"ثورة شعبية ضد الحوثيين"...قيادية مؤتمرية تدعو اليمنيين لهبة رجل واحد    رباعية هالاند تحسم لقب هداف الدوري.. وتسكت المنتقدين    فاجعةٌ تهزّ زنجبار: قتيلٌ مجهول يُثيرُ الرعبَ في قلوبِ الأهالي(صورة)    حقيقة وفاة محافظ لحج التركي    استهداف السامعي محاولة لتعطيل الاداء الرقابي على السلطة التنفيذية    " تصريحات الزبيدي خاطئة ومضرة وتخدم الحوثي!"..صحفي يحذر من تمسك الزبيدي بفك الارتباط    لماذا رفض محافظ حضرموت تزويد عدن بالنفط الخام وماذا اشترط على رئيس الوزراء؟!    الليغا: اشبيلية يزيد متاعب غرناطة والميريا يفاجىء فاليكانو    جريمة مروعة تهز شبام: مسلحون قبليون يردون بائع قات قتيلاً!    وفاة مريض بسبب نقص الاكسجين في لحج ...اليك الحقيقة    "جروح اليمن لا تُداوى إلا بالقوة"...سياسي يمني يدعو لاستخدام القوة لتحقيق السلام المنشود    ليفربول يعود إلى سكة الانتصارات ويهزم توتنهام    رصاصاتٌ تُهدد حياة ضابط شرطة في تعز.. نداءٌ لإنقاذ المدينة من براثن الفوضى    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ورشة في عدن بعنوان "مكافحة غسل الأموال واجب قانوني ومسئولية وطنية"    أين تذهب أموال إيجارات جامعة عدن التي تدفعها إلى الحزب الاشتراكي اليمني    السلطة المحلية بمارب توجه بتحسين الأوضاع العامة بالمحافظة    الرئيس الزُبيدي ينعي المناضل محسن أبوبكر بن فريد    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    الوكيل الحسني يطلع على سير اعمال مشروع إعادة تاهيل الشارع العام مدخل مدينة الضالع    لماذا اختفت مأرب تحت سحابة غبار؟ حكاية موجة غبارية قاسية تُهدد حياة السكان    افتتاح دورة مدربي الجودو بعدن تحت إشراف الخبير الدولي ياسين الايوبي    خصوم المشروع الجنوبي !!!    الحبيب الجفري ناعيا الشيخ بن فريد.. أكثر شيوخ القبائل والساسة نزاهة في بلادنا    قيادي حوثي يعاود السطو على أراضي مواطنين بالقوة في محافظة إب    مجلس القضاء الأعلى يقر إنشاء نيابتين نوعيتين في محافظتي تعز وحضرموت مميز    الإصلاح بحضرموت يستقبل العزاء في وفاة أمين مكتبه بوادي حضرموت    تنفيذي الإصلاح بالمهرة يعقد اجتماعه الدوري ويطالب مؤسسات الدولة للقيام بدورها    بعد رحلة شاقة امتدت لأكثر من 11 ساعة..مركز الملك سلمان للإغاثة يتمكن من توزيع مساعدات إيوائية طارئة للمتضررين من السيول في مديرية المسيلة بمحافظة المهرة    الاحتلال يرتكب مجازر جديدة بغزة وارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و683    بخط النبي محمد وبصمة يده .. وثيقة تثير ضجة بعد العثور عليها في كنيسة سيناء (صور)    غدُ العرب في موتِ أمسهم: الاحتفاء بميلاد العواصم (أربيل/ عدن/ رام الله)    أمريكا تغدر بالامارات بعدم الرد أو الشجب على هجمات الحوثي    صحيفة بريطانية: نقاط الحوثي والقاعدة العسكرية تتقابل على طريق شبوة البيضاء    ماذا يحدث داخل حرم جامعة صنعاء .. قرار صادم لرئيس الجامعة يثير سخط واسع !    الحكومة تجدد دعمها لجهود ومساعي تحقيق السلام المبني على المرجعيات    نجوم كرة القدم والإعلام في مباراة تضامنية غداً بالكويت    اشتباكات بين مليشيا الحوثي خلال نبش مقبرة أثرية بحثًا عن الكنوز وسط اليمن    أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الريال اليمني في صنعاء وعدن    ماذا يحدث في صفوف المليشيات؟؟ مصرع 200 حوثي أغلبهم ضباط    ثعلب يمني ذكي خدع الإمام الشافعي وكبار العلماء بطريقة ماكرة    الحرب القادمة في اليمن: الصين ستدعم الحوثيين لإستنزاف واشنطن    المشرف العام خراز : النجاحات المتواصلة التي تتحقق ليست إلا ثمرة عطاء طبيعية لهذا الدعم والتوجيهات السديدة .    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    أرسنال يفوز من جديد.. الكرة في ملعب مان سيتي    مارب.. تكريم 51 حافظاً مجازاً بالسند المتصل    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يفوز على مايوركا ويقلص الفارق مع برشلونة    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن تحت حكم الإمام أحمد 1948-1962 الحلق19
نشر في الجمهورية يوم 19 - 09 - 2008

انتهى عهد الإمام أحمد بموته ، وإن كان الموت لم يوقف تداعيات فترة حكمه البائسة والتي بدأت في الظهور بمجرد غيابه ، وبعد أسبوع سقطت الإمامة الزيدية السياسية في اليمن ، ومع سقوطها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر.
