عندما نتحدث عن التطرف فإننا لانعني ،كما قد يتبادر إلى الذن لأول وهلة ، التطرف الديني فقط ، ولكننا نتحدث عن كافة اشكال التطرف ، سواءً أكان تطرفاً يسارياً ، أم يمينياً ، دينياً أم دنيوياً ، فكما أن المنطقة العربية خاصة تمر هذه الأيام في موجة تشدد ديني ، فإنها قد مرت في فترات سابقة بفترة من المد «التطرف» القومي ، وبعض مناطق عربية قد مرت بفترات من التطرف اليساري والماركسوي خاصة ، كالعراق مثلاً ، في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات ، وعلى مستوى العالم فإن الصين قد عانت من التطرف الماركسوي ممثلاً في الثورة الثقافية في منتصف الستينات ، كما عانت الولاياتالمتحدة من التطرف اليميني ممثلاً في منتصف الستينات ،كما عانت الولاياتالمتحدة من التطرف اليميني ممثلاً في المكارثية أيام الخمسينات ناهيك عن التجارب الفاشية والنازية والستالينية «وهي تجارب قد مارست الحكم» في المانياوايطاليا واسبانيا والارجنتين والاتحاد السوفيتي ، مروراً بالتجارب المتعددة في العالم الثالث حتى وقتنا الراهن. والحركات التروتسكوية اليسارية أو النازية الجديدة اليمينية ، وكذلك الحركات التي تتسربل بسربال الدين وتطرح فكراً متطرفاً وايديولوجيا متطرفة «الإسلامويون ، الهندوسية السياسية ، منتظرو المسيح من اليهود ، والمسيحية السياسية ممثلة في حركة «الأغلبية الأخلاقية» ومن نحا نحوها من حركات» ،كل هذه الحركات على اختلاف أشكالها سواءً أكانت دينية أم تتخذ من الدين غطاء ، أو قوموية ، أو يسارية ، أو يمينية ، أو غير ذلك ، نقول : كل هذه الحركات والايديوجيات يمكن وضعها في سلة واحدة ،ألا وهي سلة التطرف والتعصب وسلطة الرأي الواحد. نقول ذلك لأن هنالك سمات وصفات مشتركة تجمع هذه الحركات لعل أبرزها : القول بحقيقة مطلقة والادعاء بامتلاك هذه الحقيقة باختلاف الحركات والتيارات ، رفض الآخر الذي لايتسق قولاً أو فعلاً مع القول أو الفعل الذي يعتقدون أنه الطريق الأوحد ، محاولة إنشاء مجتمع شمولي «توتاليتاري» ليس فيه مجال إلا لرأي واحد وفعل واحد وقول واحد ضمن مقياس واحد ، الشكية أو الريبة في كل شيء يقع خارج دائرة الجماعة الصغيرة التي تفصل نفسها عن دائرة الجماعة الأكبر ، ومن ثم الاعتقاد الواهم أن كل مايجري خارج دائرة تلك الجماعة الصغيرة إنما يشكل شبكة مؤامرة كبرى هدفها تلك الجماعة الخاصة وتلك الكينونة الضيقة. هذه هي أهم سمات حركات وتيارات التطرف بصفة عامة ،وهي كما نرى تقع في حالة من التناقض العنيف مع كل ماهو عقلاني وماهو رشيد ، لأن العقلانية والرشد يستوجبان علاقة وطيدة مع حركة الواقع المعاش ، ومرونة معينة ومواجهة متغيرات هذا الواقع من أجل ادراكها ، ومن ثم التعامل معها أما هذه التيارات والحركات فيبدو أنها في حالة من الطلاق البائن مع هذا الواقع ومحاولة الهرب منه إلى أي ملجأ مصطنع لاعلاقة له بانسياب ذات الحياة. مثل هذا الوضع ، أي حالة التطرف ، عبارة عن ظاهرة اجتماعية من المتوجب علينا فهمها وادراكها علمياً إذا كان المراد التعامل معها موضوعياً ،فهي أي حالة التطرف لا تأتي من خلاء ، ولاتنتهي دون معالجة الظروف الموضوعية أو الواقعية التي انتجتها. فالنازية الألمانية «القديمة والجديدة» يقف وراء انتصارها السابق «ولو أنه كان انتصاراً نسبياً وليس مطلقاً ، كما قدر يتصور» وانتشارها اللاحق ، عوامل اقتصادية في المقام الأول من بطالة وتدنٍ في المستوى المعيشي لفئة أو فئات اجتماعية معينة ولأجل ذلك فإنه ليس من المستغرب أن