انتزعهم الفقر في الطفولة وألقاهم في شوارع المجهول مشردين في ربيع العمر،لايعرف أحد من أين من فتحة الأسى اليومي إلى شوارع المدينة،ورغم كثرتهم اللافتة للنظر،إلا أنه لايوجد من يهتم لأمرهم مع أن هناك عشرات الجمعيات التي تدعي العمل من أجلهم. «الجمهورية» نزلت إلى الشارع وعرفت بعض قصصهم، مشكلة سبب التقصير عن معالجة مشكلة أطفال الشوارع التي لاتشوه الحاضر فقط بل تسحب نفسها على المستقبل. جحافل الضياع لايوجد ماهو أسهل من مهمة البحث عن أطفال مشردين في الشوارع، تجدهم في جولات المرور، وفي أحضان لأمهات على مداخل أسواق القات، على الأرصفة،أمام المطاعم والمعارض، في فرزات سيارات الأجرة، واينما حللت في مدينة تعز تقع عيناك عليهم،ورغم سهولة إيجادهم،إلا أنه من الصعب أن يخبروك عن حقيقتهم،ومن دفع بهم لممارسة الشحاذة، قصصهم متشابهة،يتم، مرض،وفقر،حاولنا استقصاء التصور القائل بوجود شبكات تعمل على استغلال هؤلاء الأطفال،إلا أن ذلك كان بمثابة محاولة تطبيق فيلم سينمائي على أرض الواقع، فلا وجود لهذه الشبكات ولكننا وجدنا على الواقع ماهو أكثر مأساوية من الأفلام،فيما تشير الدراسات التي أجراها مركز الطفولة الآمنة بتعز.. على عينات من الأطفال والأسر إلى إمكانية نشوء مثل هذه الشبكات مستقبلاً إذا استمر وضع هذه الشريحة من الأطفال على ماهو عليه.. جحافل لم يحصلوا على تنشئة سليمة وبدلاً عن ذلك فرضت عليهم قسوة الزحام أن يتخلوا عن براءتهم، ويستبدلوها بخصال المكر والكذب من أجل استعطاف المحسنين، والحذر من الاستفسارات يعتبر الذهاب إلى المدرسة بالنسبة لهم شيئاً من الترف،وبالنسبة للعب فقد خلقوا من الشحاذة عالماً يتسلون فيه ويلعبون ويعملون ويضعون انسانيتك على المحك،وهل هناك مثير للمشاعر أكثر من طفل ينوح ويستجدي،ويضعون ذكاءنا أيضاً أمام اختبارات صعبة،فلا يوجد من يريد أن يكون فريسة للاحتيال حتى ولو كانت من طفل باك. أسد التحرير الطفل عمر علي ناجي «11» عاماً،أحد هؤلاء الأطفال الذين بصقوا أحلام طفولتهم مع تعلم خطوات السير الأولى، يذرع عمر شارع التحرير بتعز ذهاباً وإياباً باحثاً عن حسنة من العابرين، قصته تشبه كل السيمفونيات الحزينة عند غيره، أب ميت، تقرير طبي عن أم طريحة الفراش بسبب المرض، وإخوة صغار ينتظرون عودته بالطعام، وقد بدأ من خلال حديثنا معه ان تسكعه في الشوارع أكسبه مراساً على الجدل إلى جانب خفة ظل فطرية في طبعه،حاولنا استدراجه كي يخبرنا بحقيقة وضعه وسره الخفي،لكنه تمكن من كشف محاولتنا بنباهة قل أن تتوفر لأقرانه،وفي الأخير قطع الحديث بحدة وأخبرنا أن لا وقت لديه يضيعه الثرثرة «بزنس طفل» وفي محاولة أخيرة وبعد ان دفعنا ثمن وقته الضائع تمكنا في الاحتيال عليه عبر ادعاءاتنا أننا نعمل لصالح منظمة خيرية سوف تقوم بتزويده بإعالة شهرية،حينها فقط وافق جلسنا في المقهى وأخذنا نتحدث عن أمور الحاضرين،هناك أخ كبير «لعمر» عنيف يدفع كل من في البيت للبحث عن النقود،قال عمر:بالأمس كان أخي يريد أن يضع يدي في «كبس» الكهرباء لأني لم أوفر المبلغ المعتاد وقد ضربني وضرب أمي وضرب كل من في البيت، وهددني بأنه سيرسلني إلى الحديدة لأعمل في ورشة سيارات، وأنا لا أريد الابتعاد عن أمي وأخواتي. وردة وشوك أمل طفلة في الربيع التاسع من العمر،انتزعتها قسوة الظروف من الطفولة وألقتها في شوارع المجهول، في وقت متأخر