كان غياب الإمامة كطريقة في الحكم ، وشكل من أشكال السلطة حدثاً مهماً بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول سياسي وديني ، فخلال أحد عشر قرناً كان دور الأئمة حاضراً ، صاحب هذا الحضور نفوذ ديني يمتد ليشمل اليمن الطبيعي كله ، أو ينحصر ويتراجع شمالاً حتى جبال صعدة.
ومع كل تراجع كانت هناك فرصة جديدة للتمدد جنوباً ، لأن في الزيدية كمذهب ديني روحاً ثورية متمردة ،ترفض الظلم والاستبداد ، وتدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم مهما كانت ادعاءاته السياسية والدينية.
وانتهز الإمام هذه الفرصة السانحة فزحف بجيوشه على تهامة، لينتزع من الإدريسي كل الأراضي التي احتلها بمساعدة البريطانيين، بما فيها «الحديدة» واتجهت قواته شمالاً حتى وصل «ميدي» وحاصرت قواته «صبيا وأبي عريش» فقام الأدارسة بعزل علي بن محمد، وولوا بدلاً عنه عمه الحسن بن علي، الذي عرض على الإمام صلحاً، يقضى بأن يكف الإمام عن محاولة الاستيلاء على المدينتين «صبيا وأبي عريش» مقابل اعتراف الأدارسة بولائهم له، لكن الإمام رفض العرض، وأصر على مواصلة القتال والزحف، مما حمل الإدريسي على اللجوء إلى الملك عبدالعزيز لطلب الحماية في 6291م، ثم الانضمام إلى المملكة العربية السعودية في عام 0391م، وبذلك طويت صفحة الأدارسة كما طويت صفحة آل عائض من قبلها.
وكانت النتيجة أن أصبح الملك والإمام وجهاً لوجه في منطقة حدودية واسعة ويبدو أن الإمام أراد أن يعوض خسارته في الجنوب، فراح يفتعل الأحداث في الشمال، أو إن الأحداث كانت تجره للمواجهة مع الملك عبدالعزيز بسبب تغير مواقف القبائل وتأييدها وولائها، وتقدمت قواته رويداً رويداً باتجاه مناطق اعتبرها الملك عبدالعزيز جزءاً من مناطق نفوذه، بل إن الأمير أحمد ابن الإمام يحيى قد دفع بقواته داخل «نجران» سنة 2391م وكان أحمد شديد المعارضة لما آلت إليه الأوضاع في عسير.
وتشير معظم المراجع بما فيها المراجع اليمنية إلى أن الملك عبدالعزيز قد حاول من جانبه إقناع الإمام يحيى بضرورة وقف العمليات الحربية على الحدود والانسحاب من «نجران» بل ووافق فيما بعد على تثبيت الحدود حيث تقف القوات المتحاربة، باستثناء نجران، وكان ذلك الاقتراح يعني مكاسب غير قليلة للإمام، لكن الإمام رفض وأذعن لحماس ابنه أحمد، فأعلن الملك عبدالعزيز الحرب على اليمن عام 4391م.
