الفريق علي محسن الأحمر ينعي أحمد مساعد حسين .. ويعزي الرئيس السابق ''هادي''    ما لا تعرفونه عن الشيخ عبدالمجيد الزنداني    «الرياضة» تستعرض تجربتها في «الاستضافات العالمية» و«الكرة النسائية»    الريال اليمني ينهار مجددًا ويقترب من أدنى مستوى    بين حسام حسن وكلوب.. هل اشترى صلاح من باعه؟    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    السيول تقتل امرأة وتجرف جثتها إلى منطقة بعيدة وسط اليمن.. والأهالي ينقذون أخرى    السعودية تكشف مدى تضررها من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    ريمة سَّكاب اليمن !    الشيخ هاني بن بريك يعدد عشرة أخطاء قاتلة لتنظيم إخوان المسلمين    حزب الرابطة أول من دعا إلى جنوب عربي فيدرالي عام 1956 (بيان)    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    الأحلاف القبلية في محافظة شبوة    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    مشادة محمد صلاح وكلوب تبرز انفراط عقد ليفربول هذا الموسم    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الملكة المغدورة
فصل من (رواية)
نشر في الجمهورية يوم 04 - 03 - 2009


ترجمة : علي محمد زيد
عبثاً ينخر المدينة ، ويجوس خلال شو
ارعها ، ويحاصرها من كل الجهات، ويتحكم بكل شيء فيها ، وينتشر في كل مكان.
وكانت هي هناك مذبوحة من الوريد إلى الوريد بين يديّ ، مدفونة دون ضريح ودون قبة، ترفع دمها النازف ، وترقص عارية في تابوت شفيف تقبع تحت ثقله المدمر. سحبت خطوات حزينة ، مثقلة متحجرة ، نحو مقهى الشهداء في مركز المدينة ، المهبط اليومي لزميليّ في الصف : عدنان وشكيب ، ولي أيضاً.
لم أتخيل قط قبل ذلك أن يأتي يوم مثل هذا اليوم أسحب فيه خطاي مثل محكوم بالأشغال الشاقة ، نحو مقهى الشهداء وبيدي شهيد حقيقي في جوف كيس صغير من البلاستيك ، شهيد بقرت أحشاؤه. تتزاحم في رأسي المغموم طوال الطريق الخواطر السوداء الحزينة ، باستثناء خاطرة يتيمة بدت بالأحرى تافهة وفي غاية التمرد. بنت هذه الصدفة المحضة ( التي لم تحمل في أحسن الحالات سوى توكيد إلى أي مدى يستحق هذا المقهى اسمه ). كشفت هذه الخاطرة اليتيمة عن سرائرها عبر آه سريعة تنطلق من الخياشيم أمام ( مقهى الشهداء ) وقد جرد الغبار اللوحة التي تحمل اسمه من بعض الحروف ، ونخر جسدها ثقبان مائلان أجهل سبب حدوثهما ، وإن ظلت اللوحة مكتوبة بخط جميل فوق لافتة واسعة في الوسط ، مرصعة بعشرين صورة فوتوغرافية لشهداء الثورة ، يقيدها عشرون شهيداً من المصابيح الكهربائية. وكان التوتر واضحاً على وجهي، حين سلمت الكيس البلاستيكي حيث يرقد الشطرنج الخاص بشكيب الذي كان ينتظرنا ، أنا والشطرنج، بالقرب من باب المقهى. مزقني الندم والخجل حين رأى شكيب إحدى ملكتي الشطرنج مقطوعة تماماً إلى نصفين ملصقين بسبعة أشرطة لاصقة. ومع ذلك كانت هذه الملكة قبل يومين فقط ، حين استعرت منه هذا الشطرنج ، صلبة كصخرة، جميلة كعروسة النيل. كانت من الصلابة بحيث لا يستطيع إلا حسام باتر أن يبقر أحشاءها ببضع ضربات باترة.
توقفت حركة الزمن خلال ثوان بليدة يصعب وصفها ، قبل أن يطلق في صرخة قصيرة سؤاله الذي لا يُنسى : “يا الله: ما الذي حدث ؟ ما الذي حل بسيدة الشطرنج ؟”. أتذكر جوابي على سؤاله. لك أن تسميه ما شئت ما عدا أن يكون جواباً. فقد تلعثمت في ألم بكلمات لا رابط بينها من إجابة معدة سلفاً ولكنها قليلة الخيال. قلت أي شيء غير الحقيقة. كلمات قد تكون : “سقطت ...تحت رجل سريري ...لا ... نعم … ، ثم انعقد لساني بشكل واضح وتصلب في شكل مشنقة تخنق الكلمات الهاربة.

