تظل الموسيقى اللغة البشرية المفهومة للجميع منذ العصور الأولى للوجود البشري، وقدمت الاكتشافات الأثرية في العراق القديم ومصر والشام واليمن وتركيا والصين والهند وأماكن أخرى من العالم صوراً ونقوشاً لموسيقيين يعزفون على آلات موسيقية ارتبط استعمالها بنوعية الطقوس والمراسيم الدينية أو مشاركة الملوك في احتفالاتها أو لمجرد طرد الضجر عن الروح. وعلى مر العصور كانت الموسيقى الفن الذي تتباهى به الأمم والشعوب، وفي الوقت الذي عرف فيه شعوب ما بين النهرين والمصريين في عهد الدولتين القديمتين "3200- 3111 ق.م" والوسطى "1500 ق.م" سلماً خماسياً ذات درجات كاملة، عرفت حضارة اليمن القديمة آلات موسيقية متنوعة "وترية وإيقاعية وغيرها". ويقول أستاذ الآثار بجامعة صنعاء الدكتور محمد عبدالله باسلامة: إنه وعلى الرغم من تنوع شواهد القبور اليمنية في عصور ما قبل الإسلام فقد أظهرت شواهد سبئية نماذج تجمع بين حالات الطرب "بأنواع من الآلات الموسيقية" والمناسبة الدينية أو القبورية لأصحابها، وهو الأمر الذي عرف في مواطن حضارية أخرى مثل العراق ومصر، وإن اختلفت الأزمنة فيما بينها. ويضيف باسلامة: اتضح من خلال الفحص أن اليمن قديماً امتلكت أنواع وأشكال الآلات الموسيقية مثل العود، الهارب آو الصنج، والطبلة، والصلاصل. ويؤكد أن الدراسة والمقارنة بينت: إن هذه الآلات تفردت بها الشواهد السبئية عن غيرها مما عرف في مناطق حضارات العراق ومصر وغيرها من حيث الشكل أو التكوين العام وتشابهها في الأداء وأدواته الصوتية. وكانت موسيقى السبئيين في الأساس صوتية نغمية، يلعب الصوت البشري فيها دوراً رئيسياً وشبه تام، بينما لا تلعب الآلات الموسيقية إلا دوراً لا يتعدى مرافقة المغني أو مساعدته ليرتاح قليلاً ثم يعود ثانية للغناء. بمعنى أن العزف أو الغناء لم يقتصر في الحضارة السبئية على الرجال دون النساء، بل كان حالة اشترك فيها الجنسان على حدٍ سواء.. إلى ذلك يقول باسلامة: أجمعت الشواهد السبئية قيام النساء بحمل الآلات الموسيقية والعزف عليها وهو ما يعني أداء الغناء أيضاً بكلمات تتفق والمناسبة الدينية، وأن بعض شواهد القبور السبئية تميزت عن غيرها بمناظر الطرب، تعزف فيها النساء وتحمل آلات موسيقية متنوعة "وترية وإيقاعية وغيرها"، كما حملت هذه الشواهد التي نحتت على ألواح من الحجر الرخامي والجيري أسماء شخصياتها النسائية، وبعض تلك الآثار معروض في متحف صنعاء الوطني والبعض الآخر ضمن مجموعات خاصة. ويشير باسلامة إلى إن هناك شواهد سبئية تظهر حالة الجلوس للنساء أصحاب الشواهد ممسكات جميعها بآلات موسيقية مختلفة وهي في حالة الوقوف وقد أحاطت بها المناظر المعمارية والزخرفة النباتية وعناصر حيوانية وموائد الطعام. وحسب باسلامة فإن أغلب تلك الشواهد تعود إلى فترة ما قبل الميلاد. ويؤكد أستاذ الآثار بجامعة صنعاء الدكتور محمد باسلامة أن الآلات الموسيقية في تلك الشواهد قد أتت متشابهة في شكلها مثل آلة الهارب ذات الصندوق المدور والسيقان الجانبية والحامل للأوتار، وكذا الطبلة المقسمة إلى جزئين مدور مزخرف الحافة وسفلي مخروطي الشكل وآلة الصلاصل التي ظهرت بشكل بسيط، لكنها حددت الجزء العلوي والقضيب الطويل الذي ينتهي بما يشبه الكرات المصوتة. شواهد من متحف صنعاء يعرض المتحف الوطني بصنعاء لوحاً من الرخام مكسوراً في جزئه العلوي عليه مشهدان بالنحت البارز "بارتفاع 40 سم وعرض 22 سم وسمك 5 سم"، المشهد العلوي يظهر فيه سرير مرتفع قليلاً عن الأرضية يقوم على قواعد مستطيلة مركبة، تبدو قاعدة الجهة اليمنى وركيزتين في الوسط وفي الطرف الأيسر جزء من قاعدة كرسي مرتفع والجزء السفلي من ثوب شخص يغطي القدمين بينما تظهر فوق السرير طية ثوب شخص مستلقٍ على السرير. فيما يظهر المشهد السفلي امرأتين جالستين متقابلتين على جانبهما عمودان بتيجان ناتئة يربط بينهما عقد محزز، يقوم العمودان على قواعد بثلاثة مستويات ويخرج من جانبي العقد فرع نباتي بورقة ثلاثية معرقة، المرأة الجالسة إلى اليمين فوق مقعد على شكل خطوط طويلة وعرضية وتستند إلى ركيزتين تتوسط كل منهما دائرة. أما المرأة الظاهرة