فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن تحت حكم الإمام أحمد 1948-1962 الحلق17
نشر في الجمهورية يوم 17 - 09 - 2008

انتهى عهد الإمام أحمد بموته ، وإن كان الموت لم يوقف تداعيات فترة حكمه البائسة والتي بدأت في الظهور بمجرد غيابه ، وبعد أسبوع سقطت الإمامة الزيدية السياسية في اليمن ، ومع سقوطها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر.
كان غياب الإمامة كطريقة في الحكم ، وشكل من أشكال السلطة حدثاً مهماً بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول سياسي وديني ، فخلال أحد عشر قرناً كان دور الأئمة حاضراً ، صاحب هذا الحضور نفوذ ديني يمتد ليشمل اليمن الطبيعي كله ، أو ينحصر ويتراجع شمالاً حتى جبال صعدة.
ومع كل تراجع كانت هناك فرصة جديدة للتمدد جنوباً ، لأن في الزيدية كمذهب ديني روحاً ثورية متمردة ،ترفض الظلم والاستبداد ، وتدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم مهما كانت ادعاءاته السياسية والدينية.
3 اليمن وقضية الجنوب
في مطلع القرن التاسع عشر، كانت العلاقات الدولية قد شهدت تغيرات هامة، حيث برزت بريطانيا وفرنسا كدولتين استعماريتين كبيرتين أخذتا تتطلعان إلى المزيد من المستعمرات في الشرق، في وقت كان نجم الدولة العثمانية قد أخذ في الأفول، وأصبحت ممتلكاتها في المشرق وشمال أفريقيا عرضة للاحتلال.
إلا أن الدور البريطاني قد بدا مهيمناً إذ تمتعت بريطانيا بقوة اقتصادية هائلة، وقوة برية وبحرية متقدمة، مكنتها من فرض سيادتها عالمياً، كقوة أولى دون منازع، هيمنت على مساحة من الأرض بلغت ربع مساحة اليابس، وحكمت نحو ثلث سكان الكرة الأرضية.
وللسيطرة على هذه المساحة، والتحكم في مستعمراتها البعيدة من مركز الامبراطورية، كان لابد لها من السيطرة على طرق المواصلات والامداد، وكان الطريق إلى الهند والشرق الأقصى المار عبر السويس فسواحل البحرين الأحمر والعربي، المار بباب المندب بعدن هو الأكثر حيوية.
في تلك الفترة كانت المنطقة اسمياً تتبع الدولة العثمانية، وكان معظم الجنوب جزءاً من ولاية اليمن العثمانية، وفيما بعد جزءاً من دولة القاسميين الزيدية وإن لم تعمر سيطرتهم عليها كثيراً.. لقد أخذت هذه المناطق تنفصل شيئاً فشيئاً عن السلطة المركزية في صنعاء وفي عام 2371م كان العبادلة قد استقلوا بلحج وعدن، وكذلك كانت يافع والمناطق الوسطى والشرقية وحضرموت.
وتباعاً فقد أخذت بريطانيا تضع أرجلها في المنطقة فاحتلت جزيرة بريم«ميون» سنة 9971م تحسباً لآثار الحملة الفرنسية على مصر، وأرسلت مندوبها إلى المنطقة تحذر من عواقب الخطر الفرنسي القادم إليها، وقد أثمرت حملتها بتوقيع عدد من الاتفاقيات، يهمنا منها اتفاقيتهم مع سلطان لحج في عام 2081م تنص على فتح ميناء عدن للتجارة البريطانية، وتأجير جزء من مدينة عدن لهم، وبعد ذلك أخذ نفوذهم يزداد، وعلاقاتهم تتشعب مع حكام المنطقة وفي نفس الوقت حظى الانجليز ببعض التسهيلات في ميناء المخا التابع لإمام اليمن، والذي كان حينها مرفأ للسفن الأوروبية التجارية، ومنفذاً هاماً لتجارة البن اليمني المزدهرة حينها.
