هناك الكثير من الأعلام والرموز الوطنية التي لها ذكرى محبّبة إلى القلوب، فجدير على الأجيال أن تعرفها وتعرف نتاجها وأسرار حياتها المليئة بالكفاح والوطنية والإصرار والحرية. وهاهي تمر علينا ذكرى الشاعر الأديب عبدالله هادي سبيت، ونحن في سبات عميق عنه، لاجهات رسمية أو غيرها عملت شيئاً يذكر من أجل هذا العلم السامق في سماء الفكر والإبداع في اليمن. البدايات ينتمي سبيت إلى محافظة لحج، المحافظة الولادة للمبدعين فهي تزخر وتزهو بأبنائها الذين أثروا الساحة الوطنية علماً وأدباً وفناً، خصوصاً مدينة الحوطة حاضرة لحج، التي ودعها كثيراً ابنها عبدالله هادي، فقد ودعها قبل الاستقلال وبعده، عندما عاد إليها حالماً، ولكنه خاب حلمه أمام زحف الأفكار القادمة من الشرق حينها، فرفضها عقله المملوء نوراً وصفاء ونقاء. نعم إنه ينتمي إلى لحج الذي قال عنها الأمير عبده عبدالكريم العبدلي بأنها تمتلك تراثاً فنياً شعبياً هائلاً قبل نهضتها والتشكل الجديد لأغنيتها، وقد كان هذا التراث يتمثل في ألوان الغناء المختلفة فيها، فمثلاً كانت هناك أغان للحرب، وهناك أغان للحصاد، والزراعة والشراحة، وهناك أغان للأعياد والأفراح ويوم عاشوراء.. وحتى الحزن والمأتم. في هذه البيئة وجد نفسه - الفتى الصغير- حينذاك، بل عمل في مهنة التدريس وهو في سن السادسة عشر، فكان ذلك الشاب المتطلع الباحث عن العلم الذي اكتسبه من والده أولاً ثم من رجالات لحج حينها. وكان اهتمام عبدالله ينصب نحو الأدب، وخصوصاً الشعر الذي نبغ فيه مبكراً، يقول الأستاذ/عبدالله علي الجفري في تقديمه لديوان سبيت الأول«الدموع الضاحكة»: إن المرحوم الأمير أحمد مهدي بن علي كانت له جلسات وسمرات في خلوته «الغرفة المنفردة في أعلى البناية» وكان ذلك حوالي 1936م، وفي تلك الأيام كان الأمير عبدالله بن عثمان سلطان الفضلي حينها نازلاً ضيفاً علىه في لحج وكان المجلس يضم دائماً الشاعرين الأستاذ المربي المرحوم حسن أفندي والشاعر مسرور مبروك، وكانت تثار بينهما مساجلات شعرية، وكان والد شاعرنا يحضر هذه الجلسات ويصطحب معه ابنه «عبدالله» الذي كان فضولياً، إذ كثيراً ما أراد أن يجاري الشاعرين فيسكته والده، ومن ذلك الحين أحس الشاعر بقوة عنيفة تدفعه لأن يقول الشعر ويقول أيضاً عن بداية حياة شاعرنا عبدالله علي الجفري في تقديمه لديوان سبيت«الرجوع إلى الله» متحدثاً عن بدايات شاعرنا: كنت أصغره بحوالي خمس سنوات أو أقل، وفي الفترة المبكرة أذكر أنني كنت منجذباً جداً إلى شخصيته. هذه هي شخصية سبيت في بداياته التي أرادت أن تشق لها طريقاً خاصاً بعيداً عن أية شخصية حينها، فكانت شخصية سبيت ذات البصمات الفنية والحضور، وإن طغى عليها الجانب الروحي والفني الخلاق. احتراف الألحان لقد بدأ أولاً منشداً الأناشيد الحماسية والعاطفية، ومن ثم انطلق في نظم الشعر الغنائي، ثم احترف التلحين وذلك في أواخر الاربعينيات ثم انطلق مع الأصوات الثورية في الوطن العربي التي ارتفعت حينها بعد ثورة يوليو في مصر وثورة الجزائر وهكذا، فكانت مرحلة ناضجة إذ وجدنا فيها«ياشاكي السلاح، اشرقي ياشمس العروبة» وكل ذلك كان نتيجة للنفس الحساسة والقريحة التي يمتاز بها شاعرنا ونتيجة أيضاً للبيئة الفنية التي كان يعايشها آنذاك وهي بيئة القمندان، وفضل محمد، وعبده عبدالكريم، ولكن شخصية سبيت تتجه اتجاهاً منفرداً لتوجد مدرسة جديدة في الغناء اللحجي، لها مقوماتها في الموسيقى والألحان، فعمل أولاً علاقة مشتركة مع الفنان محمد صالح حمدون، فكانت الأغنية المشهورة «سألت العين» التي اشتهرت حينها، وهو الذي قدمها حمدون في موسم دعم الثورة الجزائرية