كانت الساعة تٌشير إلى الواحدة ظهراً عندما عدت من الكلية وكان الإرهاق والتعب قد تمكنا من جسدي الضعيف، وما أن وطأت قدماي أرض المنزل حتى بدأ وابل من الأسئلة والاستفسارات عن بعض المجوهرات التي تمثل قيمةً كبيرةً لوالدتي وشقيقاتي : هل رأيت الخاتم ذا الفص الأزرق والساعة المرصعة بالماس والتعليقة ذات الفص الفيروزي كانت أسئلة إجابتها كلمه واحدة “لا”. وبينما كان جميع من في المنزل بين باحث ومفكر تحدثت جارتنا بصوت خافت موجهة كلامها لوالدتي : -هناك امرأة في احدى القرى المجاورة تدعى “ساجية” لها علاقة طيبة ب(اللي ما يذكروا)الجان وقد استطاعت مساعدة الكثير من الناس الذين تعرضوا للسرقة فكشفت السارق وعرفوا مكان المسروقات إن أردتِ فلا مانع لدي في مرافقتك إلى منزلها. رمقتها بنظرة لا تعبر عن ضيقي من هذه الأفكار الجاهلة بقدر ما تعبت عن أسفي لمصدقيها والمؤمنين بها . غابت الشمس ولم نجد لما فقد أي أثر وكانت فكرة مساعدة الجان قد وجدت طريقها معبداً سهلاً إلى عقل والدتي وشقيقاتي. وقد رأى الجميع أنَّي خير من يقوم بهذه المغامرة كوني الأكثر صلابة والأكثر استخفافاً بتلك الأمور . تبدل رفضي القاطع بانتهاج تلك المسالك الخاطئة إلى ترحيب بعد أن حٌكم على جميع محاولاتي بإقناعهم بالفشل الذريع وبعد أن نظرت للموضوع باعتباره تجربة جديدة تستحق المغامرة . كان الموعد قد حٌدد في العاشرة من صباح الجمعة كونه اليوم الوحيد الذي لا أذهب فيه إلى الكلية .أخذت جارتي وقٌدت سيارتي إلى المكان الذي كانت تدلني عليه ،وكان وجود والدي وأشقائي خارج الوطن فرصة رائعة للقيام بالتجربة بعيداً عن رفضهم لمثل هذه الشعوذات . ابتعدنا عن العاصمة مسافة ساعة تقريبا على أرضٍ معبدة ثم ما يقارب نصف الساعة على أرضٍ وعرة ،وأمام منزل كبير سألنا أحد المارة عن منزل “ساجية” فأشار بسبابته إلى المنزل الكبير الذي توقفنا أمامه وكان هو المنزل الوحيد المكون من أربعة أدوار. غادرنا السيارة وأخذنا وجهتنا نحو المنزل . طرقنا عدة طرقات قوية قبل أن تأتي فتاة في الحادية عشرة من عمرها وقد فٌرض عليها الحجاب (اللثمة) .سألناها عن والدتها فطلبت منا الانتظار وأخذت تصيح آمرة فتاة أخرى تبدو في السابعة قائلة: -قولي لأمي أن نسوان من المدينة في الباب يشتوها وما هي إلا دقيقة حتى سمعنا صراخاً آمراً الفتاة بإدخالنا.كانت السلالم مظلمة لا نكاد نميز شيئاً فيها سوى رائحة الأغنام التي تزكم الأنوف ونهيق الحمار الذي أشعرنا بأننا في زريبة للمواشي حتى وصلنا إلى الدور الثاني فبانت بعض دلائل أشعة الشمس . صعدت بنا الفتاة إلى الدور الثالث فأصبحت رائحة (الوقيد) تداعب أنوفنا فقد كان المطبخ (الديمة) على السطح، وكانت روائح الأكل ودخان الحطب المشتعل تتسلل إلى الأدوار السفلية . أدخلتنا الفتاة إلى مكان صغير له ثلاث نوافذ خشبية صغيرة تعلوها القمريات