وبدا وكأن المنطقة تتجه نحو الاستقرار لولا ظهور الحركة الوهابية في قلب الجزيرة العربية والتي مدت نفوذها إلى اليمن وهددت المصالح العثمانية هناك ولأنهم عجزوا عن القضاء على الحركة فقد طلبوا من محمد علي والي مصر القضاء عليها، وقام محمد علي بنشاط كبير في الجزيرة العربية، تدفعه إلى ذلك الرغبة في مهادنة الباب العالي أولاً، وتحركه طموحاته نحو تكوين كيان مستقل واسع الأرجاء وقد تمكن محمد علي في الفترة من 21819381 من القضاء على الدولة السعودية الوهابية مرتين وأعاد المنطقة إلى حظيرة الدولة العثمانية وأبعد الخطر الوهابي عن اليمن.
كانت بريطانيا ترقب باهتمام بالغ تحركات والي مصر الطموحة وحتى عام 7381 لم تكن بريطانيا ترغب في مواجهته.. أما وقد تقدمت قواته نحو موانئ اليمن وسيطرت عليها، كما سيطرت على تجارة البن هناك، وبلغت مدينة تعز القريبة من عدن، حينها رأت في وجوده في اليمن عقبة في وجه مخططاتها الاستعمارية وابلغوه بأنهم لاينظرون بارتياح إلى تحركاته في اليمن والجزيرة العربية ولاحقاً أنذروه بأنهم لايرغبون أن يروا القوات المصرية تستمر في احتلال المخا لأن وجود القوات المصرية في المخا أضر بالمصالح التجارية لبريطانيا.
كما راقب البريطانيون التحركات الفرنسية في شمال أفريقيا، والبحر الأحمر في تلك الآونة وفي ضوء ما اختمر لديهم من معلومات حول ميناء عدن كموقع استراتيجي، يشرف على مدخل البحر الأحمر وطريق المواصلات البحري بين الهند ودرة التاج البريطاني، وبريطانيا وصلاحيته كميناء تجاري، وقاعدة ارتكاز عسكرية تكون نقطة انطلاق للسيطرة على بقية المنطقة، قررت بريطانيا احتلال عدن، الذي كان يستهدف تحقيق أمرين غاية في الأهمية، وقف توسع محمد علي في المنطقة، أولاً، واستخدام عدن لمنع أية قوة أجنبية في منافستها في المنطقة، ثانياً.
لقد استغل البريطانيون حادث السفينة«داريادولت» المشهورة وعدم قدرة سلطان لحج على دفع التعويضات التي طلبوها 00021ريال وكانت كبيرة فضربت سفنهم المدينة، وسيطرت عليها، دون أن تبدي قوات السلطان مقاومة كبيرة حتى أن الاتهامات وجهت فيما بعد للسلطان بالتآمر والتعاون مع البريطانيين، وهكذا أصبحت عدن مستعمرة بريطانية وبأقل الخسائر.
وسعى البريطانيون لتوسيع نفوذهم في المنطقة، وعبر سلسلة من الاجراءات بما فيها استخدام القوة وشراء الذمم، حيث وطدت بريطانيا أقدامها في الجنوب ووقعت مع حكامه اتفاقيات الصداقة والحماية، بلغت نحو 13اتفاقية.. كان الاهتمام البريطاني باقامة علاقات مع سلاطين المحميات ينبع من الاهتمام بعدن نفسها وبالطريق البحري إلى الهند والمشرق، بينما كان هدف الحكام المحليين«السلاطين» من هذه الاتفاقيات هو ضمان أمنهم ومناطقهم من أي اعتداء خارجي ولم يكن هناك من تهديد حقيقي غير الوجود العثماني في الشمال.
لقد حصل البريطانيون على موقع متميز في الجنوب، وهو وضع مريح، إذ أن وجودهم قد شمل معظم امارات الساحل والداخل، وأعطاهم سيطرة امتدت إلى عمان، بتوقيع اتفاقية حماية مع سلطانها في نفس العام9381 ولم يكن هناك مايثير لديهم الخوف غير الوجود الفرنسي المتنامي في المنطقة خصوصاً وقد حصل هؤلاء على موقع قدم في تاجوراش وانشأوا فيما بعد ميناء «جيبوتي» وكان ذلك يمثل لهم قلقاً دائماً، ويجعلهم في حالة تحفز، استمرت نحو أربعين عاماً.
في هذا الوقت كان العثمانيون قد عادوا ثانية إلى اليمن«9481-2781» وتراجع الأئمة إلى الجبال، وكان خط الحدود بينهم وبين البريطانيين مبهماً، تسبب في عدد لاحصر له من المشكلات وباقتراح من العثمانيين عقدت لجنة مشتركة عدة اجتماعات، ووضعت خطاً فاصلاً بين باب المندب ووادي «بنا» طوله051ميلاً، تمت المصادقة عليه في اتفاقية بين الطرفين سنة 4191م.