من جهة اليسار فجالسة على مقعد صغير يشبه الكرسي وتلبس المرأتان ثياباً طويلة ذات طيات تلتف حول الجسم على شكل خطوط مائلة تغطي الأقدام والأيدي وعلى كل رأس يظهر الشعر على شكل خطوط ملفوف من بداية الرأس وينسدل إلى الخلف مستلقٍ فوق الكتف، وقد ميز كل وجه حاجب وعين لوزية وفم صغير على هيئة خطوط محززة وتمسك المرأة التي إلى اليمين بآلة موسيقية وترية "الهارب" أو "الصنج" أسفلها صندوق مدور ولها رأسان جانبيان وحامل الأوتار التي تنزل عمودية على الصندوق المدور المصوت، ويظهر وضع الأيدي حالة العزف على الأوتار بسبابة اليد اليمنى بينما ترتفع اليد اليسرى من الخلف تنبر الأوتار بأصابعها الخمسة، أما المرأة الجالسة إلى اليسار فأنها تمسك بآلة إيقاع "طبلة" مدورة بحلقات وترتفع اليد اليمنى استعداداً للضرب على الآلة. توجد لوحات مشابهة لهذه اللوحة، وهي من قبور سبئية، الأولى لشخوص نسائية متعددة الأوضاع في مشهدين، العلوي تجلس امرأة على مقعد تمسك بآلة "الهارب" وتعزف بها بكلتا يديها، وبجانبها تقف امرأتان أصغر حجماً منها إحداهن في الجانب الأيسر تمسك بيدها اليسرى بآلة إيقاع "طبلة" بينما ترتفع اليمنى للضرب عليها وفي الجانب الأيمن تمسك امرأة بيدها اليسرى بآلة إيقاعية من نوع "الصلاصل" ذات رأسين منحنيين جانباً وقضيب طويل ينتهي بالأسفل بما يشبه الكرات المصوتة وإلى جانب المشهد عمودان وعقد نهايته على شكل رأس حيوان وأغصان نبات العنب، والمشد السفلي ترى المرأة مضطجعة وبجانبها امرأة ترعاها، بالإضافة إلى شكل حيواني (خروف ومعزة) بحجم صغير وكتابة بخط المسند تقع في سطرين بأعلى ووسط اللوح ويقرأ كالآتي: ص و ر/غ ل ل ت/ب ت/م ف د ت/، و ل ي ق م ع ن/ع ث ت ر/ذ ي ث ب ر ن ه والمعنى: "صورة غلالة بنت (مفدت) وليقمع عثتر من يتلفه" حسب باسلامة. ويعود هذا اللوح إلى القرن الأول قبل الميلاد وفي لوح ثانٍ مشهد لامرأة على مقعد مرتفع بوضع جانبي، وتمسك بيدها آلة موسيقية "الهارب" تنقرها بأصابع يديها، مشابهة، تعزف عليها وإلى جانبيها خادمتان هما أصغر حجماً إحداهن في الجانب الأيمن تمسك بيدها اليمنى ما يشبه الطبلة، ويحيط بهن عمودان وعقد طرفية على شكل رأس حيوان يشبه الماعز ملتوياً للداخل، وفي زاويتي العقد فرع نبات العنب بورقي خماسية. ولوح آخر معروض في المتحف الوطني بصنعاء أيضاً، ذي مشهد واحد تجلس صاحبة الشاهد على الكرسي ممسكة بآلة "الهارب" تعزف عليها بأصابع يدها التي تظهر كبيرة الحجم وفي جانبها الأيسر تقف امرأة ممسكة بآلة إيقاع "الطبلة" رافعة اليد اليمنى للضرب، بينما يوجد في الجانب الأيمن شكل طير "حمامة" وقد أحاط الجميع عقد معماري مزين بالنبات. وفي لوح آخر مشهدان علوي في طرفه الأيسر شخص جالس على مقعد وأمامه مائدة مرتفعة تشبه المقعد عليها مواد قرابين وقد امتدت اليد اليمنى للشخص الجالس ليمسك بها، وبجانب المائدة امرأتان أحدهما القريبة قصيرة بيدها اليمنى آنية، بينما تقف خلفها امرأة أطول تمسك بآلة موسيقية تشبه العود وفي المشهد السفلي يركب الشخص نفسه "حصانًا" ممسكاً بيده اليمنى عصا طويلة وأمامه جمل في حالة حركة، كتب بأعلى اللوح سطران بخط المسند. العود في المنحوتة السبئية ويذهب إلى أن قدم آلة العود في اليمن دليلاً على أن ما جاء بعدها وما عرف في البلاد العربية وغيرها إنما كان امتداداً لها. ويقول: شكل العود في المنحوتة السبئية لا يختلف تقريباً عن العود الحديث وهو يحتوي على ثقبين مدورين لتقوية وتضخيم الصوت الذي ينبعث من الآلة أثناء العزف، ويتكون العود من صندوق صوتي مصنوع من الخشب بشكل نصف الكمثرى تتصل به اتصالاً وثيقاً الرقبة مع البنجق "الرأس آو نهاية الرأس" ويغطي صدره أو الوجه بالخشب ويحتوي الوجه على فتحات مختلفة الحجوم تسمى الشمسية، وتشد أوتار العود بصورة موازية لوجه الصندوق الصوتي اعتباراً من الملاوي "المفاتيح" ومارةً فوق الرقبة ومنتهية عند الفرس "قضيب صغير من الخشب يركب رأساً على صدر العود به نقوش ثنائية لربط أطراف الأوتار".. وترجع أكثر المصادر التاريخية تأكيداً أول ذكر لغناء اليمن لما قبل الإسلام إلى القرن التاسع الميلادي.