وخلال هذا الزمن المتحجر استولت علي مأساة ليلة البارحة حين سالت دموعي وأنا أشاهد فاساً صدئاً يستعد في حماسة لتهشيم قلب الملكة. وكان القاتل رجلاً لا ترق له قناة أمام دموعي... تتدفق قطرات عرق غزير من وجهه الأرجواني ، مما جعل من الصعب التعرف عليه ، وهو يرتعش وقد خرج عن طبيعته ، فقيّد قدميها البريئتين ، وثبتها إلى الجدار ، ووجه بضع ضربات خاطفة شرسة أصابتني بالرعب وأخرستني. وفي الضربة الرابعة بقر بطن الملكة التي تجندلت وقد خارت قواها ، كشجرة قطعت ، عيناها مثبتتان على العدم كعيني رأس خروف ذبح أضحية في العيد.
صرخت بكل ما في قلبي الجريح من قوة :
هذا الشطرنج ليس ملكي. يجب أن أعيده لصاحبه غداً.
لم أجرؤ قط في تلك اللحظات على أن أنظر في عيني شكيب ، ولا أعرف أية موجة غضب عصفت بوجهه ، وأية أسئلة حامت حول عينيه قبل أن أسمعه يقترح فجأة بلهجة هادئة منضبطة ، أن نلعب الشطرنج ! ولم يكن لدي أية رغبة في أن أثبت نظري على رقعة الشطرنج ، ولا بالأحرى أن ألمس جثة سبق أن شاهدت في رعب قطع عنقها. قال لي :
سأدع لك القطع البيضاء. إلا أن عليك أن تلعب دون ملكة.
وأضاف بدهاء لطيف : إذا لم يضعفك هذا كثيراً ، بالتأكيد.
ربما بدا هذا الاقتراح لأول وهلة مبرراً ، إذ كان يهدف من وراء إقصاء ملكتي منذ البداية تحقيق التعادل بين قوانا ، ويمكن تجاوز هذا العائق منطقياً بتجربتي في لعب الشطرنج ، والتي كانت أطول من تجربته. لكن ، في العمق ، عندما رأى شكيب الهوة السوداء التي ابتلعتني بعد صرخته القوية جداً حاول بكثير من نباهة ظلت تؤجج عرفاني له بالجميل ، أن يهدئني باستمرار ، وهو الذي لم يكن في العادة رمزاً للرقة واللطف. فقد أخفى أولاً حزنه وراء حركة من رأسه تعني أن أؤجل شرح هذا اللغز إلى أيام أفضل ، قبل أن يطرح في دهاء اقتراحه “الوقور” ، وغير المنتظر بأي حال ، ليجنبني الاعتراف بحقيقة يغشاني الخجل منها تماماً. كان هدفه في الأساس حل عقدة لساني ، وأن يتوقف ، قبل كل شيء ، سيل العرق الذي يغرقني بفيضه ... صحيح أن السيدة الوزيرة (البعض وأنا منهم يسميها الملكة) مشطورة إلى نصفين ، وملصقة بسبعة أشرطة لاصقة قد تنطلق منها خلال اللعب رائحة مقرفة ومرعبة. كانت الساعة حوالي الثالثة بعد الظهر ، وكان يوم سبت من أيام شهر أكتوبر ، شهر الثورات ، كما علمونا في مطلع السبعينات حين أخذنا مكاناً في المقهى نفسه ، في مركز الشيخ عثمان ، وكان هناك شهيدة بشحمها ولحمها تقبع في عمق المقهى ، بجانب مباراة شطرنج باشرت المشاركة فيها دون أدنى رغبة. كانت مضمدة بضماد غريب في البطن لا يزال يترك في نفسي حتى اليوم جرحاً قديماً لا يبرأ.

