وخاضت أوروبا حروباً أهلية اجتماعية مهلكة بين هذه التيارات والفرق، وكل فريق بما لديهم فرحون، وكان الاستقرار والأمان أبعد ما يكون، إذ إن الذي يتبوأ كرسي السلطان والسيادة من هذه الفرق يحاول نفي الآخرين وإزالتهم من الخارطة واسقاط ذاك الفريق من على كرسيه العتيد، وهكذا دواليك، قتل وقتال ودم وجماجم والنتيجة خراب ودمار في سبيل أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، ومرت السنون وكرت الأعوام والحال هو الحال والكره مستقر في الصدور، والأيدي على مقابض السيوف والشك ديدن التعامل وناموس العلاقة بين أفراد وجماعات المجتمع الواحد. في مثل هذا الجو، وفي مثل هذه البيئة الغارقة في الكره والشك والدم والتفكك الاجتماعي، وانتفاء الأمن والاستقرار،ظهرت العلمانية حركةَ وتياراً،وأخذت تكتسب الأنصار والمؤيدين مع مرور الزمن. لا لمجرد الاقتناع الفكري بمنطلقاتها الفلسفية، ولكن لأن الناس ذاتهم سئموا الدماء وانعدام الأمن والقتال الاجتماعي الدائم، ظهرت العلمانية وطرحت حلاً لهذا الصراع الديني بين الطوائف المسيحية المتقاتلة باسم الله واسم المسيح. وكان قوام هذا الحل هو الفصل بين أمور الدين وأمور الدنيا، فإذا كان الجميع يتقاتلون دينياً باسم دين واحد هو المسيحية، وباسم رب واحد هو المسيح، كل يدّعي أن الحق معه، وليس أحد منهم بقادر على إثبات ذلك بحجة تقبلها كل الأطراف ، دون ضغط أو إكراه ، فالحل أن يحتفظ كل فريق بقناعاته دون محاولة فرضها على الآخرين ، وأن يتعبد الله بالطريقة التي يراها مناسبة دون فرضها على الآخرين ودون فرض الآخرين شيئاً عليه، وأن يتعايش الجميع في إطار المجتمع الواحد، أما الشؤون المشتركة في أمور هذه الدنيا وشؤون هذه الحياة فيقررها الجميع دون استثناء، وذلك وفق قاعدة قرار الأغلبية وحق الأقلية التي أقرت لاحقاً كبند من بنود الديمقراطية المعاصرة، إذن فالدين لله »شيء خاص خالص« والوطن للجميع»قرار الأكثرية« ، وبذلك يتحقق الأمن والاستقرار وتحقن الدماء وتستل الأحقاد ووخزات الشك، هذا كان طرح التيار العلماني الناشئ بكل إيجاز،ونتيجة الظروف التاريخية الأوروبية التي تحدثنا عنها، انتشر هذا التيار انتشار النار في الهشيم، ،واسقطت أوروبا الكنيسة من حياتها العامة، وتحولت إلى العلمانية فلسفة ومذهباً في الحياة. لقد وضعت الكنيسة، بصفتها الوسيط الأوحد بين الله وخلقه كما تقول،من نفسها مالكاً أوحد لمفاتيح الحقيقة المطلقة التي لايمكن لها أن تزيد لأنها مطلقة ولايمكن لها أن تعارض لأنها قول الله وذلك حسب قول الأكليروس المفسر الأوحد والنهائي لهذا القول،والقادر وحده على فهم هذا القول واستنباط معانيه،كل المسائل محلولج ولها إجابة واحدة مطلقة ونهائية لا زيادة يمكن أن تطرأ عليها،ولا اعتراض يمكن أن تجابه به،سواء كانت هذه المسائل متعلقة بأمور الاجتماع أو السياسة والاقتصاد،أو كانت متعلقة بأمور الطبيعة على اختلاف فروعها وتشعباتها،من فلك أو بيولوجيا ونحوها،أو كانت متعلقة بأمور لاهوتية أو عقدية