وجرت المعارك على جبهتين رئيسيتين، جبهة نجران وجبهة تهامة، وفي نجران ضد الأمير أحمد أمام القوات السعودية وتجاوزت قواته الحدود السعودية، وحققت نصراً على قواتها التي كان يقودها الأمير سعود بن عبدالعزيز، أما على جبهة تهامة فقد كان الوضع مختلفاً تماماً فالأمير فيصل بن عبدالعزيز وجد أمامه طريقاً ممهداً، وجبهة خاوية، وقيادة ضعيفة، فاكتسح الأمير فيصل المنطقة، وانضمت إليه القبائل اليمنية في تهامة، وفر قائد الجبهة «الأمير عبدالله بن يحيى» وواصلت القوات السعودية زحفها حتى «الحديدة» والتي احتلتها وباتت تهامة كلها مهددة بالاحتلال، وبروح المنهزم هول عبدالله الموقف لوالده، فخارت قوى الإمام، وأحنى رأسه، وقبل التفاوض.
وأخيراً وقع الطرفان بما عرف باتفاقية الطائف 4391م، والتي قضت بانسحاب القوات السعودية من الحديدة مقابل انسحاب القوات اليمنية من نجران، وأرست هذه الاتفاقية وبصورة نهائية خط الحدود بين اليمن والسعودية، كما وضعت حداً لأي طموح يمني نحو الشمال، وكانت بأي معيار سياسي أو عسكري نصراً مبيناً للملك عبدالعزيز وهزيمة نكراء للإمام يحيى.
لقد خسر الإمام حربه مع ابن سعود، لأن الأخير ذهب إليها في حالة من الاستعداد التام، وحشد لها الرجال والعتاد، وللمرة الأولى استخدم أسلحة بريطانية لم يكن لليمنيين عهد بها، كما كانت قواته مزودة بناقلات وعربات سهلت حركة قواته، بينما دخل الإمام يحيى الحرب وقواته في حالة من العوز، ونقص في الإمدادات والأسلحة، بل إن الإمام كان مقتراً وحريصاً إلى حد البخل في الإنفاق على قواته المحاربة، فكان حرصه على المال أكثر من حرصه على كسب المعركة، فانهزمت قواته وخسر المعركة.
وعندما اتضحت للناس نتائج المعركة على الأرض، وباتت نصوص معاهدة «الطائف» معروفة، تسرب اليأس إلى نفوسهم، وتغيرت مشاعرهم تجاه الإمام البطل، بطل حرب التحرير، وحرب التوحيد، وجهر العلماء ورجال الفكر بمواقفهم المعارضة لنهج الإمام وسياساته، ونظام حكمه، وبدأوا يطالبونه بإصلاح شامل وانفتاح على العالم والقيام بعملية تنمية وليخفف الإمام من حدة انتقادات المعارضين أمر بتشكيل حكومة جديدة، وإنشاء وزارات متعددة، عين أولاده سيوف الإسلام على رأسها، فعين عبدالله للمعارف والدفاع، وكان أول المنهزمين في هذه الحرب، وعين القاسم للصحة والمواصلات، وأعاد تعيين القاضي محمد راغب بك للخارجية بإشراف ابنه الحسين.
وكانت بريطانيا وإيطاليا تراقب تطور الأحداث في المنطقة، وكان لكل منهما مطامعه، فتعاطف البريطانيون مع الملك عبدالعزيز، وراقبوا تحركات خصومهم الإيطاليين، فأرسلوا إحدى سفنهم، «بيزانس» لمراقبة الحديدة أثناء العمليات القتالية، وراقب سلاحهم الجوي الجزر المطلة على باب المندب خوفاً من حدوث متغيرات مفاجئة، ومن جانبهم تعاطف الإيطاليون مع الإمام، وكانوا على استعداد لتقديم مايلزم من عون، وكاد الإمام أن يطلب هذه المساعدة لولا وجود معارضة منعته من قبول هذه المساعدة، كما جرى في حديث الشيخ محمد نعمان مع قائد إحدى السفن الإيطالية في ميناء المخا والذي رأى في قبول المساعدة الإيطالية شكلاً من أشكال التبعية وأنهم لا ينتمون إلى ديار الإسلام بصلة، وكان هذا هو رأي معظم شيوخ الدين على اختلاف مذاهبهم، وكذلك شيوخ القبائل.