هذه الاتفاقية إلى جانب عوامل أخرى، كالتروع المحلي لحكام الجنوب، وسوء ادارة البلاد من قبل حكام الشمال، قسمت اليمن إلى شمال وجنوب وقد أثارت هذه الاتفاقية فيما بعد مشكلات وحروباً، وجرت حول قيمتها وشرعيتها حوارات كثيرة بين الوطنيين بمختلف انتماءاتهم ابتداء من تاريخ توقيعها وحتى قيام الجمهورية اليمنية.
وبعد ذلك نشبت الحرب العالمية الأولى، وغزت القوات العثمانية المحميات، وبعد هزيمة ألمانيا وحليفتها النمسا وتركيا، استسلمت هذه القوات للبريطانيين بموجب هدنة «موندرورس».
أما الإمام يحيى فقد وقف على الحياد، وعندما آلت إليه الأمور أعلن عدم اعترافه بالوجود البريطاني في الجنوب، كما أعلن عدم اعترافه بأي اتفاقيات أبرم العثمانيون مع الادارة البريطانية في عدن لكن المنتصرين في الحرب، أعطوا أنفسهم حق الانتداب والحماية على الأراضي التي كانت في يوم من الأيام خاضعة للحكم العثماني.
أما المناطق المستعمرة فإن الاشارة الوحيدة الواضحة إلى المستعمرات في ميثاق عصبة الأمم المتحدة التي انبثقت عن الحرب وردت في المادة «32»، ونصت على تعهد الأعضاء «بتأمين معاملة عادلة للسكان الأصليين في البلاد التي يحكمونها» وهذا يعني أن العصبة قد أطلقت يد المستعمرين في هذه المناطق، وتجاهلت في ذات الوقت حقوق المواطنين في الدول المستعمرة، وهو الأمر الذي سيعجل بسقوطها لاحقاً.
لقد كان رد البريطانيين على موقف الإمام من وجودهم في الجنوب أن ضربوا الموانئ اليمنية، وقاموا باحتلال الحديدة، فرد الإمام باحتلال الضالع ومناطق أخرى من الجنوب، الأمر الذي فرض على طرفي الصراع التفاوض، وقد بادر البريطانيون إلى طلب التفاوض وأرسلوا من القاهرة المقدم«ه.ف.جيكوب» على رأس بعثة لمناقشة مستقبل العلاقة بينهم وبين الإمام.
كان من بين أعضاء البعثة السير«برنارد رايلي» الذي أصبح حاكماً لعدن فيما بعد، وآخرين وفي «باجل» على الطريق إلى صنعاء قامت قبيلة «القحري» باعتقال البعثة.. كان شعور الزرانيق في المنطقة معادياً للإمام، ولكنه لم يكن موالياً للادريسي، عدو الإمام ومنافسه وحليف البريطانيين، كان واضحاً أن سكان المنطقة حينها يترعون نحو الاستقلال بأمورهم، وهو الشعور الذي كان سائداً في معظم مناطق اليمن وفشلت كل المحاولات لاطلاق سراح البعثة بما في ذلك محاولات تدخل الإمام، وبقية البعثة نحو أربعة شهور في المعتقل، دون أن يصاب أفرادها بالأذى، ثم أطلق سراحها، وأعيد لها كل ما كانت تحمله معها من الهدايا للإمام يحيى وهو الأمر الذي يؤكد الدوافع السياسية البحتة وراء عملية الاعتقال.
وبالرغم من فشل البعثة في الوصول إلى صنعاء ومقابلة الإمام، إلا أن باب التفاوض ظل موارباً من قبل الإمام لكن البريطانيين تصرفوا بحماقة عندما أقدموا على تسليم الحديدة لخصمه الادريسي نكاية به، فرد الإمام بمهاجمة مناطق الضالع، والشعيب، والأجعود والقطيب ورد البريطانيون بقصف الحاميات اليمنية على الحدود وألحقت بها أضراراً فادحة لكن أثر تقدم قوات الإمام في الجنوب كان أعمق، إذ حطم الإمام السلسلة التي شكلها البريطانيون بشق الأنفس في المحميات وقد حطمها في المناطق الأكثر حساسية من الناحية الاستراتيجية والعسكرية فدفع ذلك ببعض القادة البريطانيين للتفكير جدياً في الحوار مع الإمام حول مستقبل المحميات، وكانت لدى هؤلاء القادة رغبة في تقديم بعض التنازلات مقابل الوصول مع الإمام إلى اتفاق نهائي.