تكون النازية الجديدة» أكثر انتشاراً لدى الألمان «الشرقيين» منها لدى الغربيين ، حيث عوامل الانتشار المساعدة إنما تتركز في الشرق أكثر من الغرب. والفاشية الإيطالية كان يقف وراء انتصارها في عشرينات هذا القرن عوامل اقتصادية وسياسية متضافرة، فالبطالة والأزمة الاقتصادية الايطالية بالإضافة إلى الفوضى السياسية التي كانت تعاني منها ايطاليا ، تضافرت لتمنح الفرصة لانتصار فكر متطرف يعد بالحل «الشامل» لكل شيء وأي شيء. والثورة الثقافية الصينية مثلاً تقف وراءها عوامل ايديولوجية في المقام الأول ، وبذلك نعني أن الشيوعية الصينية «الماوية» حاولت أن توجد نوعاً من القطيعة «ليس بشكل كامل» الاجتماعية والثقافية مع الارث الكونفوشيوسي الصيني ومع الأثر البرجوازي «الثقافي والسياسي» الذي أخذ يتغلغل في المجتمع الصيني ، خاصة بعد ثورة 1911 وانتصار تجمع «الكومنتانغ». إذن قطيعة مع الارث الصيني والأثر البرجوازي ، حسب الفهم الماوي ، لاريب أنها سوف تترك قطاعات اجتماعية معينة «خاصة الشباب» في حالة من الخواء الفكري والفراغ الروحي ، فما هو الحل؟ وكانت «الثورة الثقافية» محاولة لتغطية هذا الفراغ عن طريق انشاء ايديولوجيا جديدة ، بل ومعتقد جديد قائم على أطروحات الكتاب الأحمر تشربه الشباب وحاولوا نشره ، بل فرضه على بقية قطاعات المجتمع. أما التطرف الهندوسي الذي قاد إلى هدم المسجد البابري ، رغم استمرار وجوده لأكثر من اربعمائة سنة ، فالظروف الاقتصادية القاسية التي تعيشها جمهرة الشعب الهندي ، وظروف المنافسة السياسية بين الأحزاب الهندية في مجتمع تقليدي يعيش نظاماً سياسياً حديثاً ، استغّلت من قبل بعض الطامحين إلى الزعامة السياسية والقيادة الكارزمية و«أدلجت» هذه الظروف في إطار ايديولوجي مقبول لدى معظم فئات الشعب ، ألا وهو الإطار الديني الهندوسي من أجل فاعلية هذا الإطار واستمراريته ، كان لابد من ايجاد عدو توجه إليه نيران وجدان الجماهير «وهذه من خواص الفكر المتطرف» عدو ملموس ويمكن تحقيق انتصار عليه لإبقاء جذوة الحماس مشتعلة ، وكان المسلمون هم العدو وكان الحادث.. وكان هدم المسجد.. على أي حال نحن لانحاول هنا دراسة حالات معينة بقدر ما نحاول ضرب الأمثلة التي يمكن الاستفادة منها والقياس عليها ، وإلا فإن المسألة تحتاج إلى دراسة أوسع وأشمل ، مانريد قوله هو: إن مسألة التطرف ، أو القراءة المتطرفة للنص والواقع ، ذات جذور اجتماعية معينة لابد من استيعابها قبل التعال مع هذه الظاهرة ، هذه الجذور تختلف من حالة إلى حالة ، ومن بلد إلى بلد ، وبالتالي لابد من معرفة «الجذر المؤسس» لتيار أو حركة متطرفة في هذه الحالة أو ذلك البلد ، للتعامل مع ظاهرة التطرف هنا أو هناك حسب الحالة وجذرها ، إن مجرد الجدل الفكري أو الايديولوجي مع الفكر المتطرف ، أو أي فكر في حقيقة الأمر لايجدي فتيلاً في انحسار هذا الفكر أو ذاك ، إذ أن المسألة ليست اقناعاً فكرياً أو إقامة حجة بقدر ما أن المسألة اجتماعية في المقام الأول ، وما الفكر أو الخطاب المطروح إلا قراءة معينة لهذه المسألة ، أي المسألة الاجتماعية ، من زاوية معينة تتحدد بالموقع الاجتماعي والسياسي ومن ثم الانتماء الثقافي للقارئ ، لو ناقشت نازياً أو جادلت ستالينياً أو حاورت هندوسياً ممن قاموا بهدم المسجد أو تحدثت مع «جهادي» مصري ، وأتيت بحجج الأرض والسماء ، لما اقتنع ولما تخلى عن تياره الفكري ، وذلك لأن المسألة كما قلنا ، مسألة اجتماعية سياسية في المقام الأول ليس الفكر إلا عامل تبرير