5 ملامح سياسة الإمام يحيى
أولاً: أن الإمام يحيى قد تفرد بالحكم، واستأثر بالسلطة الزمنية والروحية، كانت انتصاراته على العثمانيين، ومن ثم انتصارته على القبائل المتمردة تمده بالعزيمة وتحشد حوله الأنصار، لقد أضاف إلى ألقابه كإمام وأمير المؤمنين لقب ملك بإعلانه عن المملكة المتوكلية اليمنية في عام 6291م
وحتى تخلو له ساحة القيادة، أبعد العناصر التي وقفت إلى جانبه في حربه ضد الأتراك، فاستبدل الأمراء بأمراء آخرين من بنيه، وقادة بقادة من أقاربه وخاصته، لقد تخلص الإمام من الرعيل الأول، فغابت شخصيات بارزة طامعة من حوله، فاختفى سيوف الإسلام أبو نيب محمد الهادي، وأحمد بن قاسم حميد الدين، ومحمود بن الإمام الحسن، ويحيى بن حسين الكحلاني، وأحمد بن يحيى عامر، الذين نافسوه في الترشيح للإمامة.
وغاب شيوخ الإسلام علي بن عبدالله الإرياني، وعبدالوهاب بن محمد المجاهد الشماحي، وعلي المغربي، وأحمد بن عبدالله الجنداري وغيرهم، ممن بيدهم الحل والعقد في القبائل الزيدية، وبيد جلهم ارتفع يحيى للإمامة.
وتوارى عن الأنظار ولو مؤقتاً قادة الجيوش القبلية كالشيخ ناصر مبخوت الأحمر، وعبدالله أبو منصر، والشيخ علي المقداد، وأحمد مساعد، ومحمد بن يوسف، وعلي مطلق، ومحمد بن علي الشامي، وعلي بن محمد الشامي، والنقيب عبدالله الصوفي وغيرهم، وفي المقابل ظهرت وجوه جديدة اختارها الإمام لتقف خلفه وليس لتقف إلى جانبه، كما كان حال الشخصيات السابقة، ومن هؤلاء الأمير عبدالله الوزير، والأمير علي عبدالله الوزير، والأمير يحيى بن محمد المتوكل الشهاري والأمير عبدالملك بن عبدالرحمن المتوكل الشهاري ليتولوا مناصب عليا في الدولة وحمل آل مطهر، وآل الجرافي، وآل إسحاق، مسئولية الجهاز القضائي وكان أبرزهم حسين بن علي العمري.
وفي حكومة الإمام كان المرحوم عبدالله بن حسين العمري الساعد الأيمن للإمام، وكان تارة يلقب بوزير الداخلية، وأخرى برئيس الوزراء، أما وزارة الخارجية فقد منحها لمحمد راغب بك «التركي الأصل» وعين ابنه أحمد قائداً للجيش، وبعد ذلك أخذ أبناؤه يحلون تدريجياً محل شخصيات سنوات الاستقلال الأولى، فتولى أحمد لواء حجة، والحسن لواء تعز، وعبدالله لواء الحديدة، وكان آخر من أطيح بهم من مناصب عهد الاستقلال علي عبدالله الوزير أمير لواء تعز، إذ عين الإمام ابنه أحمد أميراً للواء، وهو أكبر ألوية اليمن وأكثرها أهمية بعد صنعاء، ولم تكن هذه الخطوة عادية، فقد أراد الإمام السيطرة النهائية على مقاليد الحكم، بحيث يتولى هو أمور شمالها بنفسه، ويعهد بأمور جنوبها لإبنه المرشح الأقوى لولاية عهده.
ثانياً: بعدما حصلت اليمن على استقلالها، وأصبح يحيى إماماً وملكاً، كان عليه أن يختار سياساته ونهجه والأهداف التي يتوخاها في هذه السياسات وهذا النهج، وباعتباره صاحب القرار، والآمر والناهي، كان بإمكانهم الاختيار بين طرق وأساليب عديدة للنهج الذي من المفترض أن تمضي عليه أجهزة الدولة المختلفة، وقد اختار الإمام أقصر الطرق وأكثرها «سلامة» لنظام حكمه كما تصور، لقد اختار العزلة واتخذها ديدناً لسياسته الخارجية.
