ستبقى العلاقة بين المبدع شاعراً كان أم قاصاً أم فناناً... والناقد قابلة للاجتهاد والاختلاف، فالعمل الفني معرض باستمرار لسوء الفهم. فإذا كان المتلقي يريد من العمل الفني معنى محدداً أو أفكاراً أو مساراً يؤكد فكرة مسبقة، فإن ذلك لا يكون مقبولاً من الناقد الذي يفترض فيه أن يكون على وعي وقناعة بأن الأحكام في مجال الخلق الفني فيها خروج عن سكة النقد عندما يلزم الناقد نفسه بقاعدة محددة أو بنظرية صارمة. . فقد مر زمن كان كل من الناقد والمبدع ينطلق في شغله الفني من فكرة مسبقة كانت على الأغلب ذات علاقة بعقيدة سياسية أو دينية. وكثيراً ما كانت المعارك الأدبية تقام بين فرقاء تتعدى العملية النقدية ويجري الاصطفاف فيها لا على معنى في العمل الفني أو مهارة في التعبير وإنما لاعتبارات أخرى خارج هذا العمل. وعلى الرغم من انصراف الكتابة في النقد والإبداع عما كان يطلق عليه الالتزام والذي كان يقوم على أساس من قوالب مسبقة تحدد المعاني وتتجه في أكثر الأحيان لتصوّر العمل الفني وفق أنماط لبنية العمل الفني يرتبها أصحاب العقائد والأفكار السياسية. مما أدى إلى نتائج ما زلنا حتى الآن نكتوي بنيرانها حيث كان أحد الفرقاء يصنع هالة لهذا الشاعر أو الفنان ويكيل له المدائح فيغدو وكأنه فلتة الزمان وظاهرة لا تكررها العصور القادمة. وعلى العكس من ذلك كانت أوصاف الرداءة والرجعية وغير ذلك من القاموس السياسي إياه تكال لآخر مما لا ينتمي إلى الاتجاه نفسه. هذا المشهد الذي أخذ في السقوط متأثراً بمتغيرات كنست قواعد ونظريات كثيرة تخشبت وفقدت حيويتها وتدنت قوتها، فتح أبواباً جديدة للحديث عن علاقة الناقد والمبدع على قاعدة العمل الفني ذاته. لكن هذا لا يعني التنكر لفكرة الالتزام، فثمة فروق كثيرة بين الالتزام وتجليات بعض أشكال التماهي مع هذا المفهوم في قسره ليصبح مرادفاً للإلزام. وهذا هو الذي حصل خلال عقود طويلة من سيطرة المفهوم الشامل للتحرر والحرية والعدالة إلى نهاية السبحة التي كانت تتكرر صباح مساء. ولعله في جواب لصنع الله إبراهيم عن الالتزام نذهب إلى حد نكون مع قد برأنا الالتزام مما شابه خلال المرحلة المنصرمة يقول صنع الله إبراهيم: “في اعتقادي أن أي مبدع هو أديب ملتزم، وأحدده اصطلاحاً أن يصبح الكاتب أميناً في رؤيته أياً كانت وإلى ما تصل،وهي تعتمد على رؤى الكاتب في الحاضر وقراءته للماضي وقدرته على استشراف المستقبل، التزامه هو التزام أمام هذا العالم لا يعني الالتزام أن يكتب الناس عن القضية الفلسطينية أو عن حرب العراق، وربما يظهر الالتزام أحياناً في عكس ذلك تماماً نجيب محفوظ كان حريصاً منذ البداية على عدم التورط في الأيديولوجية والسياسة وظل أميناً لذلك الحياد طوال هذه المسيرة الطويلة ولا نستطيع أن ندعي أنه كاتب غير ملتزم وما نتأكد منه بعد كل هذه المسيرة أن أية رؤى أيديولوجية تظل ناقصة وغير مكتملة”(1). خسر الأدب والفن خلال العقود السابقة الكثير مما كان متاحاً أمام الأدباء والفنانين