إن الخطاب المتطرف والنابع من ظروف موضوعية معينة قادر في ظل ذات الظروف على تعبئة الجماهير وتوجيهها الوجهة التي يريدها صناع هذا الخطاب ،وذلك لبساطة الخطاب من ناحية وشموليته التي تعطي الحل لكل شيء وأي شيء في أبسط صورة من ناحية أخرى. غير أن الخطاب المتطرف لايلبث أن يخفق إخفاقاً شديداً عندما يستطيع اقتناص السلطة نتيجة الظروف الموضوعية التي استطاع من خلالها تجييش الجماهير وتحريكها، فهو أي الخطاب المتطرف ، خطاب إثارة وليس خطاب إدارة : فهو يستطيع الوصول إلى السلطة بكل بساطة «نسبياً ، وفي ظل ظوف موضوعية معينة» ولكنه لايستطيع الاحتفاظ بهذه السلطة في نهاية المطاف لأنه غير قادر على التعامل معها ،حيث إن هنالك تناقضاً جوهرياً بين آليات وبُنى الخطاب المتطرف وبين آليات وبُنى السلطة كممارسة مؤسسة. فالسلطة «ممارسة ومؤسسة» تتعامل مع التعدد ،والخطاب المتطرف يسعى إلى التوحد والتفرد ، والسلطة تتوخى أو تحاول إدارة الواقع ، والخطاب المتطرف يتوخى «اليوتوبيا» ،ويحكم من خلال الأيديولوجيا والسلطة تحاول أن تقيم علاقات مع «الآخر» وفق أسس عملية ،والخطاب المتطرف يرفض «الآخر» وفق بنيته ذاتها ، نظرة واحدة إلى تاريخ الحركات والتيارات المتطرفة «المتعصبة» التي استطاعت الوصول إلى السلطة تكفي لإثبات الأطروحة السابقة. ماذا كانت نهاية النازية الهتلرية والستالينية الروسية والفاشية الايطالية والشعبوية الصدامية؟ وماذا سيكون مآل الخمينية الإيرانية وغيرها من أنظمة الحكم ذات الاتجاه التعصبي المتطرف الذي لا يعترف إلا بذاته ولايقول إلا بخطابه؟ أعتقد أن الإجابة واضحة لا لبس فيها ، إذ أن التاريخ ذاته هو الذي حسمها بل أن التفكك الأخير والانهيار السريع للاتحاد السوفيتي يرجع جزئياً إلى «التراث» الستاليني الذي شكل المجتمع السوفيتي وفق تركيبة حملت منذ البداية بذور فنائها في داخلها ، وماحدث كان لابد أن يحدث ،إن عاجلاً أو آجلاً. قد يقول قائل: ولكنك هنا تنظر إلى التاريخ من زاوية اختزالية معينة تمر على الأحداث مرور الكرام ،منتقياً منها ماتشاء وتاركاً ماتشاء ، أليست الهتلرية هي التي صعدت بألمانيا من قاع البطالة والتضخم والإفلاس عام 3391م إلى قمة الأزدهار الاقتصادي عام 6391م وما بعد ذلك؟ أليست الحقبة الستالينية هي التي صنعت روسيا خاصة ونقلتها من مصاف الدول الزراعية المتخلفة إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة ،من خلال سلسلة من الخطط الخمسية الجريئة؟ أليست الخمينية هي التي قضت على استبدادية الشاه ومن ثم التبعية الإيرانية للخارج؟ أليست الشعبوية القومية الصدامية هي التي جعلت العراق في مستوى تقني قادر على تصنيع القنبلة النووية وأسلحة معقدة أخرى ، من خلال خلق جيل من العلماء وأصحاب الخبرة؟ مثل هذه الاعتراضات واردة ويقف وراءها شيء من الحقيقة ،ولكن ليس كل الحقيقة «المعجزة» الهتلرية والستالينية مثلاً ، التي نقلت اقتصادات تلك الدول من حال إلى حال لم تكن ذات مضمون إنساني بقدر ما كانت موجهة نحو تحقيق مضمون الخطاب التعصبي المتطرف الذي قبض على السلطة ،فقد كان الثمن الإنساني لهذه التجارب باهظاً جداً ،كما أنه في خاتمة المطاف قاد كل البلد إلى الدمار والهلاك والسقوط نتيجة سيطرة أهداف الخطاب المتطرف على كافة الأهداف. فالاقتصاد الألماني مثلاً كان موجهاً خلال الحقبة الهتلرية إلى التصنيع العسكري والصناعات المساعدة لهذا التصنيع ،مما خلق رواجاً وازدهاراً عن طريق ايجاد فرص عمل من خلال هذه الصناعات ،ولكن هذا هو بيت القصيدة ،لم تكن هذ الصناعات معبرة عن تقدم إنساني بقدر ما كانت موجهة نحو تحقيق أهداف الايديولوجيا النازية من سيطرة عالمية ، ونفي ل«الآخر» الذي هو كل من لاينتمي إلى العرق الآري الجرماني الصافي ، لذلك كان لابد للتجربة النازية «على مسوى الخطاب ومن ثم