كانت القرية تغطّ في نوم عميق.. يلفها الشتاء برداءٍ أبيض جميل ما اعتادت القرية أن ترتديه من قبل.. يتسلل الأثير البارد من كل زوايا المنزل العارية من الطين.. كُل ما حولها يتجمد إلا هي.. بركانٌ يطلق حمماً من الأنات والآهات المصبوغة بألوان الألم. لم يكن ذلك البركان الخامل إلا مخاضاً عاشته «مريم» طفلة الخامسة عشرة.. ولم تكن تلك الفوهة إلا رحماً يلفظ أنفاسه الأخيرة ليضع بين يدي «الداية العجوز» طفلة جميلة لم يبق بينها وبين والدتها إلاَّ حبل الحياة الذي يوشك أن يموت، تهدل جفنا «مريم» وراحت في سُبات طويل.. استمر حتى أصبحت الشمسُ في كبد السماء.. لم ير أحد من حولها ذلك الطهر الذي يكسو جبينها.. لم يشعروا بطعم الموت الذي عانت احتساء كأسه عارية من كل ما يستر النفس على نعش المآل الأخير.. ثم تعود الحياة لتدب في عروقها.. تسير رويداً رويداً لئلا يغرق جسدها بالذهول. وبعد مخاض أوقفها حيّة على مشارف قبرها.. عادت لتعيش. ما عساها تصنع تلك الصغيرة في أول درس من كتاب الأمومة.. كل ما استطاعت أن تضعه أم في مثل عمرها أن تحتضن وليدتها طويلاً.. حتى تكادُ تغيب الرضيعة على صدر نهداه إبريقان خاويان على مائدة ملك. تُشرق الشمس وقد توسدت «مريم» جدار الأمنيات البعيدة.. وهي تحتضن الصغيرة في عطف أم وإعجاب طفلة بلُعبة جديدة.. مرت سبعة أيام وحضرت «الداية العجور» من جديد.. شعرت «مريم» بالذُعر حين وقعت عيناها على يدي العجوز.. تذكرت ليلة مخاضها.. كيف سقتها جُرعة ألم فاجرة وهي تهز فخذيها بحنق شديد.. جعلت والدتها تتخذُ من زوايا الحجرة الأربعة ملاذاً تأوي إليه كلما صرخت الفتاة: «أمي.. إنني أموت».. وأرادت الداية أن ترى الرضيعة.. فأبت «مريم» وحالت بينها وبين ما تريد.. بعد ساعة من حديث طويل بين الداية ووالدة مريم ونساء المنزل الذي يقطنه الجهل.. ويزوره فيه أعوانه. جاءت العجوز لتخبر «مريم» أن اليوم هو يوم «طهور» لكن «مريم» صرخت في وجه العجوز: «هذه فتاة.. وليست ولداً! في المدرسة أخبرنا أن الختان يؤثر على الفتيات.. هكذا أخبرنا الطبيب الزائر والممرضة المقيمة قريباً من المدرسة».. توسلت «مريم» كثيراً أمام والدتها.. أخبرتها أنها لم تنس بعد يوم طهورها والألم الذي عانته بعدها.. عندما عمدت الجدة إلى ختان «مريم» وهي في السادسة من العمر!!. وقفت «مريم» بين أيديهن وكأنها في محكمة.. لكن في وطن مازالت محاكمه مغلقة بأقفال الظُلم.. مختومة بشمع التبلد.. موصودة بمفاتيح الجهل.. لم تفلح مرافعاتها المغمورة بالدموع.. وحين يكون للعفاف وطن.. وللعفة وطن آخر.. حين تكون الأنثى نصف جسد.. لا يُنظر إليها كعفيفة إلا بإلغاء معالم عفتها.. ونسف جبال خصوبتها لتكون قاعاً صفصفاً.. صحراء قاحلة.. آثاراً مشوهة.. معالم لشيء ما.. كان هنا.. ويدخل العُرف والعادات والطبُّ والدين في صراع طويل.. لأجل أنثى أرادت أن تثمل لا كما يثمل الرجال.. الرجال الذين لا يحدد لهم المجتمع أدوات العفة.. وأغراض الطهارة.. وحتى أوليات النظافة..!!. الرجال الذين يتوجهم المجتمع