إذ لم تكن الأرض بوراً ولم يكن العقم حالة مستحكمة، فأخذ السياسي الثقافي في اتجاهه، وإذا كانت السياسة قد جمدت نفسها على اتجاه واحد موحد وضربت حصاراً على فضاء الإبداع، كان المبدع الحقيقي يرى نفسه غريباً أو أنه لجأ إلى حالة من الانطواء وخرج من المشهد لصالح أصحاب الشعارات المدوية والنبرة العالية. وقد ساعد في انتشار هذه الحالة مع الأسف جيش من النقاد والمتسلقين على النقد الأدبي. وصار النقد لدى هؤلاء ذا معايير مدوزنة على مسطرة السياسي ملبية لعنجهيته واستكباره. بداية، لنقل أن للنقد موضوعاته وآلياته، كما أن للإبداع موضوعات وآليات ليس من الضروري أن يلتقي الناقد مع المبدع عند نقاط محددة من النص، ولو بصورة عابرة. كما أنه ليس من الحتمي أن ينتهيا عند نقطة نهاية واحدة. فلا يمنح المبدع الناقد الحق في أن يتدخل بالطريقة التي اختارها في التعبير، أو في اختيار الموضوع كيلا يقع في فخ النظرية والأفكار المسبقة والانشغال ب (ينبغي، ويجب...)، فيقيد نفسه ويختصر الفضاءات التي يشتغل ضمنها فيضيق حدود الانطلاقة والإشراق. الحدود بين النقد والعمل الأدبي أو الفني (أياً كان نوعه) دقيقة وذات حساسية مقلقة. كلاهما ينتميان إلى الإبداع. في الأول يتجه الفعل الإبداعي إلى اكتشاف النص ويعمل على اكتشاف ما فيه، لا ليطلق أحكاماً على النص، لأن الحكم، أي حكم، يقوم على معيار والمعيار حتى في العمل العلمي البحت مشوب بكثير من سوء الفهم وكثيراً ما يقود إلى ارتكاب الخطأ وفي بعض الأحيان قد يوهم صاحبه بصوابية سلوكه ودقة أدواته فيصل إلى الخطيئة، بحيث يصبح التصحيح متعذراً أو دونه عقبات كثيرة. فكم من أخطاء يرتكبها الحقوقيون في مجالات القضاء والاجتهاد. وكم من أحكام اكتشف خطأها، ولكن بعد فوات الأوان. وكذلك الحال في مجال الطب والبحث العلمي والخطط العسكرية والاجتهادات السياسية. فإذا كان الأمر كذلك في مجالات ليست لها حساسية الفن والأدب لعلاقة الآخرين بحالات نفسية وانفعالية... فكيف يكون الحال في مجالات لها علاقة بالذوق والشعور بالجمال؟ إذاً الأحكام المعيارية تقيد الإبداع وتقسر النص وتلوي عنقه. سواء كانت إيجابية بالنسبة لنص ما أم كانت سلبية. في الحالتين الإصغاء إلى ذلك يورط الكاتب والفنان ويوقعهما في الوهم، وهم الحكم النقدي. ومن شأن ذلك أن يدفع بالشاعر أو الروائي أو الرسام إلى نوع من النمطية التي تتنافى مع الفعل الإبداعي، حيث أن إحدى أهم خصائص الإبداع تتمثل في الانطلاق وتجاوز العادي والمألوف إلى عوالم مختلفة. قد يكشف الناقد عن مدلولات، أو أنه يؤول النص، وهذا مسوغ له وقد يحفزه النص لبناء نص عليه. بهذا تكون اكتشافاته دليلاً للمتلقي يفتح له الطريق إلى النص. وهي وظيفة هامة وضرورية يمارسها النقد، بخاصة في عصرنا هذا حيث تزدحم المكتبات بالعناوين الكثيرة، حتى لا يقع المتلقي في إسار العناوين الخادعة. كما أن المبدع لا بد له من الإنصات إلى بعض من أحكام تتعلق بالتعبير وأشكال من الغموض والإيهام، إضافة إلى