أكبر أطياف الضوء المرئي في طول الموجة . وحسب قوانين الفيزياء فإن المصدر الضوئي الذي يتحرك مبتعدا عن نقطة معينة يكون الضوء الواصل إلى هذه النقطة يصل بطول موجة أكبر منها لو كان المصدر الضوئي ساكناً وهو ما يسمى بتأثير دوبلر Doppler effect .. كان أول من اكتشف هذا هو العالم أدوين هابل والذي يعتبر من رواد هذه النظرية ...وبإسقاط هذه النظرية على الإزاحة الموجية التي تحدث لأطياف النجوم البعيدة فهذا يدل على أنها - النجوم والمجرات - تتحرك مبتعدة عنا بسرعة معينة مما يعني أن أجزاء الكون في تمدد وتباعد دائم وهذا ما افترضته نظرية الانفجار العظيم بحدوث التوسع المستمر نتيجة الانفجار وبالتالي يدعم هذه النظرية .... البرهان الآخر لهذه النظرية كما قلنا هو إشعاع الميكروويف .. فقد وجد العلماء أن هناك إشعاعات موجودة في الكون ذات أطوال موجية طويلة تدخل في نطاق الموجات تحت الحمراء .. ومن المعروف أن الإشعاع الطيفي الصادر من الجسم يعتمد على درجة حرارته بحيث يزداد الطول الموجي للإشعاع الصادر من الجسم بنقصان درجة حرارته وبالتالي فإن وجود خلفية إشعاعية طويلة المدى الموجي للكون تدل على أن الكون مر بفترات برودة مستمرة وصلت فيها درجة حرارته إلى قيمه صغيرة نتج عنها هذه الخلفية الطيفية ... تبقى في النهاية جزئية مهمة وهو أن الافتراض - كما أسلفنا- ضمن نظرية الانفجار العظيم لظروف حدوث هذا الحدث في أجواء خالية من الأبعاد أو الفضاء يدعو للقول إلى أن الكون نشأ من عدم وهو ما يخالف المعتقدات الدينية والثوابت الكونية ويحتاج في الأخير إلى إعادة النظر في صياغة بعض جزئيات هذه النظرية. [email protected]