وفي الحقيقة فإنه لولا تعنت المسئولين البريطانيين في عدن، وعلى رأسهم المقيم السياسي، لكانت العلاقات البريطانية اليمنية قد سويت في عام 1291م لقد رفض هؤلاء توصيات مؤتمر الخبراء الذي انعقد في القاهرة في مارس من نفس العام إذ رأى المؤتمر ضرورة الاعتراف بسلطة الإمام على المحميات حتى حدود لحج، فعارض المقيم السياسي في عدن ذلك ثم قررت الحكومة البريطانية الاعتراف بالإمام على حساب أمراء المحميات غير الموثوق فيهم، شريطة موافقته على اعتبار عدن ولحج بريطانيتين وبأن تصبح عدن المنفذ الاقتصادي لكل اليمن بما فيها مملكته، ومرة ثانية عارض المقيم السياسي ذلك المشروع فتم تجميده واستمرت بعد ذلك منطقة الحدود في حالة من الاضطراب.
وعاد البريطانيون يطلبون التفاوض، وأرسلوا ثانية«جيكوب» إلى الإمام عبر تعز هذه المرة، واستقبل الإمام مبعوثاً عنه هو القاضي عبدالله العرشي ممثلاً له في عدن، ومكث العرشي في عدن عامين، وفشل هو الآخر، وهذه المرة بسبب اصرار البريطانيين على دعم موقف الأدارسة في خلافهم مع الإمام في المناطق الشمالية وعاد التوتر من جديد لكن الإمام حقق انتصارات على الادريسي واستعاد الحديدة في عام 5291م فاسقط من يد البريطانيين وسيلة ضغط كانوا يستخدمونها ضده، ولم يجدوا مناصاً من التفاوض مع الإمام خصوصاً وقد توتر الموقف على الحدود أكثر من مرة وبعثوا إلى صنعاء السير«جيلبرت كليتون» وفي الفترة من 42يناير إلى 12فبراير 6291م جرت مفاوضات ومشاورات دون نتيجة وعاد«كليتون» خالي الوفاض وهذه المرة كان استعداد الإمام للتواصل إلى حل جدياً، إلا إن مايقدمه البريطانيون من مقترحات كان بعيداً عن تقدير الإمام لحل الأزمة.
في هذا العام برز جديد على العلاقات البريطانية اليمنية فقد وقع الإمام على معاهدة صداقة مع ايطاليا وكان واضحاً أن خطوة الإمام هذه تهدف إلى ايجاد حليف دولي يخفف من وطأة العلاقات المتوترة بينه وبين البريطانيين، ويحصل من خلاله على الأسلحة، والمساعدات الفنية والادارية، وبعض المنتجات الأخرى وكان طبيعياً أن تأخذ بريطانيا هذا التطور في العلاقة مع اليمن على محمل الجد، وكانت هذه أول معاهدة صداقة يقوم الإمام بتوقيعها مع طرف أجنبي، حتى بدت وكأنها تحول في سياسات الإمام ونظرته إلى العالم.
كانت حوادث الحدود قد عادت من جديد، في العام التالي 7291م، وفشلت كل الجهود التفاوضية لوقفها فقد أصر البريطانيون على اخلاء المناطق التي استولى عليها الإمام فيما تمسك الإمام بحقوقه في الجنوب، وعلى وجه الخصوص عدن والمحميات الغربية.
وقد رأى البريطانيون أنه لم يعد أمامهم سوى القوة، فأنذروا قوات الإمام في 12فبراير 8291م بالانسحاب، ولما لم يستجب الإمام قصفت الطائرات البريطانية مدن الضالع، وقعطبة، والنادرة، وإب، ويريم، وذمار، وتعز، وماوية وتقدمت قواتها باتجاه الضالع تدعمها قوات محلية، وهزمت قوات الإمام واضطر حاكمه الشامي إلى الانسحاب من المدينة بعد أن يئس من الحصول على مدد من الإمام وكان دعم أهالي الضالع لقوات البريطانيين لافتاً للانتباه وربما أن التفسير الوحيد لذلك هو أن حاكم الضالع كان قاسياً في معاملتهم، فانفض السكان من حوله وفضلوا مساعدة الانجليز على الوقوف إلى جانب الإمام.