ما يمكن أن يقدمه النقد الحصيف من تعزيز الإنجازات التي تحققت، مما يؤدي إلى تغذية راجعة تمد صاحب النص بأسباب تنشيطية. فالنقد بهذا المعنى، يبتعد عن تصيد الأخطاء ويتجه إلى مد العون للمبدع لا بالموعظة والإرشاد، وإنما بالتدعيم وكشف القدرات. لا بأن يحاول النقاد، كما لاحظ فرديناند الكييه، أن بعض النقاد مضوا إلى حدود الإدعاء بأن المبدع الحقيقي لم يكن هو المؤلف نفسه، الذي ينظر إليه وكأنه لم يفهم ما عناه، بل إنه الناقد هو الذي ينظر إليه، بعد الآن، وكأنه أعظم من المؤلف(2). في مثل هذه الحالة، يراد من المبدع أن يكون ناسخاً لما ادعاه الناقد من اكتشاف في عمله. فيصحب ذلك الناسخ الذي ميز أفلاطون بينه وبين الفنان، حين وصف الأول بأنه مقلد للطبيعة ينقل المحسوسات كما هي وبين الفنان الحقيقي الذي يومئ إلى الفكرة أو المثال فيما دعاه أفلاطون حقيقة الأشياء. على أن في هذه المقارنة المجزوءة فيما بين المبدع والناقد تصبح المحاكاة ليس للمحسوسات وإنما للأحكام التي يطلقها الناقد. بهذا يفقد الفعل الإبداعي إحدى خصائصه الهامة وهي الطلاقة. في السياق ذاته يشرح بول فاليري هذا الموقف بين الناقد والشاعر، مبيناً أن العقيدة لا تهدف بالضرورة إلى كشف معنى موجود قبلها ومستقل عنها في آن واحد، في تعليقه على مقدمة علق فيها (آلان) على ديوان الإغراءات للأول: إني أسمع أنهم يسألونني عما إذا كنت أتفق مع آلان حول المعنى الذي يحدده لشعري. وسيقولون لي: أيفهمك كما تفهم أنت نفسك؟ أو هل الشرح الذي قدمه هو الأقرب إلى تفكيرك؟ وهل نمّى أو وسع مقاصدك؟ وبدد كل ظلماتك كما كنت تتمنى أن تقوم به بنفسك؟ يضيف بأنه أجاب عن هذه الأسئلة قائلاً: لأشعاري المعنى الذي يهبونه لها. أما المعنى الذي أعطيته أنا لها فإنه لا يصح إلا لي. وليس مما يعارض به أحد. إنه لخطأ منافٍ لطبيعة الشعر، وربما كان قاتلاً أن ندعي أن لكل قصيدة معنى حقيقياً صحيحاً، واحداً وحيداً، ومطابقاً ومماثلاً لفكرة ما لدى الشاعر(3). في هذا السياق ذاته لا يختلف الشاعر مع العالم في مجالات الطبيعة، فحسب، ولكنه أيضاً يختلف عن الفيلسوف. فإذا كان الموضوع في الفلسفة يسمح للفيلسوف اتهام الآخرين بعدم فهمه أو سوئه، فإن ذلك لا ينطبق على الفنان أو الشاعر. فكما أن ليس من المطلوب من الشاعر الإصغاء إلى كل ما يقوله الناقد، كذلك ليس على الشاعر أو الفنان الطلب من الناقد أو المتلقي أن يفهما عمله كما أراد هو؛ وإلا فإنه يضيق لا فضاءه الإبداعي فحسب، وإنما يضيق على الآخرين فضاء فهمهم وتذوقهم للعمل. الشعر كما الفن التشكيلي معرضان باستمرار لسوء الفهم. فالقارئ أو المشاهد يريد من الشعر أو اللوحة التعبير عن معنى محدد. كأن يُطلب من الشاعر نقل حقيقة معروفة بلغة شعرية كما يحدث عند بعضهم في تحويل نص نثري إلى نص شعري، أو في نقل منظر طبيعي كما هو إلى صورة، وقد يتورط الفنان أو الشاعر بارتكاب خطأ يتعلق بيقينية القصيدة أو اللوحة أو القصة، وما إلى ذلك في مجالات إبداعية أخرى.