الممارسة» أن تصطدم ب«الآخر» الذي هو ماعداها ، ومن ثم كانت الحرب وكان الانهيار. والتجربة الستالينية ليست بعيدة عن التجربة الهتلرية إذ أن بنية الخطاب واحدة مهما اختلفت مفردات الايديولوجيا فاستالين أراد بناء صناعة ثقيلة لا لأهداف إنسانية أو اجتماعية ، بل من أجل سيطرة الخطاب الماركسي الستاليني ،ومن ثم الدولة السوفياتية ،على المستوى العالمي دون اعتبار للسعر الإنساني والاجتماعي الباهظ الذي كان المجتمع نفسه يدفعه ، كل شيء في سبيل الخطاب وكل شيء في سبيل سلطة «السوفيات».. وكانت النتيجة بناء اجتماعياً إنسانياً ركيكاً لم يلبث أن انهار في خاتمة المطاف ،لأنه كان يسير في مسار واحد هو مسار الخطاب الواحد والرأي الواحد والسلطة الواحدة ،لقد انهار الاتحاد السوفياتي لأنه ،كما يقول أحد المفكرين ،كان عملاقاً منتفخ عضلات اليدين ولكن بساقين مشلولتين: وهذا هو مصير كل تجربة تخرج من عباءة التطرف والتعصب. أما التجربة الإيرانية الخارجة عن عباءة الخمينية فقد قضت على استبداد الشاه الفردي لتحل محله استبداد الفقيه وولاية الفقيه بل استبداد ثلة من «الأكليروس» الديني الذي لايتحدث بصفته إنساناً ، ولكن يعتبر نفسه ممثلاً لله ،وكلمة الله على الأرض ،بحيث أعطى الاستبداد في هذه الحالة طابعاً «مقدساً» أين منه استبداد الشاه «الدنيوي». هذا من ناحية الخطاب ،أما من ناحية الممارسة فإن الاتجاه الإيراني المعاصر للتسلح ونشر النفوذ خارج حدود الجمهورية الإسلامية الإيرانية النابع من القناعة الايديولوجية بالفرادة والحق المطلق ، ومن ثم نفي «الآخر» الذي هو كل ماعداهم سوف يصطدم بهذا «الآخر» عاجلاً أو آجلاً ،كما حدث في التجارب «التعصبية» الماضية .. بالإضافة إلى تبخر الأحلام في الداخل واكتشاف الجماهير أن الوعود الشعبوية السابقة لم تكن إلا وعوداً دون أساس هدفها الإثارة قبل العمل ،ومن ثم سوف يكون مآل هذه التجربة مآل التجارب السابقة. سيطرة أهداف الخطاب الايديولوجي المطلق «المتطرف» على مجريات الواقع الاجتماعي ودفعه أما إلى الصدام مع «الآخر» أو إلى تشوية ذات هذا الواقع الاجتماعي ودفعه إلى التفتت والانهيار ، كما حدث في التجربة السوفياتية التي بقيت أسيرة الستالينية فعلاً وواقعاً ، حتى بعد وفاة ستالين والإعلان الرسمي عن التخلي عن خطه وخطابه ، كيف يمكن تجنب التطرف والتعصب وانتشار الخطاب المتطرف ،بعدما عرفنا أن الخطاب المتطرف هذا يقود دوماً وأبداً إلى نتائج وعواقب وخيمة؟ لقد عرفنا أن التطرف والتعصب ظاهرة اجتماعية ذات جذور اجتماعية يمكن تحديدها ودراستها والوعي بها ،من خلال هذا الوعي الموضوعي لمثل هذه الظاهرة يمكن معالجة المجتمعات وبالتالي تجنيبها الكواث التي قد تنتظرها من جراء انتشار خطاب التطرف ومن ثم سيادته اجتماعياً وسياسياً ،وقد حاولنا في المقالة السابقة تحديد تلك الجذور الاجتماعية لمثل هذه الظاهرة والتي بدون معالجتها ،أي تلك الجذور موضوعياً ، والتعامل معها وفق وعي عملي معين فإن الظاهرة لابد أن تنتشر ، ولابد أن تسود ولابد أن تقود نفسها إلى الكارثة في نهاية المطاف. أما معالجة خطاب التطرف على المستوى النظري وحسب ، أي بطرح خطاب معتدل أو نحو ذلك ،فإن هذا لايفيد ، إذ أن المسألة أعمق وأبعد غوراً من كونها مجرد مسألة فكرية أو قضية خاضعة لمجرد النقاش ومن ثم الاقناع العقلي البحت ،هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن قمع الخطاب المتطرف وأصحابه أيضاً لايفيد ،إذ أن القمع يؤجج الفكرة ويرفعها إلى مستوى الاستشهاد والتضحية ،ويعطي الحركة أو التيار أو الجماعة زخماً ودافعاً. المطلوب إذن ، من أجل تجنب التطرف ونتائجه ،هو حل الإشكالات ، فإن الجدل النظري أو القمع السلطوي لن يؤديا إلا إلى مزيد من التطرف ومزيد من التعصب ،ومن ثم ايجاد البيئة المناسبة لدمار الدولة والمجتمع معاً.