كان الجو حاراً ، رطباً ، مكهرباً في الواقع. وكانت المظاهرات التي دارت بالقرب من مباراتنا المضجرة سبب ذلك. ضجة صيحات صاخبة ، ملتهبة ، راقصة تقض مضجع مدينة هادئة وادعة. وعلى نحو غير معتاد ينزل المتظاهرون الوالهون في “فرح ثوري” نحو عدن من جبال اليمن وحقولها في سيارات الحزب ، يبدو عليهم المرح والنشوة وهم يقومون بأول أطول رحلة إلى العاصمة. كانت الموجة الأولى قد وصلت هناك منذ أسبوع، حلوق ترعد بصيغ ذات رنين وقافية ، تعلن في شعاراتها أن “حرق الشيذر واجب” (وكأن الطقس الملتهب بالحرارة لا يكفي ! ) ، وأن تخفيض الرواتب واجب أيضاً، ويطلبون من “القادة التاريخيين الثلاثة” تقوية الخط “المعادي للرجعية” ، يصرخون أن الشعب “كل الشعب” ماركسي ( وهذا في الأساس لا يفتقد الغرابة والفعالية والجاذبية ، كما قال زميلنا عدنان ). ويتابعون في طرب :
ما نبا هبّي ولا شارلستون ما درينا هو صبي أو صبية
ما نبا خائن ولا خط رجعي والجماهير كلها ماركسية
خانت أفكاري عندئذ هذه المباراة التي أتجرعها بمرارة وشردت نحو والدي. قلت لنفسي بمنطق حرفي صارم : إما أن قولهم “الجماهير كلها” غير صحيح وإما أن أبي على وشك أن يصبح ماركسياً .لمحت فجأة بصدفة ساخرة متهكمة أن ملكتي توشك أن تعود إلى اللعبة بنشاط ، خلال نقلة أو نقلتين ، وهو ما سمح لي بأخذ نفس عميق وأن أسرح بخيالي في ثقة ... تناولت الرشفة الأولى من فنجان الشاي بالحليب الذي ينتظرني منذ نصف ساعة. النسيان وحده أو “السيسر” يستطيعان أن يهدئا نزق هذه الفناجين التي لا تروّض. راقبت شكيب يزاوج بين البرطمة والتأوه. راقبت الشارع المقابل الذي بدا شاحباً بطيئاً لا يتغير ، يجول فيه بخطوات واسعة رجال شرطة مسلحون بمقصات ومسدسات، وعيون جاحظة. لمحتهم بنظرة متخفية ، مرتبكة ، حادة. كانوا هذا اليوم كثيرين ، يجولون المدينة، يلاحقون بنطلونات “الشارلستون” ليقصوا أطرافها المثلثة الواسعة في الأسفل (وبهذا يحفظون لمدينتنا روحها المستطيلة بعمق ) ، ويقصون الشعر الطويل “الهبّي”. قدرت هامش المناورة المتاح أمامنا في حال توجه الشرطة نحونا ، فوجدته كبيراً لحسن الحظ ، لأن أزياء قطع الشطرنج المذكرة والتي تمثل جيشاً في مصر الفرعونية تدعو للرضا. كانت ثياب البيدق نوعاً من تنورة قصيرة وثوب بسيط يتم ربط طرفيه المتقاطعين إلى مقدمة الحزام ، ويشاهد نصفي ساقي البيدقين بوضوح أوعلى الأقل ركبة كل واحد منهما ، أما الركبة الثانية فقد كانت مخفية إلى هذا الحد أو ذاك برأس قطعة قماش مثلثة ، مثبتة إلى الوسط. أما اللباس الرسمي للملك في بهائه وأبهته ببزته الرسمية المزينة والمنمقة فقد كان من نفس الطراز : حيث يشاهد تماماً جزء كبير من نصف ساقيه. وعلى كل حال ، كان عقباه عاريين تماماً ، خاليين ولله الحمد من آثار “الشارلستون” ، وهذا ما لا يستطيع الشرطة إنكاره.