التي تسللت من خلالها أشعة الشمس وقد تلونت بألوان جميلة . كانت المفارش مصنوعة من صوف الأغنام ،وما أن دخلنا إلى ذلك المكان الذي كان نظيفاً مرتباً رغم تواضعه حتى أقبلت إلينا السيدة “ساجية” بأنفها الكبير وحاجبيها الكثيفين المقوسين وشفتيها المزمومتين وجبهتها العريضة فكان وجهها من أغرب الوجوه التي شاهدتها ، رحبت بنا وسألت عن سبب زيارتنا . لم اخبرها سوى بفقداننا لشيء ما وعشمنا في مساعدتها؛ فأخذت تحدثنا بفخر عن بعض من قصدوا مساعدتها فلم تخيب ظنهم بعد أن أمرت فتاتها بإحضار بعض اللبن والقفوع .شكرنا ذوقها ثم أخبرناها بعجلتنا فأبت إلا ضيافتنا، وبينما كنا نأكل من خيرات أرضها وعطاء أغنامها كانت تحكي لنا عن أولئك الناس الذين لم يبخلوا عليها بشيء بعد أن أسدت لهم معروفاً بمساعدة الجان. حدثتنا عن العروس التي سرقت مجوهراتها يوم صباحيتها ولجوئهم إليها لمعرفة سارقي مجوهراتها ومن الذي تجرأ على سرقتها ، وكانت تكرر تحذيراتها من المشاكل التي يسببها جهل بعض الناس حيث يقومون بإيذاء من قام بسرقتهم فيقومون بارتكاب الجرائم ويسبب ذلك غضب الجان وقرارهم بعدم مساعدة أحد بعد ذلك “لأنهم خيَّرون يحبون الخير”قالتها بلهجة تبين أنها لن تستطيع مساعدتنا. -ولكن ما يرضيكش يا حاجة ساجية أن تردينا خائبات بعد أن قطعنا هذه المسافة . قالت جارتي ذلك وغمزت لي بعينها ففهمت من ذلك أنها تريد مالاً فأعطيتها. بعد انتهائنا من تناول ما قدمته لنا أخبرناها بعجلتنا فتركتنا عائدة بعلبة قد أتلفها الصدأ، بها قلم وورقة صغيرة بيضاء لم يكتب عليها شيء وقارورة عطر صغيرة لم يبقَ فيها ما يستحق الاحتفاظ به .أخذت تمد سجادة الصلاة باتجاه مخالف للقبلة وقامت بإغلاق كافة النوافذ الخشبية باستثناء واحدة جعلتها مفتوحة .أحكمت من إغلاق الباب وتدثرت ب (الستارة المزركشة) ،وبدأت بقراءة الفاتحة وبدأ الخوف يدب في أوصالي والرجفة قد تمكنت من الجارة فاطمة .تمنيت أن أفتح الباب بسرعة وأهرب بسيارتي فلم تكن محاولات هذه الساجية في إقناعنا بعدم الخوف من إجابة الجني الذي سيحدثنا ومحاولاتها طمأنتنا مجدية .بدأت بقراءة الفاتحة تلتها بعض الكلمات المبهمة وكأنها شفرات معينة لا يفهمها إلا من كان الجان راضين عنه وله مكانة مميزة عندهم. -السلام عليكم ورحمه الله (جاء الصوت قوياً مرتلاً ومخيفاً من تحت الستارة التي تدثرت بها المرأة ساجية) -وعليكم السلام ورحمه الله (جاء صوتي مرتعداً خائفاً) بدأت أشعر بالطمأنينة ورجعت شجاعتي إلي بينما كانت الجارة فاطمة ترتعد خوفاً. أذهلني وصف منزلنا بدقه عجيبة وكذلك وصف علاقتي بمن في المنزل ووصفه لوجه الشغالتين اللتين أتتا من الحبشة قبل سبعة أعوام. كانت اللهفة قد بدت واضحة على تقاسيم وجوه من في المنزل وكانت الأعين ترقبني بحذر لمعرفة ما دار بيني وبين صديقه الجن ساجية. مددت يدي بوريقة صغيرة : -يجب أن نضعها في المكان الذي اعتدنا وضع المجوهرات فيه وترك النافذة مفتوحة . كانت الأعين مبحلقة في ما تكنه يدي دون أن أسمع رداً .