ملوكاً فيسقطون على ساحة الحب حين يكتشفون أن نساءهم بلا معالم! فيرحلوا بعيداً للبحث عن أنثى يرفعون أعلامهم على أرضها قبل المعركة!. وغسلت «الداية» يديها بدم الرضيعة.. وطهرت فظاظتها بعفة الصغيرة.. انطلقت صرخات الرضيعة هنا وهناك تبحث عن أذن تسمعها.. لكن لهؤلاء البشر آذاناً لا يسمعون بها!!. طفلتان تبكيان.. طفلة تحتضن أخرى.. أم صغيرة ترى أمامها شريط ذكريات مريراً.. ليلة زفافها.. حين أوقعها زوجها أرضاً ليتمكن منها.. تراجيديا اغتصاب الرجال لزوجاتهم.. وقبل سبع ليالٍ من الآن.. لحظة مخاضها المفزعة.. وهذا المشهد الأخير الذي انتهكت فيه العادات براءة «مروة» الرضيعة الجميلة.. وطفلة أخرى رضيعة قتلتها العفة..! تصوروا أن تحيينا العفة وتقتلنا.. تصوروا أن يكون في هذا القرن من لايزال يعتقد أنه لا شيء يُثبت عفة المرأة غير أعضائها؟!. أن لا يكون عقلها موضع عفة.. قلبها مكان عفة.. روحها مستودع عفة.. أفكارها.. تضحياتها.. أبناؤها.. زوجها.. كل هذا لا شيء من العفة فيه؟!!. هل كل بنات الليل.. نساءً غير مختونات.. هل كل بنات النهار نساء مختونات؟! وهل ميز الدين بين هذه وتلك بأداة واحدة فقط؟! أو عضو واحد فقط؟! وهل أصبح للفضيلة عنوان؟! وهل من العدل إذاً أن يُدمر عنوان الفضيلة وتُلغى معالمه.. وتشوه الغاية من وجوده في عقول الناس..؟!!. لم تصمد «مروة» الرضيعة الجميلة طويلاً أمام سطوة الألم.. لم تصمد إلا ليلة واحدة بعد أن نزفت دماؤها وأصبحت ورقة خريف معلقة على شجرة ربيع راحل.. كانت الجدة تستخدم «الكُحل» لتضميد الجرح.. تصورا أن تكونوا ممن يكحلون عيوناً عمياء لا ترى ولا تبصر!! الكحل الذي تكتظ به أكياس الباعة المتجولين.. الذي ثبت علمياً تأثيره على البصر لاحتوائه مواد سامة. ومنذ متى كان السم دواءً إلا من بعد أن أصبح الترياقُ داءً!!.. وماتت «مروة» لحقت بأولئك الذين تبوأوا دار القرار.. رحلت قبل أن تعبثُ الرغبة بأعضائها.. قبل أن تتعلم معنى العفة.. قبل أن تكون الأنثى التي يُخشى خرابها.. قبل أن تكون التفاحة النيئة لرجل ناضج!!. هكذا ترحل النساء عندنا على نعش الأعراف التي جعلت من المرأة صغيرة كانت أم كبيرة عاراً يجُب أن يوارى.. لكن بثياب ممزقة.. فضيحة يجب أن تُستر.. عيباً يجب أن يُصلح.. لكن خلف جدران البذاءة.. ماتت مروة.. ودخلت «مريم» نفق الكآبة المظلم.. تتعثر بدموعها الكلمات.. فتقعُ حبيسة الشفاة الصامتة.. كيف لطفلة مثل هذه أن تنسى طعم الألم وقد نقشته الأيام على صدرها وشماً قبيحاً..؟!. كيف تجرؤ الفرحة بعد اليوم أن تُطل من شرفةِ عينيها وسماءُ قلبها مُلبدة بالغيوم.. كيف ستمد للحياة كفيها وهي مقيدة بألوان الأسى؟!. «مريم» ليست وحدها الأم الصغيرة التي فقدت طفلتها الأولى.. أو طفلها الأول لأي سببٍ كان.. وسواء كان الزواج المبكر.. أم تلك العادات الصحية السيئة التي قتلت الكثير من الصغار.. والصغيرات.. فإن النهاية واحدة حياة بائسة خلف قضبان التعب النفسي.. والعراء الروحي.. وخيبة الأمل الراقدة داخل أرواح هؤلاء النساء الصغيرات.