وربما بداً السؤال الأصعب ما إذا كان للجنود الفرسان وللبيادق شعر طويل ، وعما إذا كان هناك فتوى تصنف الرجل الذي يحمل شعراً مستعاراً باعتباره “هبي” أم أن ما يبدو شعراً طويلاً هو ببساطة خط يغطي الشعر ، أو نوع من اللثام مثل ذلك الذي يرتديه رجال حرب التحرير ، وهذه حالة لا يستطيع الشرطي إزاءها إلا أن يبدي احترامه. والحقيقة أن الأمر لم يكن مشكلاً إلى هذا الحد ! لأنه في الأساس ، لم يكن من المستحيل إقناع الشرطي بأن رؤوس البيادق لم تكن مغطاة لا بشعر طويل ولا بشعر مستعار ، وفي هذه الحالة ، أستطيع أن أحضر من منزلي كتاباً عن مصر القديمة يثبت للشرطي على نحو لا جدال فيه ، أن رجال مصر القديمة كانوا يفضلون الشعر القصير ، المصفف على نحو يدع الآذان مكشوفة وواضحة ، وكل شيء يبعث على الافتراض السعيد بوجود منديل حول الرأس. سأستغل هذه الحجة ، قلت لنفسي وأنا أترقب مجيء الشرطي إلى طاولتنا ، لأحاجج وأناور فيما يخص رأس الملك ، وإنكار وجود شعر مستعار ، وأنه محاط بما يجعله شاذاً ، وسأتحدث بخاصة عن عصابة الرأس أو عن العمامة حتى لا أقول التاج وفي مقدمتها حية كوبرا ونسر ، وهو ما يجعله متميزاً تماماً عن رأس “الهبي” ، وسأحتفظ تماماً بهدوئي إذا تناول النقاش مع الشرطي ذي المقص مسألة “فارس” الشطرنج ... لأن هذا الفارس يرمز له ، في كل شطرنج مصري ، بفيل ، أية كارثة ! فهل سيبلغ الشطط بالشرطي حدّ قطع أقدامه ؟ لا أعتقد ذلك حقيقة. على أي حال ، سأحاول أن أشرح له أن عليه أن يعتبر عبارة “أقدام الفيل” ( وهي عبارة فرنسية تعني البنطلون “الشارلستون” ) مجرد مجاز أو كناية وهنا ستفيدني دروس البلاغة التي لقنني إياها أبي منذ أن كان عمري سبع سنوات على غرار قولنا “شرب فنجاناً”. سأقول له : ( نحن لا نشرب الفنجان ذاته بل ما بداخله ) ، أو مثل الكناية الشعبية “كعب عالي نازل” التي يرددها ركاب الحافلات عندما تكون امرأة على وشك النزول من الحافلة ، للقول إن واحدة ممن لهن كعب عالي ، أو من الجنس اللطيف ، تستعد للنزول. وعلى ذلك ، لا نقطع “قوادم الفيل” ، قلت بأمل عارم : وفي أسوأ الحالات سأقسم بحياتي وحياة أبي وأمي وإخوتي أن هذا الشطرنج يمثل جيشين في مصر الفرعونية وأن “موضة” الشارلستون قد جاءت متأخرة كثيراً عن زمن الفراعنة.

وعند النقلة الثانية والعشرين في لعبة الشطرنج بيني وبين شكيب كان الشرطي قريباً منا. وفي حين كنت أستعد لأمسك بالشريط اللاصق المغبر فوق الملكة المحطمة ، أصبحت فجأة مطمئناً على مصير الشطرنج. كان لدي فجأة ما يشبه الانطباع أن الملكة تحمل شريطها اللاصق كحرز. نعم. فهذا الجرح الذي بدونه لن يكون الشطرنج متلائماً مع مدينتنا المحطمة ، بدا لي مثل الثغرة التي فتحها النبي المترحّل الخضر في السفينة ، ليس لإغراق راكبيها ، كما اعتقد موسى بتسرع ، بل لتقليل قيمتها حتى ينقذ سفينة الفقراء من سطوة ملك يأخذ كل سفينة غصبا ، كما كشف ذلك هذا النبي الحكيم فيما بعد. ومثل هذه الثغرة التي تصفها آيات القرآن الكريم ، كان هذا الجرح يحمي الشطرنج من مصير مأساوي. ففي مدينتنا الصغيرة ، من حيث هي مستودع عظيم للحكمة والعلوم الباطنية، ينبغي أن تكون محطماً بعض الشيء لكي تكون سعيداً ... هكذا وبعد أن تطهرت من كل خوف أعدت التفكير في مرح متخابث بوالدي مستغرقاً في قراءة “راس المال” !...كنت واثقاً من أنني لو كشفت لعدنان هذا الافتراض الذي لا رادّ لتفاهته ، سيثبت لي أن من المحتمل أن يكون والدي أكثر “ماركسية” من الآباء الروحيين لحياتنا الجديدة ، المتعمقين في علوم الماركسية والأميين في الغالب ، وغير المتعلمين إلى حد كبير.