في هذه الفترة كانت هناك آراء وصيغ للتعامل مع الموقف في الوسط المحيط بالإمام وكانت الصيغة الأولى: هى التخلي عن المناطق المتنازع عليها بما فيها عدن للبريطانيين الاكتفاء بالأمن والاستقرار وكان أنصار هذا الاتجاه قليلين وربما كان من بينهم محمد ابن الإمام وواليه على الحديدة، وكذا علي الوزير وبعض مشايخ ووجهاء مغضوب عليهم.
أما الثانية: فكان أصحابها يؤججون المشاعر العدائية للبريطانيين، وكانوا يدعون الإمام إلى اعلان الحرب المقدسة على بريطانيا والتوجه إلى عدن وهذا الاتجاه غير ثابت رغم صلابة اطروحته النظرية وأخيراً الإمام وحكومته وهؤلاء حافظوا على صيغة تقوم على عدم التنازل عن الحقوق اليمنية في الجنوب، ولكنهم لايحددونها مع عدم الانجرار وراء الاستفزازات البريطانية وهم بذلك يرفضون فكرة الحرب ويطرحون من حساباتهم فكرة الزحف على عدن لعدم واقعيتها.
ويبدو أن معركة عام 8291م قد أقنعت الإمام بأن الوقت قد حان لتقديم بعض التنازلات للبريطانيين، أولاً: بسبب الاخفاقات والخسائر الجسيمة التي لحقت بقواته.. وثانياً: بسبب أن هناك صراعاً لم تحسم مساراته بعد في الشمال مع الادارسة ومع الملك عبدالعزيز بن سعود، وأن تجميد جبهة الجنوب، ربما أتاح شيئاً من النجاح في الشمال.
لذلك فإن الفترة من 0391- 4391م كانت فترة شد وجذب، كانت هناك حوادث على الحدود، لكن كانت هناك اتصالات ومفاوضات تجرى يقودها من الجانب البريطاني السير«برنارد رايلي» عضو بعثة جيكوب والحاكم العام الجديد لعدن والمحميات.
لقد انسحب الإمام من الأراضي التي احتلها في الفترة من 91914291 باستثناء «البيضاء» وأصبح الطريق ممهداً لعقد معاهدة صداقة بين اليمن والمملكة المتحدة، وقد وقعت هذه المعاهدة في 11فبراير 4391م وقعها عن اليمن محمد راغب بك، وعن بريطانيا السير«برنارد برايلي» اعترفت بريطانيا بموجبها باستقلال اليمن، ورحلت المعاهدة مسألة الحدود إلى أن تتم مفاوضات تجرى بين الطرفين قبل انتهاء مدة المعاهدة وقبل الطرفان أن تبقى الحالة فيما يتعلق بالحدود على ماهي عليه واتفق الجانبان على تنظيم العلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما على أساس المبادئ الدولية العامة، مع التراضي والموافقة بينهما.
لقد شكلت المعاهدة نقطة تحول في العلاقة اليمنية البريطانية، وتباينت حولها ردود الأفعال فالبريطانيون اعتبروا المعاهدة مخرجاً من أزمة استمرت طويلاً مع الإمام وأثارت ارتياحاً لدى حكام المحميات الذين انسحبت قوات الإمام من أراضيهم، والذين يشعرون بوطأتها على حدودهم في غياب اتفاق السلام فيما نظر إليها الوطنيون باعتبارها واحدة من أخطاء الإمام الكبيرة، وتفريطاً من جانبه بالحقوق الوطنية، وخضوعاً للادارة البريطانية، وتنازلاً غير مباشر عن الجنوب.
حتى عام 4391م كان البريطانيون ينأون بأنفسهم عن المناطق الداخلية للمحميات، لكن توقيع اتقافية صنعاء غير أموراً كثيرة ترافق ذلك مع متغيرات دولية واقليمية يدخل في اطارها ماكان يجرى في الهند إذ أن كل المؤشرات تشير إلى أن هذه المنطقة تتقدم نحو استقلالها بعيداً عن السيطرة البريطانية وظهور الولايات المتحدة التي دخلت حلبة التنافس الدولي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.