كانت احدى الشغالتين والتي كانت تحوز على ثقة عجيبة منا جميعاً دائمة التساؤل والتلميح حتى بات الشك فيها شيئاً لابد منه . كان يجب عليَّ أن أعود إلى تلك المرأة بعد أسبوع من اللقاء الأول لأخبرها بالنتيجة ولترشدني إلى الخطوة التالية لكشف السارق ومكان المجوهرات التي أجمعنا على سرقتها وليس ضياعها. ذهبت لتستقبلني نفس الفتاة وقامت المرأة بعمل المرة السابقة وكنت قد ذهبت إليها بمفردي بعد تخلي الجارة فاطمة عني وقررت خوض المغامرة بمفردي مادام الخوف قد سيطر عليها . عدت عصراً ولم أخبرهم بما جرى حيث إنه لم يكن بالأهمية التي كانوا ينتظرونها ولكني كنت قد أمسكت بطرف الخيط الذي سيقودني إلى معرفة الجاني أو بالأحرى الجانية . -لقد أخبروني بما يجب فعله وسأخبركم بعد غد من هي الجانية. تعمدت قول هذه العبارة أمام الجميع أي أمام الشغالات وغيرهن ممن اعتدن الدخول إلى المنزل آملة في ذلك أن من قامت بالسرقة ستأتي معترفة إلي. كانت الساعة الثامنة مساءً عندما شعرت بتعبٍ شديد وبدا النعاس يغازل جفوني المرهقة فقررت الراحة والاسترخاء في غرفتي المظلمة. لم أكن ادري بأني قد أصبحت محور اهتمام جميع من في المنزل بعد زيارتي لساجية لولا سماعي لصوت شقيقتي وأمي يسألن عني وكانتا في خوف شديد من فتح باب الغرفة فلم تتوقعا أن أظل في مكان مظلم ولم تكن هذه عادتي،فقد عٌرف عني السهر إلى ساعات الصباح الأولى. غلبت شقيقتي والدتي وأقنعتها بفتح الباب ففتحته بعد أن قرأت سورة الناس واستعاذت بالله من الشيطان عدة مرات وكأنها ستفتح الباب على الجان وليس على ابنتها وزاد من خوفها ضحكاتي التي علت من تصرفها مع شقيقتي وما اعتقدتا بي. أطبقت عيني لساعتين تقريباً ونهضت لشرب الماء فإذا بوالدتي تأتي مقبلة تسألني عما اقلق نومي فأخبرتها بعطشي ولم أخبرها بأني قد شربت فغابت للحظات عادت بعدها لتسقيني من ماء أحضرته .أخبرتها بأني قد شربت فزاد فزعها فمن أسقاني خلال تلك اللحظات التي غابت فيها لم اسمع لها رداً وانصرفت مسرعة لتنام مع شقيقتي وقد سيطر عليهما الخوف ففقدتا الشجاعة في العثور على النوم في غرفتين منفصلتين. كان ذلك اليوم الأخير الذي أذهب فيه إلى ساجية صديقة الجن فقد صرخت والدتي : -خيراً أن تذهب المجوهرات جميعها من أن تذهب عقولنا وتقف قلوبنا التي أسرها الخوف. الغريب في الأمر أن الكلام الذي تحدث به ذلك الجني، والذي شككت في كلامه واستهزأت به قد تحقق بالحرف الواحد فقد ذهبت الشغالتان إلى بلادهما بعد أن عادت المجوهرات على يديهما وقد غمرتهما الفرحة وعلت البهجة وجهيهما وهما يقولان إن المجوهرات كانت في ركن من المنزل لم نبحث فيه وإنهما وجدتاه بالصدفة أثناء تنظيفهما الدقيق جداً للمنزل ..