تاريخ حكايات ألف ليلة وليلة مفعم بالمعاني والدلالات التي تحمل ملامح الحياة العربية الأصيلة، فالزائر لأسواق صنعاءالقديمة يشعر بأنه على موعد مع أحد أبطال مقامات الحريري والهمداني، وحين يتفرس في وجوه وسحنات مرتادي هذه الأسواق والذين هم من نسيج المكان بكل عبقه القديم يقف أمام صور نابضة بالحياة، فالمتسوقون يجانسون بعفوية بين حركاتهم وتزاحمهم وبين إيقاعات هذه الأسواق التي تختلط فيها روائح البخور والعطور والبهارات ونكهة البن اليمني.. أسواق صنعاء القديمة روح متجددة الأبعاد ومتعددة المذاقات، أصوات متعددة تعزف سيمفونية غنائية رائعة ناتجة عن طرق أصحاب الحرف اليدوية وصانعي الخناجر والسيوف والحلي الشعبية والأدوات النحاسية والمشغولات الفضية والجلدية..هذا هو اليوم العالمي للتسوق حسب التوقيت المحلي للعاصمة صنعاء وضواحيها، وعقارب الزمن تشير إلى تمام شروق الشمس على زوايا المكان من كل يوم..«فيا أيتها الأرواح الطاهرة استيقظي واخرجي إلى سبيل عيشك بكل ما أوتيت من نقود وحرفة وأكلي من حلال رزقك واشكري لربك، وياأيها الرجال غادروا مضاجعكم للعمل قبل أن تحل عليكم لعنة الأولاد ويا نساء المدينة..». تاريخ متجدد وهاهي أسواق صنعاء القديمة وعددها 49سوقاً متخصصة و29سمسرة تستغل كمخازن للبضائع ومصارف للتبادل.. ومازالت بإيقاع متوازن ومريح بين طابعها المعماري القديم وبين الأنماط العمرانية الجديدة، ورغم تسلسل المحلات التجارية ذات الواجهات الزجاجية إلى الأسواق القديمة لم ينل من أصالتها وجمالها العتيق، لأنها تاريخ وتراث متصل ومتواصل يرتبط فيه الحاضر بالماضي على نحو عضوي ووثيق، يمنح الزائر فرصة لمعاينة وثيقة حية وشاهد تاريخي متجدد كمتحف حي يوثق الكثير من التقاليد والممارسات الشعبية. إذاً يا أرباب التجارة افتحوا حوانيتكم حتى لايغلق مزاد التسوق في وجوه المتسوقين أما أنت يا عم عبده فلا تدع أنك مشغول بصناعة الجنابي والخناجر،وأنت يا حاج حسن كيف ستستقبل ضيوف اليمن بهذه الابتسامة الحزينة ،وعد إلى صواب ضحكتك المجانية اليومية، ويا معشر الفقراء هل أدلكم على عمل تنالون به ثواب العمل في أرصفة «باب اليمن» خير لكم من التسول على «باب الله» إن كنتم تعلمون، ويا أهل صنعاء تعالوا إلى أسواقكم واستبقوا الخيرات وهاكم أجود خيرات الصنعة اليمانية بين أيديكم فحافظوا عليها، الزبيب، الحناء الجنابي، البن، النحاس، و يا أي...الخ«. دهشة إعجاب المؤرخ جمال الدين الشهاري في كتابه «المنشورات الجلية» يقول: إن صنعاء تضم 76سوقاً بها جملة دكاكين مخصصة عليها الأبواب الخشبية المنفتحة المعلقة على خطاطيف تنكسر على أنصافها بمساحب حديدية عليها المغالق والأقفال ، متقاربة لضيق مساحتها التي لاتزيد على ذراعين في العرض وأربعة في الطول. وفي كتابات الرحالة الأوروبيين الأوائل أمثال جون جوردين وكارستن نيبور الذي وصفها خلال زيارته في القرن الثامن عشر بأنها أسواق متميزة ومتعددة الأغراض ارتبط ازدهارها بازدهار الحرف التقليدية وعددها 49سوقاً متخصصة و29سمسرة. تنقسم أسواق صنعاء الشعبية إلى أسواق عديدة منها سوق القماش،سوق البخور والعطور «المعطارة» كما يسمى ،وسوق الزبيب وسوق البن، وسوق الذهب والفضة،وسوق النحاس والمدايع، سوق الحرف اليدوية من حدادين ونجارين وبنائين، وسوق الجلود،وسوق القات، وسوق الحبوب، وسوق المنسوجات وسوق الجنابي «الخناجر» والسيوف وغيرها من الأسواق المتخصصة، وهناك أسواق حديثة لبيع الملابس الجاهزة والعطور المستوردة والأجهزة الكهربائية والسلع الاستهلاكية الأخرى. ولكل سوق قوانينه وضوابطه وقيمه المتوارثة التي تحكم نسق وطبيعة المعاملات فيه كما ذكرها كتاب وصف صنعاء للرازي. ويعتبر سوق الملح أشهر أسواق صنعاء القديمة وأقدمها على الإطلاق ،فالمؤرخ محمد أبوالحسن الهمداني أورد في كتابه «الإكليل» سبباً