من الليل تقرع أمل زجاج السيارة وتبدأ سرد مجموعة الأدعية بالعافية والستر والثروة والنجاح يحتاج الفرد منا لسنوات كي يرددها بنفس فصاحة أمل وكل ذلك للفوز بما يمكن أن يجود به كرم صاحب السيارة،لكن الرجل الذي بدا غاضباً نهرها وطلب العودة إلى المنزل، اقتربنا من أمل وسألناها عن سبب تأخرها عن الذهاب إلى المنزل نظراً لتأخر الوقت بالنسبة لطفلة قالت عليَّ أن أبيع وأشارت إلى كيس كان بيدها بداخله كتيبات دينية،وبينما كنت أحدثها جاء طفل بخطوات حثيثة وقد ارتسمت على وجهه ملامح جدية وقال لها بلهجة من يحمل خبراً مهماً إنه تشاجر مع أولاد الحارة الواقعة خلف الشارع الرئيسي،أمل اندفعت هذه المرة بمجموعة من الشتائم أطلقتها بنفس الفصاحة التي تستخدمها عند الدعاء،وقد هرولت بطريقة عدائية مع الطفل الآخر في اتجاه الحي،وكان يبدو أن المشكلة ليست جديدة،في اليوم التالي التقينا بالطفل صديق أمل وسألناه عنها،فقال ان اسمها صفاء وليس أمل وأنها ليست يتيمة وان والدها يعمل في تجارة الماشية،وان والديها هما من يدفعان بها للشحذ عمداً نهار بشارب الطفل وليد العنسي «21» عاماً هرب من بيت والده في محافظة ذمار بحثاً عن بداية جديدة رغم أن العمر في أوله ورصيده لايحتمل اليأس عانى وليد من قسوة والده الذي كان يضربه ضرباً مبرحاً بناء على وشايات كاذبة من زوجة والده، عندما وصل وليد إلى مدينة تعز بدأ يسرح ببيع الماء في سوق القات لكن من ذا يفكر في شراء الماء ساخناً وسط السوق تخلى وليد عن الفكرة لأنها لم تعد مجدية، يتقدم وليد بهدوء وأدب إلى أقرب إنسان يتوسم فيه الكرم في أحد المطاعم وعندما يتنبه الشخص المقصود يدعوه للطعام، اعتمد وليد هذه الطريقة مؤقتاً بينما يعد نفسه للرحيل إلى عدن حيث أخبروه إنه سيجد عملاً هناك، يحلم وليد بأن ينام ويصحو وقد نماله شارب ولحية، لاشيء يغريه بأن يظل طفلاً سألنا الطفل وليد عما إذا كان قد لجأ لإحدى الجمعيات أو المنظمات المعنية بمساعدة الاطفال ممن هم في مثل وضعه، ولكنه بدا مستغرباً عندما سمع سؤالنا، وقال إنه لايعرف شيئاً عن مثل هذه الجمعيات وإن هذه هي المرة الأولى التي يسمع بها. جمعيات بلا معنى يعد مكتب الشئون الاجتماعية المعني الأول بمشكلة أطفال الشوارع بتعز، وقد تحدثنا مع الأخ أحمد العليمي مدير عام الشئون الاجتماعية بمحافظة تعز الذي قال إن المكتب لايستطيع استيعاب كل أطفال الشوارع في مركز الطفولة الآمنة حيث إن المركز معد لاستقبال من «0203» طفلاً كحد أقصى، وإن القيام بحملات ميدانية مكثفة سيتطلب استيعاب أكثر من مائة طفل، مشيراً إلى أن حل هذه المشكلة يتطلب شراكة مجتمعية في كافة الأطراف سواء كانت حكومية أو منظمات مدنية أو القطاع الخاص، إنه رغم تخصيص رواتب إعانة شهرية من صندوق الرعاية للأسر التي دفعت بأبنائها للشارع إلا أن ذلك لم يجد، خصوصاً في ظل غياب الصلاحية القانونية للمكتب التي تخوله الزام طفل الشارع في الاندماج بالمركز الذي بدوره سيعمل على دمجه في الاسرة والمدرسة، وأنه يتم حالياً تنفيذ برنامج يعمل على تدريب الأطفال على حرف يختارونها بحسب ميولهم، بالتعاون مع معهد التدريب الفني بمنطقة الحصب وبدعم من منظمة اليونيسيف وحول عمل المنظمات والجمعيات العاملة في حقل الطفولة، قال العليمي إن هذه المنظمات ليس لها علاقة بمجال الطفولة سوى التسمية، وإنها غير موجود على أرض