لها ، وليس مجرد شوق فيلسوف إلى الحقيقة ، أو عطش مفكر مجرد و«إن كنت أشك في وجوده» إلى لذة المعرفة مثل هذا القول ينطبق على كل فكر وكل تيار بما في ذلك الفكر المتطرف. غير أن مايجعل الفكر المتطرف ذا أهمية خاصة وكذلك الحركات المنبثقة عنه ، ليس في كونه معبراً عن حركة اجتماعية معينة ومن ثم ظروف معينة ، إذ أن ذلك قاسم مشترك لدى كافة التيارات ، ولكن أهميته وأهمية محاولة ادراكه هي أنه فكر وتيار وحركة تميل إلى ممارسة «العنف» سواء في مرحلة المعارضة أم في مرحلة السلطة «هذا إن وصلت إلى السلطة». نعم إن العنف في التاريخ كان طريقاً لبناء دول وجماعات ، ولكن العنف بعد بناء الدولة أو الوصول إلى السلطة يتوقف أو يقيد بضوابط ونظم معينة هدفها ضبط حركة المجتمع ،أما في حالة الفكر المتطرف فإنه يستمر في ممارسة العنف حتى بعد الانتصار والوصول إلى السلطة ، وذلك ناشئ من سماته وصفاته ذاتها «الحقيقة المطلقة ، رفض الآخر ، والشمولية» مما يدفعنا إلى القول إن «العنف» وممارسة جزء من بنية الفكر المتطرف والخطاب المتطرف سواء كان هو داخل السلطة أم كان خارجها ، نظرة واحدة إلى المانيا هتلر وايطاليا موسوليني وروسيا ستالين وعراق صدام حسين ، وإيران الخميني توضح هذه النقطة إلى حدٍ بعيد المعنى أن العنف قد يكون أحد الخيارات السياسية لدى كافة الحركات والتيارات التي تتعامل مع السلطة في وقت من الأوقات لكنه، أي العنف جزء من خطاب وحركات التطرف وبنية من بناه ، العنف قد يكون وسيلة لدى الآخرين ، ولكنه غاية بذاته لدى جماعات التطرف وخطابها المعبر ، فالعدو يجب أن يكون موجوداً دائماً ، وإن لم يكن موجوداً فلابد من ايجاده ، ووجود العدو حقاً أو وهماً» يستلزم الصراع ومن ثم العنف. والفك أوالخطاب المتطرف بهذا المعنى مرفوض كل الرفض، ليس لأنه مجرد فكر أو خطاب ضمن أُخر، وليس لأنه يعبر عن قناعات معينة، وليس لأنه يعبر عن ركة اجتماعية معينة، إذ إن كل ذلك مقبول كل القبول، بل لأنه يريد من الآخرين الاعتراف به والتعامل معه، ولكنه حقيقة، وانطلاقاً من بنيته المؤسسة، يرفض الآخرين ولايعترف بهم، وإن صرح بغير ذلك لأسباب تكتيكية مرحلية، إذ أن سماته وصفاته«الآنفة الذكر» تفصح عن طبيعته، والبعرة - كما يقال تدل على البعير، كما أن العصا من العصية، وبالتالي لا حاجة للتصريح أو عدمه لدراسة خطاب ما ومن ثم تحليله والفكر أو الخطاب المتطرف مرفوض أيضاً لأنه عدو للحضارة وعدو للانسان لأنه يقوم على مسلمة رفض«الآخر» واستمرارية العداء، وكذلك الشمولية وفرض التجانس والتماثل وفي كل ذلك معاداة للاختلاف الطبيعي الذي خلقه خالق الكون ذاته ومعاداة لسننه في الكون والحياة[ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون] «النحل الاية93» [ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين] «البقرة الاية251» [الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز]«الحج الآية40». اذن الاختلاف طبيعة بشرية وهذه سنة من سنن الفاطر سبحانه وتعالى، ومن خلال الاختلاف والتعددية تنبثق الحضارة وتزدهر، والتاريخ الذي هو سجل سنن الله على هذه الأرض، خير شاهد وبرهان والحضارة وصناعتها هما هدف الخالق من خلق المخلوق، أليست هي الاستخلاف في الأرض عن طريق عمارتها؟ الفكر المتطرف يقف إذاً في حالة عداء مع الانسان ومع الحضارة، وفي الختام ينهش نفسه إن لم يجد ماينهشه ماهي الظروف الموضوعية التي تؤدي إلى نشوء الخطاب المتطرف والتيارات المتطرفة؟ هذا ما سنحاول الاجابة عنه.