هذه السياسة تقوم على مبدأ غلق الأبواب أمام الخارج، وإغلاق اليمن أمام رؤوس الأموال العربية والأجنبية، ومن الأجانب بشكل عام، إلا من القليل من الرحالة ورواد الآثار، وأحجم عن قبول أي مساعدة مادية أو فنية من دولة عربية أو أجنبية، وكان يعقتد بأن البعد عن الدول الأجنبية غنيمة، كيف لا وقد لاحظ بأم عينيه العالم العربي وهو يقع فريسة للاستعمار الأجنبي، والدولة الوحيدة التي كان يمكنه قبول المساعدة منها هي المملكة العربية السعودية، ولكن علاقته بها لم تكن طيبة بسبب الصراع في المنطقة، الذي كان الإمام والملك عبدالعزيز أبرز رموزه، كما أن ظروف السعودية ذاتها في ذلك الحين لم تكن تختلف كثيراً عن ظروف اليمن.
صحيح أن اليمن وقع عدداً غير قليل من معاهدات الصداقة والتجارة مع بعض الدول العربية والأجنبية، فكانت معاهدته المشهورة مع إيطاليا عام 6291م، ثم الاتحاد السوفيتى عام 8291م، والعراق عام 1391م، وهولندا عام 2391م، واثيوبيا عام 0391م، وبلجيكا عام 6391م، وفي عام 7391م، قرر الدخول في حلف ثلاثي مع العراق والسعودية، كما وقعت اليمن معاهدة صداقة مع فرنسا وأخرى مع الولايات المتحدة عام 6491م، وأصبحت اليمن عضواً في جامعة الدول العربية بعد تردد، وبعد أن تدخل الملك عبدالعزيز لدى الإمام يحيى لحثه على الانضمام إلى الدول العربية المؤسسة، إلا أنه حرص على أن يظل تأثيرها على دولته محدوداً.
كانت معظم هذه المعاهدات قد تضمنت مبدأين أساسيين الأول: أن الإمام قد حصل بموجبها على المزيد من الاعتراف الدولي باستقلال اليمن ونظام حكمه، والثاني: حددت المعاهدات الخطوط العريضة للعلاقات الاقتصادية والتجارية، بين اليمن وهذه البلدان.
وبالرغم من أنه رفض وجود هيئات تمثيل دبلوماسي، أو حتى جاليات بصفة دائمة في بلاده، فقد سمح بوجود أفراد من جنسيات مختلفة كانوا يفدون إلى اليمن لقضاء أغراض مؤقتة لينصرفوا بعدها مباشرة، وكان لا يأذن لهؤلاء الأجانب بدخول البلاد إلا بعد أن يتلقى عنهم معلومات مطمئنة، وينزلون حين وصولهم إلى صنعاء في المكان الذي يختاره بنفسه لهم، وكان يعتبرهم ضيوفاً عليه، أشبه بالأسرى، فلا يقابلهم أحد إلا بإذن الإمام، ويلقون نفس المعاملة منذ دخولهم حدود اليمن حتى يصلوا إلى صنعاء، إذ يبقون في أيدي عمال الإمام أي في أيدٍ رسمية حتى وصولهم إلى الإمام، أو حتى خروجهم نهائياً من اليمن، يرافقهم بعض الجند، أما العرب فإنه كان يعتقد أنهم جواسيس للدول الأجنبية، فكان لا يسمح لأحد منهم بدخول اليمن إلا بعد التأكد من نواياه.
وفي نظره فإن الاحتفاظ باستقلال اليمن، يتوقف إلى حد كبير على المسافة التي يحتفظ بها ويحفظ من خلالها اليمن بعيداً عن مؤثرات الغرب الأجنبي الكافر، وهو في ذلك كان يتميز عن غيره من حكام العرب، وعلى الأقل فهو يختلف عن جاره الملك عبدالعزيز بن سعود الذي تمتع بقدر كبير من الإيجابية في تعامله مع العالم المحيط به، كان الملك يواجه صعوبات كبيرة في إقناع المحافظين من الحركة الوهابية بتوجهاته، إلا أن قدرته على احتواء هذه المواقف المتشددة سمحت دون شك بإحداث تحولات مهمة في السعودية، فيما لقيت مواقف الإمام تأييداً وتشجيعاً من رجال الدين الزيود المحافظين، فتوحدت هنا السياسة بالأيدلوجيا فكانت العزلة من نصيب اليمن، وكان الانفتاح على العالم الخارجي نصيب السعودية، بالرغم مما في البيئتين اليمنية والسعودية من تشابه وعوامل اتفاق.