الواقع، مضيفاً إنه من خلال دور المكتب في الاشراف والمتابعة لمعظم فعاليات هذه الجمعيات لايلمس أي اهتمام أو برامج أو أنشطة تستهدف حل مشكلة أطفال الشوارع. تعاون ضعيف تميم مهدي رئيس جمعية الطفل أولاً وهي إحدى الجمعيات الأهلية المعنية بالقضية في تعز قال إن التعاون مع الجانب الحكومي ضعيف جداً، وإن جمعيته أجرت العام الماضي وجدت أن هناك حوالي 257 طفلاً مشرداً في مدينة تعز، وبناء على هذا البحث تقدمت بمشروع للسلطة المحلية يعتمد على إشراك الجميع في حل المشكلة ويتضمن المشروع المقترح استئجار أحد المباني واستغلاله كمأوى ومكان تأهيل لهذه الشريحة من الاطفال، حيث إن دار الايتام لايستطيع استيعاب كل الاطفال المشردين ويضيف تميم إنه غالباً ماتتم المماطلة وترحيل المقترحات الرامية إلى حل المشكلة من مكتب إلى آخر.. وحول النظر بقضايا الاطفال بشكل انفرادي أوضح تميم مهدي أن جمعيته تدخلت في «21» قضية كل على حدة منها قضايا أطفال تعرضوا للاعتداء. الأسباب دكتورة نبيلة الشرجبي رئيس قسم علم النفس بجامعة تعز تحدثت عن المشكلة وعن الآثار النفسية التي يعانيها طفل الشارع وانعكاساتها المستقبلية على المجتمع قائلة: مشكلة أطفال الشوارع لها جذور وأسباب منها سوء الحالة الاقتصادية، أو فقدان المعيل لأحد الاطفال، وأيضاً قد تكون بسبب عدم وجود رعاية أسرية، رغم وجود الأسرة، لكن الطفل لايتمتع في كنفها بالرعاية التي يفترض أن يحصل عليها، وقد لمست من خلال نزولي لبعض دور الأحداث أن هناك كثيراً من حالات الاطفال الذين يعانون من مشكلة التشرد بسبب طلب الأب من الطفل أن يحصل له على مبلغ من المال يومياً، وهذا يأتي إما بسبب حالة مرضية، أو عدم إحساس بالمسئولية من قبل الأب. النتائج وتتابع د. نبيلة الشرجبي: كما أن طفل الشارع عرضة للاصابة بالكثير من المشاكل فإلى جانب المشاكل الظاهرة الناتجة عن تعرض هذا الطفل للاعتداءات والعنف الموجه من الآخرين سواء كان اعتداء جنسياً أو بدنياً والتي تؤدي إلى إصابة الطفل بعاهات، هناك المشاكل النفسية التي تؤدي بالطفل إلى صعوبة في التعامل مع الآخرين، كما ينتج عن تشرد طفل الشارع وعدم حصوله على الرعاية النفسية المطلوبة في هذه المرحلة النمائية المهمة، وتحمل الطفل لمسئوليات أكبر من سنه وحرمانه من فرصة التعليم إلى إحساس الطفل بالنقص وإلى شعوره بالحقد على المجتمع فيصبح عنيفاً، وقد يميل إلى ارتكاب جرائم مستقبلاً، الأمر الذي قد يشكل خطورة على المجتمع. واختتمت د. نبيلة حديثها بضرورة النظر للمشكلة بشكل واقعي وأن تعالج الأسباب المؤدية إلى حدوث هذه المشكلة، حيث يجب أن توفر للطفل البيئة الآمنة التي تساعده على توفير احتياجاته بعمل نزيه يتناسب مع سنه. نهاية مخيفة فيما تستمر المهاترات وتبادل الاتهامات بين المعنيين يواصل أطفال الشوارع المسير صوب المزيد من التوهان، والمحصلة الأخيرة لهؤلاء الأطفال أن يصبحوا عنيفين ومشاريع مجرمين مستقبلاً، يحصلون على متعتهم من خلال تدمير قيم المجتمع الذي رفض ذات يوم أن يقدم لهم المساعدة حتى يصبحوا بشراً سوياً في مجتمع يسعى للنضوج، وبدلاً عن ذلك القليل سيكلفون الدولة والمجتمع الكثير من الجانب الاقتصادي والمعنوي من خلال ماقد يرتكبون من جوانح وجرائم، عندها فقط سنكون مستحقين لما يسببونه من قلق للمجتمع وبمعنى آخر سنكون حينها نحصد مازرعه إهمالنا سابقاً.