وفي النقلة الثانية والعشرين وصل أحد بيادقي السود إلى خط ملك شكيب متحولاً إلى ملكة. حركت بعناية فائقة ملكتي ذات الأحشاء الممزقة ، بعد أن كانت منبوذة في طرف طاولتنا ، محرراً إياها من ذبابة كسولة ، شديدة الكسل ، كانت ملتصقة بأكتاف الملكة وضمادها. ولم أستطع إخفاء ارتعاش يدي وأنا أضع جثة الملكة بدلاً من البيدق الشجاع المقترب من صدر شكيب. وأحسست في الوقت نفسه بالارتياح لعودة هذه الملكة محرجاً لأن أرى الشريط اللاصق البائس حول بطنها الجميلة والمأساوية. فأصبحت المباراة في الحال عارية ، مسطحة ، عرجاء ، وبدا من جديد جحيم هذا الصيف اللانهائي كنا في شهر أكتوبر! حصاراً توجه له جميع أنواع الشتائم. تخلى شكيب ، الذي كان متبحراً في بلاغة الشتم ، عن المباراة بعد اثنتين وعشرين نقلة ، وأطلق سيلاً من اللعنات على جنون المدينة ، وعلى الشمس و “الغضب الثوري” والذباب ، والشطرنج ، وزوجة أبيه الشرسة. تناولنا الشاي من جديد في انتظار عدنان. وعند حوالي الساعة الخامسة بعد الظهر هبت الريح على سطح المقهى ، نسمات عليلة مثل أنفاس المحبين على الخدود. لا شيء يساوي هذه اللمسات الحنونة في هذه الساعة ، وهذه العلامات التي تعلن الخلاص من طغيان الشمس. لا تزال بعض السحب في بحر سماء زرقاء صافية ، قبل أن تتمزق بهدوء في آخر موجات تخلت عنها الشمس. إنها الساعة التي تتحول فيها الشيخ عثمان إلى خلية نحل تعج بالحركة ، يتدفق الأطفال ساعتها من كل مكان ، حول رمالها وسطوح مدارسها ، أمام دكاكينها وأسواقها ، حول ساحات لعب الكرة وزوايا الظلال ، بالقرب من مساكنها وفي شريانات شوارعها... ينهمكون ، ويداعبون الكرات ، ويثيرون الدوامات ، ويضربون أوراق اللعب على الطاولات ، ويتسلقون أعمدة النور ، ويقفزون حول الحواجز ...

ويتحمس لاعبو الكرات الزجاجية أو الحصى مثل حماسة من يدحرجون العجلات أو رواة القصص. أما المراهقون فينهمكون في تقاطع الأحياء ، يحملقون في المارة ، ويتجاهلون تماماً آخر السيارات التي تحمل المتظاهرين وقد بحت أصواتهم ، وهدهم التعب الثوري ، يكرسون كل نظراتهم على الشابات المارات ، يتابعونهن ويتأملونهن ، ويحللون حركات أهداب عيونهن ، ويتفحصون الخط البياني لمرحهن ، ويتعرفون على تفاصيل أزيائهن ، و يسجلون جغرافياً تصفيف شعرهن ، ويفرحون لأدنى ابتسامة يمكن اصطيادها ، ولأقل لمحة خاطفة. يغازلون في خجل وتهيج ، ويتبادلون مع جماعة الحي المجاور “تقارير” معمقة عن اللواتي مررن ، واللواتي لم يمررن بعد ، واللواتي قد يمررن ... وحول يوميات الحب البطيء ، وعن سوق الشعر المعطر ، وبورصة خفقات القلوب. أما من هم أقل مراهقة والآخرون ، جميع الاخرين ، فيتسكعون خارج المدينة حيث تعانق العصافير في السماء.
بدأ المقهى يمتلئ شيئاً فشيئاً بالرواد. ودخل إلى المقهى شاب سمى نفسه “القديس” ( لتشبهه بسيمون تمبلر ، الممثل في المسلسل التلفزيوني “القديس” الذي عرض في أواسط الستينات) ، أكمام قميصه مكفوفة حتى الكتفين ، والقميص نفسه مكوي بعناية ومحشور بدقة في البنطلون الذي يمكن تمييز عطفتيه بوضوح. تقدم هذا الشاب بحذر وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة كأنها ملصقة من الخارج ، وخلفه شاب آخر يتبعه سراً ويمسك فوق شعر رأسه القصير المجعد خيطاً من “ العزف “ ملفوفاً على شكل الهالة التي تظهر على رأس القديس في المسلسل ، أمام أنظارنا المتواطئة التي تمسك في مرح ابتسامة ساخرة.

ثم وصل إلى المقهى شاب آخر محملاً بحقيبة مملوءة بالحليب ، والزبادي، والقرفة، والزر ، والزعفران ، وقارورة زيت كان قد اشتراها من دكان الشارع المقابل الذي توجه إليه فجأة حين رأى امرأة بالقرب من ذلك الدكان. إنها تلك الفتاة التي لم يتوقف عن مراقبتها ، ولم يتوقف عن الأمل بالاقتراب منها ، وباجتذابها ، وتوسل اهتمامها به ، وحبها له. فاشترى من هناك ، متظاهراً بمصادفة محضة ، كل ما كانت تشتريه فتاة أحلامه ، معتقداً أنها بذلك ستلاحظ منذهلة التناغم الكامل بين حاجاتهما وأذواقهما، والاتفاق التام بين روحيهما ، وميلهما الطبيعي الذي برمجه “خالق الصدف” وما يترتب على ذلك من إقامة رابطة لا تنفصم عراها أبداً. ثم التحق بنا عدنان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.