على خشبات مسارح لحج وعدن. ومن الأغاني التي غناها حمدون لسبيت: «والله مافرقته، يابوي يابوي، ألا لما متى يبعد وهو مني قريب، ياباهي الجبين، ياشاكي السلاح». في هذه الأثناء كان خروج سبيت الأول من مسقط رأسه إلى مصر أولاً وذلك نتيجة لمواقفه الوطنية الرائعة ضد الاستعمار، وأيضاً مناصرته الفذة للثورات العربية الناشئة حينها. حياة من الغربة والحنين لقد لعب سبيت دوراً عظيماً في مقارعة الاستعمار شعراً ولحناً وغناء ونحن نعلم ماتعمله الكلمة المؤثرة، من تأجيج وبث للحماسة لدى جماهير الشعب بل لقد استطاع شاعرنا أن يتصدى لحالات القهر الثوري، حيث عايش معاناة الأمة العربية في تحررها، وأكثر وقفة وقفها كانت مع الشعب الجزائري الشقيق. ونستشف مع كل ذلك مدى الارتباط الوثيق بين الأرض وشاعرنا فكان رومانسياً من الطراز الأول، لما تحمله كلماته وأغانيه من معاناة وتعلق بالطبيعة، فكان ذلك التعبير الذي يسمو فوق العشق اللامتناهي، والذي يدل على رومانسية شاعرنا عناوين دواوينه وبعض قصائده فهناك ديوان الدموع الضاحكة، «وديوان الظامئون إلى الحياة»، وديوان أناشيد الحياة، ومن قصائده التي نستشف رومانسية من عناوينها قصيدة مع الطبيعة والشاعر، الربيع الدائم، الشاعر والسماء. فيبدو ذلك الحنين المنقطع الذي يذكرنا بعمالقة الرومانسية العربية كأبي القاسم الشابي، وجبران خليل جبران، إذ نجد الحنين والاغتراب والحزن والوحدة، وهذه ماتترجمه أشعاره بطريقة لاشعورية من مثل قوله في قصيدته «الشاعر» الذي تحدث عن هذا المعنى كثير من الرومانسيين: مبدع قد قطع الألحان في آهاته تائه قد أسكن الأكوان في طياته بخيال يعرض الأزمان في ومضاته حالم يستقطر الأحلام من آياته فمن هو هذا الشاعر المتألم الحزين غير شاعرنا، وإن كانت الأحلام والألحان، فهو يدور حول ذاته مستلهماً منها القوة على البعد والغياب يحاول أن يرسم على الأكوان من روحه وصفاه وهدوءه، إذ نراه مثلاً في آخر حياته يحيا البساطة، بعد أن اعتزل الفن والشعر يعود إلى حياة الروح حيث عمل إماماً لأحد مساجد المدينة الحالمة «تعز» ويظل ذلك الارتباط والحنين مع الروح، وكأن روحه الشفافة تحرص على أن تظل مع الله فتكون صرخته الرجوع إلى الله بنفس رومانسية خالية من الشرور والاحقاد. في الحنايا فيه قلب يملأ الدنيا رجاء في جنان الخلد يحيا دون حقد أوجفاء هو في الأرض ولكن عاش عنها في سماء فلقد بدأ حياته نقياً ومات نقياً، وهو يحمل قلباً طالما تألم، وبكى وحزن نعم فقد عايش هموماً كثيرة البداية عندما فقد ابنتيه وهما صغيرتان بعمر الزهور، ثم يعيش منفياً بعيداً عن تراب أرضه «لحج» فيتناسى كل ذلك ويعيش لعالم الصفاء والنقاء، فيعش لعالم الروح، ويكتب قصائده البديعة الروحانية التي قالها في مناسبات شتى، وإن كان عنوانها الرجوع إلى الله، والذوبان في محبة الرسول «صلى الله عليه وسلم» ومن هذا الديوان الذي بدأ بقوله: عبدالله هادي سبيت المفتقر إلى الله عزوجل. قصائد هذا الديوان الذي نشرت حينها «صحيفة الجمهورية» العديد من هذه القصائد والتي منها قوله: محمد شغلتنا اليوم دنيانا وأنست الكل جنات ورضوانا وأن ثمة حُسنى مع زيادةٍ اشتا قت إلى إليها اشتاق ايمانا فهذه هي حياة شاعرنا عبدالله هادي سبيت، المدرسة الفنية والوطنية الرائدة التي ربما ستظل تتردد بين الأجيال كعلم وقف للظلم، ونظم على محاربته أعظم الأغنيات الوطنية ومنها أنشودة «ياظالم لك يوم» وأنشودة «زمان الخوف ولى» فهل انتهى الظلم، وهل زمان الخوف ولىّ الذي يحاول الكثير اليوم استردده، ولكن هيهات، وستبقى كلمات سبيت خالدة بخلود الوطن، ورحم الله شاعرنا رحمة واسعة.