وبالنتيجة فإن الإمام رفض السماح للشركات الأجنبية بالدخول إلى اليمن، لقد منع دخول رؤوس الأموال للمساهمة في تطوير البلاد، وهو نفسه كان يرفض القيام بأية مشاريع مهما كان حجمها ماعدا بعض المشاريع الخدمية لأن وجود هذه المشاريع في نظره يعني المزيد من الأجانب، ويعني المزيد من الاحتكاك بالعالم الخارجي، وكانت نتيجة ذلك أن تأثرت اليمن اقتصادياً بسبب هذه السياسات، التي وقفت حجر عثرة في طريق تطوير المجتمع، والتجارة وحدها نالت حظاً من التطور النسبي في الريف والمدينة معاً، ومع ذلك فإن قائمة المحظورات طويلة، ومن وحي سياسة العزلة فإن استيراد الراديو، والفوتوغراف كان ممنوعاً بالإضافة إلى أنه منع تعميم التليفون وقد ظل الإمام لعدة سنوات يرفض الإذن بجلب السيارات، ورفض استخدامها في سنين حكمهم الأولى.
ثالثاً: لقد انعكست طبيعة سياسات الإمام الانعزالية على طبيعة السلطة مع مرور السنين، فالانغلاق عن الخارج والحذر الشديد تجاهه، تحول إلى انغلاق شديد من الداخل، مصحوباً بالخوف والقلق على نظام الحكم، كانت حكومته استبدادية وظالمة، في التعامل مع المواطنين، وكان حكمه جائراً في فرض الواجبات والضرائب والزكوات على مواطنيه، وتعامل معهم بأساليب أبدع في استخدامها كالتنافيذ والخطاط وأخذ الرهائن، لضمان الاستقرار وفرض هيبة الإمام والدولة، وكان حاكماً مستبداً وطاغياً، حكم حكماً مطلقاً، ودون مؤسسات دستورية بل ولا حكومة أو وزارات تعمل بصلاحيات محددة، فقد جمع السلطات في يده، صغيرها وكبيرها، وانتهج أمراء الألوية، وكان معظمهم من أبنائه نفس النهج، على حين أن صلاحياتهم كانت محدودة فقد كان عليهم العودة إلى الإمام في الكثير من الأمور، لقد أدت أساليبه الاستبدادية وطرقه في إرهاق مواطنيه اقتصادياً إلى حالة من البؤس والمرض والمجاعات فاضطر مواطنوه للهجرة إلى الخارج.
لقد استوقفت ظاهرة العزلة جميع المؤرخين، وبحثوا كثيراً في سماتها الموضوعية والذاتية، وقد تباينت آراؤهم، وتشعبت تفسيراتهم لكن يمكننا أن نذكر أهم العوامل التي سببت هذه الظاهرة أو كونت خميرتها.
أولاً: الطبيعة الجبلية لليمن باستثناء الساحل الضيق وما له من اتجاه طبيعي ناحية البحر فأغلبية اليمنيين يعيشون في مناطق جبلية مع وجود فروقات هنا وهناك بين سكان الجبال العليا، والهضاب الوسطى والجنوبية، لذلك هو شعب «جبلي» والجبليون عادة يتعلقون بشدة بحرياتهم الذاتية، ويبذلون جهدهم في الدفاع عنها، ويكرهون كل تدخل خارجي في شئونهم، وهذه الصفات تنطبق على اليمن، كما يمكن أن تنطبق على الأسكتلنديين في بريطانيا، أو سكان التبت في آسيا مع الاعتراف بتأثير فارق التطور.
ثانياً: تجارب اليمن القاسية مع الأجانب، فاليمنيون قاسوا من حروبهم الطويلة، مع العثمانيين، ثم مع الإنجليز، وهذه الحروب اتسمت بالقسوة والعنف، ويبدو أن النتيجة الحتمية لهذه التجربة هي الرغبة في الانكماش حول الذات، والاكتفاء بالحرية والأمن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.