وأخيراً.. وأخيراً انتهى بي المطاف في هذه الحجرة، أنسج من ظلامها نوراً ، ألبسه أعماقي ليدفئ البرودة الساكنة فيه. أعلم جيداً - بعد مرارة التجربة - أن والدي كان يهدف لمصلحتنا ويسعى لتحقيق سعادتنا كما تبلورت من وجهة نظره.. كيف لا!!! ونحن سبع شقيقات أنعم الله بنا عليه -عكس ما يظنه- فكان خبر ولادة كل واحدة منا كارثة تحط على رأسه، وهماً جديداً يضاف إلى همومه، لم يكن ليهتم بما تعانيه أمي من الحمل المتكرر إلاّ بعد أن كاد يفقدها في ولادة الكارثة السابعة، «استئصال الرحم.. ؟! هل جننتي يادكتورة؟!! لازلت أنتظر الولد ..!» هكذا رد عليها لكنه رضخ للأمر الواقع بعد أن اختلى بذاته لأيام. ضعفه أمام نصائح أمه المتكررة «تزوج يا ولدي لتنجب الولد الذي سيخلد ذكراك» جعلته لايتردد، لم يفاجئ أمي خبر زواجه بأخرى فهذا ما توقعته منذ ولادة شقيقتي الثالثة واستقبلته بحجم روحها التي تعشقه عندما عاد لها حاملاً (كارثتين) بعد وفاة والدتهما. سكنه الخوف علينا فزرعه بداخل كل واحدة منا، فاستلذينا العيش داخل زجاجته الفولاذية، نبضات قلبه الفرحة عندما كان يزف بها نبأ موافقته على خطوبة احدانا - بعد أن تجاوز الثانية عشرة - لشخص لاتعرفه أو حتى تسمع عنه هي ذاتها النبضات الحزينة التي يستقبل بها فشل تلك الزيجة ، كيف لاتفشل؟!! كيف لاتفشل والرجل هو العيب الوحيد في هذه الدنيا الذي تربينا عليه؛ كيف أتزوج العيب وأعيش معه!! وأنجب منه أولاداً !! وقد حُرِم عليّ التفكير فيه حتى في الأحلام التي أجهضها كل مساء عندما تداهمني لحظات كانت يدي تتجول بين خبايا جسدي منتشية. نجح أحايين كثيرة في إصلاح أمور كوارثه ، وفشلت كل أساليبه معي ربما لأني الكارثة الأولى التي استقبلت الكوارث الأخرى بابتسامة مخنوقة كنت اواجهه بها لأزف إليه النبأ/ الكارثة. ثورة انتقالي إلى عالم العيب كانت القضاء على الخوف الذي اعتلت رأسي هالته والتمتع بكل ما حُرمت منه شغلني اكتشاف العالم.. نعم اكتشافه خارج الزجاجة التي كنت حبيستها. سارت جميع أموري كما يأمر العيب وكما يشتهي دون أدنى اكتراث مني له أو لما كان قد بدأ ينمو في أحشائي، كان أيضاً يريده عيباً يخلد ذكراه، يكون امتداداً لأسمه ولحسبه الرفيع. فاستمر جوفي في إخراج محتواه دون أسف. جلدني بسياط كلامه وهو يعبر عن خوفه من أن أكون مثل أمي أنجب كوارث فقط «أشعر بالشفقة على والدك كلما نظرت في عينيه» لبستني أنانية حبي لذاتي فأحسنت استغلال الفترة الذهبية قبل أن تزول نعمتها بمجرد إنهاء مهمتي. تكورت بطني.. وبدأ ما بداخلها يزلزلني بحركاته ليذكرني باحتياجاته وبحقه في الكينونة،... صُعقت الداية التي قامت بتوليدي من جَلَدي الشديد على الآلام «اصرخي يا ابنتي.. أبكي إن شئتِ، هذا سيخفف عنك!!» لم افعل - كان صراخ أمي يتلاطم في أذني - منذ ولادة شقيقاتي مرددة بين الحين والآخر دعائها لله بأن يكون مخاضها عيباً يفرح قلب والدي وينهي خوفها لتعيش معه بأمان وهو جل ما تتمناه. وكان لعيبي ما أراد وقبل الاطمئنان عليَّ ركض نحوه وانتزعه من يد الداية وانهالت قبلاته عليه. خرج ليتلقى التهاني بطاووسية ، تشاور معهم في الاسم الذي سيهبه (للعيب الذي رزق به). انكشف لي الوجه الآخر له، سلبني حق رعاية الصغير إلا كما يريد هو، أضجرتني أوامره القاسية، أرهقتني الزجاجة التي يخنقني عنقها كل يوم أكثر من زجاجة أبي، تزايد غليان حقدي ، سرى في دم الصغير حليب احتراقي اليومي بدأ وهج الحياة ينطفئ في عينيه ، نظراته أعادتني إلى حضن أمي الدافئ الرحيم.. ضممته.. ولدي.. ولدي... ولدي !نعم .. ولدي ،أدفأتني القشعريرة التي غمرت جسدينا، انهمرت دموعي حتى بللته، لسعتني برودة جسده ، فشلوا في انتزاعه من بين ذراعي ، اشتدت برودة صمتي ، تخشب جسدي ، انتزعوه جثة هامدة؛. علا صراخ مخاضه الحبيس في رحمي ،التف حبله السري حول رقبتي ي........خ.....ن....قني ي...و..قظ...ن...