ستبقى العلاقة بين المبدع شاعراً كان أم قاصاً أم فناناً... والناقد قابلة للاجتهاد والاختلاف، فالعمل الفني معرض باستمرار لسوء الفهم. فإذا كان المتلقي يريد من العمل الفني معنى محدداً أو أفكاراً أو مساراً يؤكد فكرة مسبقة، فإن ذلك لا يكون مقبولاً من الناقد الذي يفترض فيه أن يكون على وعي وقناعة بأن الأحكام في مجال الخلق الفني فيها خروج عن سكة النقد عندما يلزم الناقد نفسه بقاعدة محددة أو بنظرية صارمة. . فقد مر زمن كان كل من الناقد والمبدع ينطلق في شغله الفني من فكرة مسبقة كانت على الأغلب ذات علاقة بعقيدة سياسية أو دينية. وكثيراً ما كانت المعارك الأدبية تقام بين فرقاء تتعدى العملية النقدية ويجري الاصطفاف فيها لا على معنى في العمل الفني أو مهارة في التعبير وإنما لاعتبارات أخرى خارج هذا العمل. ليست عملية الخلق الفني عملية تقوم على صياغة معنى ما، وليست محاولة لشرح تجربة معينة، كما يحلو للكثيرين من النقاد حين يستخدمون عبارات التشجيع والمديح أو التشنيع. في الحالتين كلتاهما إنما هم (يشيّعون نعوش العمل بعقلهم هذا إلى مقبرة المعنى)(4). العمل الإبداعي عمل تشكيلي، بمعنى ما، وهو تكوين لعالم كامل وفق رؤية خاصة للمحيط تحتويه وتتجاوزه بمستويات مختلفة باختلاف مبدع عن آخر. يقيم الشاعر في قصيدته، كما الفنان التشكيلي في لوحته عالماً له بناؤه ومنطقه الخاص، فلدى كل مبدع نشاط جدلي مستمر بينه وبين العالم. في قصيدته، أو كما يحلو له القول في سر بيته (تناثر مني شيء) يقول سميح القاسم: هو الغمر.. ماذا ستفعل يا أيها المفرد الآدمي؟ بهذا الهبوط القصيّ وهذا القنوط العصيّ ولا فوق.. لا تحت.. ما من جهات وما من لغات سوى صمت تكوينك الأولي..
هو الآن وجه من الماء كان قبيل الحقيقة وجهاً من الورد والصخر لم يبق فيه الكثيرُ، تناثر فيه القليلُ تناثر منه الكثير، تناثر شيءٌ ولم يبق للروح لون، ولم يبق للقلب ضوء ويحرسه الحزن، ينطقه الحزن.. هاأنذا تلاشى رويداً رويداً(5). بعض النقاد تشغلهم النظرية في عصر التَهَمَ كلَّ النظريات من مفهوم المثلث إلى النظرية النسبية، هذا الانشغال يصل بالنقاد إلى حالة من التشويش في الاستدلال كون النظرية أية نظرية هي نتيجة لاستقراء ناقص وهذا ما يوقع حامل النظرية إلى الانشداد بين قطبين متعارضين (الاستنتاج والاستقراء). فيخرج الناقد من حدود المنطق الصوري الذي ارتضاه لنفسه أو الذي وقع في حبائله فيحاول تفسير النص أو تأويله في محاولة منه تعود إلى قصد قبلي يهدف إلى المطابقة بين النص والنظرية، على طريقة سرير بروكست. يجنح النقد أحياناً نحو التقيد بظاهر النص فيبسطه إلى حد يفقده حيويته ويسطو على المعنى فيه، أو أنه يغرق في عملية تأويلية تخرج النص عن سياقه فيساءُ لهُ ولا يخدمه.. وهذا في واقع الأمر يعود إلى العمل الإبداعي نفسه إذ أنه يحمل أوجهاً عدة قد يبعث البحث فيها إلى شطط في الأحكام والرؤى، أو إلى تجميد النص في قالب معد سلفاً. يوصف الفعل المبدع بأنه نتاج القدرة على الخلق. وهذه القدرة الخلاقة هي، بشكل ما، إثراء للوجود تتجلى في نتاجات إبداعية. وهي نتاجات لا تطيق الإنضواء تحت نمط واحد، حتى لدى المبدع الفرد نفسه، لا من حيث تجلياتها عند المتلقي، ولا من حيث التركيب أو التشكيل الذي تنتهي عنده. فلا يستطيع كائن من كان أن ينتج في مجال الفن والأدب يقول ليبنتز أن ينتج أشياء عامة، وإنما أشياء يختلف كل منها عن الآخر. يعني هذا أن النقد من خلال النظريات التي يستند إليها الناقد ليس بوسعه اكتشاف المعنى ذاته الذي قد يكون هدف إليه الفاعل. هذا الاختلاف يعود إلى طبيعة الإدراك، من حيث كونه فعالية نفسية معرفية عند الإنسان. بغض النظر عن المقابلة بين الناقد والمبدع أو بين أي من الاثنين والمتلقي. فمعارفنا لا تغطي إلا القليل مما نرى أو نسمع بشكل مباشر. ولا تأتي الإدراكات