ما الفرق بين أن يكون شكسبير رجلاً أو امرأة؟ وما الفرق بين أن يكون إيطالياً أو إنكليزياً أو عربياً؟ وما الفرق إن كان هذا الاسم حقيقياً أم مستعاراً ووهمياً؟ لا بد لمثل هذه الأسئلة أن تقفز فور قراءتنا ما يمكن عدّه كشفاً تاريخياً بين حين وآخر، يتعلق بهذا الاسم السحري. وقد كان آخر هذه الكشوفات ما أعلنه باحث أميركي يُدعى جون هدسون. وزعم أن شكسبير كان امرأة اختارت اسماً مستعاراً اتقاء نظرة الازدراء التي كانت سائدة حينذاك إلى المرأة الكاتبة. وأشار الى أن المرأة تدعى إميليا بوسانو لانييه، وإنها ولدت لأبوين يهوديين هاجرا من إيطاليا، وإنها أول امرأة نشرت مجموعة من الأشعار عام 1611. وربما يكون شكسبير من أكثر المبدعين على مر التاريخ، الذين تعرضوا للملاحقة التاريخية، والمتابعة الحثيثة، سعياً لكشف هويته الحقيقية. وهو مجرد هوس يصيب بعض المؤرخين للخروج بنتائج مفاجئة تغير ما اختزنته الذاكرة الكونية في شأن ما. وهؤلاء لا يدركون أن هذا الكشف التاريخي الذي يظنونه كنزاً معرفياً، لن يقدم أو يؤخر في هذا الشأن شيئاً، ولن يؤثر في هذا الإرث الإبداعي الهائل الذي خلفه فنان عظيم مثل شكسبير، أكان إنكليزياً أم إيطالياً أم عربياً. إن كاتباً اختار أبطاله وأحداثه وشخوصه من مناخات عدة، وبلدان متنوعة، يعني لنا كاتباً فذاً تمكن من الاطلاع على الجغرافيا الثقافية جيداً، وتوظيف إرثها السيكولوجي والسوسيولوجي بما لا يتعارض مع تلك الجغرافيا الثقافية للأقاليم التي تنقل فيها. سيبقى هاملت هو ذلك الأمير المضطرب، الحائر والمتناقض. وستظل أوفيليا هي تلك الفتاة الرقيقة والشفافة الآيلة إلى التداعي رقة وعذوبة. أكان شكسبير إنكليزياً أم إيطالياً، أو أكان امرأة أم رجلاً. وليس أمام مؤرخي الآداب والفنون، مهما برعوا، إلا أن يتباهوا بكشوفهم التاريخية على صفحات مجلات متخصصة. بينما لن يغير هذا الكشف من صور ماكبث وعطيل وياغو ويوليوس قيصر وهنري الثامن وروميو وجولييت والملك لير وآخرين كثر. نفهم أن ما يقوم به هؤلاء المؤرخون والباحثون يندرج ضمن اهتماماتهم وأعمالهم ودراساتهم الأكاديمية وغير الأكاديمية. لكننا لا نفهم مغزى هذه الكشوف المجردة، والمعزولة عن الإرث الإبداعي لعدد كبير من المبدعين والعباقرة. فهل القول بأنوثة شكسبير مثلاً، تغير في قراءة هذا الإرث الثري الهائل؟ وهل القول بيهودية الأب والأم تجعل أحداً يفتش عن تأثيرات توراتية في هذا الإرث، مأخوذة من الخارج، ليلقى بها بين صفحات هذه الأعمال جزافاً؟ هل يضيف هذا الكشف إلى الرصيد الإيطالي الفني شيئاً، ويفقد الرصيد الإنكليزي شيئاً مساوياً؟ هل نمنح اليهود صفحة جديدة من التألق والإبداع مثلاً، فيما لو نسبنا شكسبير إلى أم وأب يهوديين؟ أم يرد بعض الباحثين تهمة فنانين ومبدعين أوروبيين، تشير إلى فقر الجماعة اليهودية إبداعياً وفنياً، بالنظر إلى تزنرهم بلغة دينية معلبة، وأفكار ميتافيزيقية تحد من فتح آفاق الإبداع أمامهم، كما قال فاغنر مثلاً؟ شكسبير هو شكسبير، رجلاً كان أم امرأة. إنكليزياً أم إيطالياً. مسلماً أم مسيحياً أم يهودياً أم بوذياً أم وثنياً. فهذا كله لم يعد يعني البشرية، مقدار عنايتها بما أبدعه شكسبير من أعمال غاص فيها إلى أعماق النفس البشرية، وتمكن من كشف الكثير من خفايا الجوهر الإنساني، العصيّ على الوضوح والثبات والتنميط. شكسبير لم يعد مجرد شخص نفتش عن أصوله وديانته وبلده، فليست هذه الآن جزءاً من حقيقة شكسبير الأساسية. الحقيقة التي تقول إن شكسبير أصبح عالماً واسعاً يحتاج إلى التجوال في دروبه المتشعبة، ومدنه وقراه وجباله وأوديته وغاباته الكثيفة، سعياً للعثور على ما لم يُعثر عليه، من أفكار وإيحاءات وأسئلة وربما أجوبة! فليكن شكسبير ما يكون، إيطالياً إنكليزياً صقلّياً عربياً هندياً فلا فرق. وليذهب الباحثون إذا شاءوا إلى ما هو أبعد من ذلك... لينكروا وجوده من أساسه، فإن ما يهمنا منه هو هذا العالم العظيم الذي قام بصنعه. لقد شكك الباحثون في شاعر اسمه هوميروس، في وجوده، وفي فردية إبداعه، ولكن أحداً لم يتمكن من التخلي عن «الإلياذة والأوديسة» يوماً. بل إن كتب الطب العالمية استعارت من هوميروس بعض التسميات، مثل «وتر آخيل» في دراسة التشريح! وهو ما سيظل قائماً مع شكسبير، حيث لن تكف البشرية عن التوقف مطولا في الحياة السياسية والاجتماعية أمام مقولة «هاملت»: «أكون أو لا أكون». أياً كانت حقيقة شكسبير الإنسان والشخص، بكل ما يتعلق به من نشأة وتربية وجغرافيا ثقافية وهوية ونشأة. ولنتذكر أن مخرجاً إسبانياً يدعى إيميليو قدم فيلماً عن حياة لوركا، جهد فيه ليثبت أن لوركا قتل على أيدي أبناء عمومته، بسبب خلافات ونزاعات على ملكية أرض، وبسبب ما أثارته مسرحيته بيت برناردا إلبا من إساءة إلى العائلة. لكنّ هذا الفيلم وبكل ما حشد فيه مخرجه من وثائق وشهادات، لم تجعل أحداً في العالم ينسى أن كتائب فرانكو هي التي قتلت لوركا. كما لم تتمكن وسائل الإعلام الغربية من إقناعنا أن بابلو نيرودا قضى إثر نوبة قلبية عادية، للتغطية على جرائم ديكتاتورية بينوشيه. ولم تتمكن المؤرخة جيل لويدز من محو صورة فان غوغ وهو يقطع أذنه كي يهديها الى حبيبته. ولم يتمكن الباحثون من إقناعنا بدموية غيفارا وساديته ومرضه النفسي، بعد أن قاد أعظم ثورة إنسانية في التاريخ الحديث. المشكلة التي لا يريد هؤلاء المؤرخون أن يستوعبوها، هي أن بعض «الحقائق» أقوى من بعض «الأكاذيب» التي يدّعونها، ليس بفضل التقادم الزمني، بل بفضل قوتها النابعة من القيم الإنسانية التي أعلت من شأنها، مع صرف النظر عن بعض الكشوف الشخصية من هنا وهناك. هذا إن كانت هذه الكشوف صحيحة بحق!