للتسمية فهو في الأصل سوق المُلح «بضم الميم وفتح اللام» أي أنه سوق كل ماهو جميل ومليح وحصفت التسمية لاحقاً وصارت سوق الملح «بكسر الميم». واشتهرت أسواق صنعاء بجميع أنواع المشروبات والحلويات كالفالوذج واللوزنج والبالوصة والقديد وغيرها من الحلويات التي تقدم مع القهوة مازالت تحافظ على طابعها القديم رغم دخول مواد جديدة تشمل الألوان والأصباغ والروائح والنكهات المصنعة، وتشتهر أسواق صنعاء بتجارة الأعشاب والعقاقير الطبية التقليدية. زينة الأيام هكذا تشتعل الحياة في الأسواق والحوانيت القديمة استعداداً ليوم جديد على ثقاب تلك النداءات المؤسنة بروائح المدينة الفاضلة وحنان أهلها الطيبين الذين ماتوا نوا عن القيام بكرم وأخلاق الاستقبال الرسمي لزوار حوانيتهم ومنتجاتهم وحرفهم الذين توافدوا عليهم البارحة وكل يوم، وهذا هو المشهد المتكرر يقترب حسب موعده بالضبط مع أول «زبون» يطرق مطعم الكباب طالباً وجبة «الكباب البلدي» المفضلة لديه في الصباح، ومازال يستغرق في مذاق الأكل حتى تدافع الكثير من الرجال والنساء والأطفال من كل فج عميق ومكان بعيد على أبواب المدينة «السبعة» المنتشرة بإحكام وحكمة بشرية على طول الشريط العمراني «اللبني» المسيج بذلك السور العظيم الذي يحيط ويفصل تلك المنازل المطرزة بآيات الجمال عن الاختلاط بصنائع وعقارات التقدم العمراني المرعب، فهذا «باب اليمن» بعقده العمراني المذهل يرصد بذاكرته الجموع المحتشدة على أركانه المقوسة لم يعرف عن تفاصيل شخصياتها سوى أنها ترصد في عيونها كل ماهو جدير بالتسوق والمشاهدة وهذا «باب السباح» طريق آخر لعبور المدينة، وآخر في «باب البلقة» يُهدئ من روعة الزحام للدخول من باب آخر وهكذا، إنها بداية جديدة بالجلوس والتجول في أزقة وحوانيت المدينة بشوارعها المرصوفة بالأحجار النادرة والعقود الخشبية تستحق عليها الحياة لساعات طويلة في أرجائها لقب «زينة الأيام». تتعدد الحرف وهاهي الصناعات الحرفية تتوزع في أرجاء السوق مابين صناعة الحلي والمقتنيات الفضية والمجوهرات التقليدية، وصناعة الجبس وصناعة المعدات الزراعية والمشغولات اليدوية المتنوعة.. ولكل نوع من التجارة أو الصناعة سوق متخصص، وتتعدد الأسواق بتعدد الحرف والمهن التي احترفها سكانها.. وقيل قديماً سميت صنعاء بهذا الاسم نتيجة الصناعات الكثيرة. وتعتبر أسواق صنعاء القديمة المتراصة بألفة وحميمية قبلة للسائحين والزائرين العربي والغربي وتجدهم مركزين عيونهم وعدسات كاميراتهم ترصد كل حركة ومدهشين بمصنوعاتها اليدوية وقد أدرجت صنعاء القديمة من قبل منظمة..اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي الذي يخص البشرية جمعاء منذ عام 1986م. ومازال الكثيرون من الباعة يتوقعون ويرقبون المزيد من الوفود التجارية والاستهلاكية في طريقها إلى حوانيتهم وقد صدقت رؤياهم بالفعل،فهناك اعداد كبيرة من المتسوقين يتفرقون ببطء وبتوزيع عادل على أزقة وأسواق المدينة، وبين ذلك تنذر وقع اقدامهم، أما عيونهم فقد تناثرت بصيرتها على كل ماهو مقصود برؤيته مسبقاً لشيء ما، لم يعلن عن أى منهم حتى هذه اللحظة...فقط ما تسرب من حديث عابر بين بعضهم وعدد من الباعة المتجولين الذين يتقدمون الأرصفة والشوارع الأمامية للمدينة قد يتعرضون من جراء افتراش الأرض لمزاولة تجارتهم «المبسطة» إلى مخالفات «البلدية» وعقوبات «صحة البيئة». انتهت المفاوضات التجارية بين الأولية بين الباعة المتجولين وعدد من المتسوقين بالفشل، بعد أن أخذ منهم ذلك جزءاً من الوقت عاقهم عن رغبة التسوق والتجول المجاني في أزقتهم المنشودة، وجوه كثيرة تتدافع بحذر شديد من السهو والغفلة عن مراقبة أحوال التفاوض مع الباعة أو التودد للحديث معهم بغية أن يسهم ذلك في تلطيف «السعر« أو الحصول على عناية مركزة واضافية بعد الخصم والميزان.