الحسية بمعلومات عن الأشياء المحجوبة عن أعيننا. الإنسان بحاجة إلى همزة وصل بحسب أرنست بلوخ وتكون ذهنية الطابع فكرية. والفكر وحده القادر على استجواب انطباعات السمع والبصر والشم واللمس والذوق؛ كما يستجوب المحقق الشهود(6). وقع الشعر والفنون النثرية الأخرى، وكذلك الفن التشكيلي في مصيدة محاكاة الفن الغربي. فالعديد من الشعراء بخاصة، والرسامين والنحاتين لم يستعيروا تقنيات بعض الفنانين والشعراء الغربيين فحسب، بل أيضاً الأمكنة والأزمنة دون الشعور بالمفارقة بين أصالة النموذج وفرادته وقراءته لواقعه، وبين تزوير المقلد وهو يقرأ واقعاً آخر. متوهماً وواهماً الآخرين أنه يقرأ واقعه وحال بيئة عاش فيها ومجتمع يطمح إلى تطويره وتقدمه. أخذ أحد الكتاب على شاعر عدّه عديد من النقاد أنه أحد رواد المرحلة الشعرية الجديدة أنه وقع في مصيدة هذا الوهم. ففي قصيدة سارق النار وهي سيرة ذاتية كتبها عبد الوهاب البياتي، ظهرت فيها طفولته طفولة غربية بدلالات الأسماء والأمكنة والأوصاف، وليست أبداً طفولة إنسان من ريف العراق. ويقول هذا الكاتب أنه في حديث شخصي مع البياتي، دافع هذا الأخير عن الفكرة بحجة تغربه الطويل عن العراق، وبحجة أخرى وصفها ببؤس وضحالة الحياة العربية وصحرائها القاحلة على مستوى الفكر والوجود المتعين. فسأله الكاتب إياه: لماذا لا يتجسد وعي البؤس والضحالة والصحراء في شعرك. فجاء الجواب: أنا لا أستطيع أن أكتب كما كنت قبل عشرين سنة(7). في السياق ذاته يصل هذا الافتتان بالآخر إلى حد المغالاة والاغتراب. في هذا المقام يقول منذر عياشي متسائلاً: يقال إن الحداثة العربية صنعت شعراءها، وليس العكس. فلو أن أي رقم شعري ممن لا نعرف قد حل محل أي رقم شعري ممن نعرف في الفترة ذاتها، وحمل الأفكار ذاتها، وطبق على شعره التقنيات ذاتها. هل ينال من الحظوة ما يناله كل من شعراء الحداثة الأوائل؟ أنا أعلم أن ليس للحداثة في العالم معيار. فكيف صارت في الوطن العربي معيارية؟ وكيف صار الشاعر يقاس بغيره؟. ويجيبه سميح القاسم: إننا نستهلك الحداثة، ولسنا طرفاً في إبداعها. ولا يمكن أن تتحقق الحداثة في الشعر ما دمنا خارج حداثة الحياة(8). تشوشُ الرؤية ومحاكاة الغرب لم ينتجا حداثة لا في الإبداع ولا في النقد (الاكتشاف) لأن الأمر استمر في استعادة للذاكرة وإلغاء الذاكرة الشخصية. في العودة إلى كل ما سبق، لا نعني إلغاء دور الناقد. النقد حالة إبداعية من نوع ما تكمل حالة الابتكار والجدّة فيما يقوم به كاتب أو فنان وينتجانه. لكن الأمر المطروح هو في النأي عن فرض مسار للقصيدة أو اللوحة وفرض رؤى خاصة أو آراء شخصية كيلا يساق الكاتب أو الفنان إلى التكلف في (الصنعة) فيكسو عمله الإبداعي بكسوة مصطنعة خارج رؤاه ونشاطه الإبداعي، مما يضطره إلى تكلف لا يغني النص أو يثريه، فيحتال على المعنى ويجنح نحو المحاكاة والتقليد في اعتماده مسطرة الناقد وميزانه. فتظل الحالة بعيداً عن الإبداع والمعاناة الخلقية التي تتجاوز المعنى وتثير خيال المبدع والمتلقي. عند تلاقي الكاتب والفنان مع الناقد والمتلقي على لغة واحدة تنتمي إلى (ثقافة واحدة) إن صحت العبارة.. يخرج العمل من خانة الإبداع لأنه يفقد أصالته وجدته، فالفعل الإبداعي يحتاج إلى الشعور بالرحابة والاتساع بعيداً عن الغرف المغلقة والصور المصطنعة. الهوامش: (1) جريدة الحياة 14/2/2006. (2) فرديناند الكييه: معنى الفلسفة ص 21. (3) السابق ص 92. (4) محمد كامل القليوبي: الفكر المعاصر العدد 49 ص 94. (5) سميح القاسم: ملك اتلانتس وسربيات أخرى ص 108. (6) أرنست بلوخ: الفكر العربي المعاصر ع 13 ص 88. (7) محمد الأسعد: تشويه التجربة الشعرية الفكر العربي المعاصر ع 13 ص 112 وهامش ص 125. (8) حوار مر العربي المعاصر ع 13 ص 112 وهامش ص 125. (8) حوار مع سميح القاسم مجلة ثقافات العدد 5.