بحتة،فحقيقة الاجتماع هي أن الله،وفق تصور رجال الأكليروس،ومن ثم الثقافة المنشورة بواسطتهم،قد خلق المجتمع وفق التركيبة السائدة في وقتهم،ألا وهي التركيبة الاقطاعية والأكليروس نفسه فوق المجتمع وهكذا،فالاجتماع الإنساني ليس عملية إنسانية خاضعة لعوامل التبديل والتغيير،وبالتالي للفعل الإنساني الإيجابي،ولكنه بيان »معطى« وبالتالي فإن أي محاولة »للعبث« به من قبل الإنسان لابد وأن تعد من قبيل »الهرطقة« والخروج على الإرادة الإلهية كما يفسرونها ويرونها،أي رجال الأكليروس،وحدهم دون غيرهم،وحقيقة الكون والطبيعة واحدة وثابتة ومعطاة،ألا وهي مايقول رجال الأكليروس وماتقول الكنيسة في هذا الشأن بصفته حقيقة ثابتة مطلقة،فالأرض مثلاً ثابتة مسطحة،وهي مركز الكون،ولا مزيد أو نقص لذلك،لقد انتقت الكنيسة في هذا الشأن بعض مقولات لبعض من فلاسفة الإغريق »الوثنيين« وأدمجتها في كيان المسيحية بصفتها كلمة الرب،فأخذت شيئاً من أرسطو،وشيئاً من إقليدس،وشيئاً من بطليموس مثلاً لتقيم »دوغما« معينة في هذا المسائل،غير قابلة للنقاش وبالتالي النقض،ومن يفعل ذلك يكن عرضة للطرد من الكنيسة وبالتالي الحرمان من ملكوت السماء الذي هو بيد الكنيسة وأكليروسها. وحقيقة الله والذات الإلهية ماقاله أساساً بولس الرسول في هذا الشأن حول الطبيعة الناسوتية للإله والطبيعة الإلهية لابن الإنسان،وما يربطها من روح قدس بحيث الثلاثة في واحد والواحد ثلاثة،ومن يقل بغير ذلك أو يتطرق إليه مجرد الشك في هذه المسألة يعتبر فعله هذا نوعاً من الخروج على الملة والكفر البواح،وبالتالي فإن دمه مباح مهدور وحياته تنتفي قدسيتها التي يحددها رجال الأكليروس أنفسهم. إذاً فكل المسائل محلولة،وكل شيء معروف ولا جديد تحت الشمس، فإذا أراد أحد أن يعرف جواب أي مسألة،سواء تعلقت هذه المسألة بالإنسان أو بالطبيعة،بالكون أو بالإله،بالتاريخ أو بالجغرافيا،بالفلسفة أو بالعالم،فما عليه إلا الذهاب إلى الكنيسة أو أحد رجالها،فيجد هناك الجواب الكامل والقاطع الذي لايعتريه نقص ولاشك،والحقيقة أن هذه الفروع من المعرفة التي نتحدث عنها لم تكن ذات وجود آنذاك،بل كان كل الموجود معرفة واحدة تدمج الإنسان بالطبيعة بالإله،وكل ذلك بالطبع وفق الفهم الكنيسي والتفسير الأكليروسي الشامل والأوحد. لأجل ذلك كانت الحياة الثقافية الأوروبية في تلك العصور عبارة عن بركة من ماء آسن، لاحياة فيها ولاجديد،اليوم فيها مثل الأمس،وسيكون مثل الغد إذ توقف الزمان في مثل هذه الحال،الشيء الوحيد الجديد في مثل هذا الجو الثقافي،وهو ليس جديداً حقيقة الأمر،هو تلك التي أطلقوا عليها اسم »الفلسفة المدرسية« أو السكولاتية، والتي تقوم على أساس القياس المنطقي لتوليد الجديد الذي هو ليس بجديد كما قلنا سابقاً، فالقياس المنطقي عملية عقلية تقوم على أساس الانطلاق من مقدمات معينة لايتطرق إليها الشك،أو لايجوز أن يتطرق إليها الشك،للوصول إلى نتائج معينة تؤيد هذا الرأي أو ذاك،وذلك المذهب أو هذا الذي هو لايخرج في نهاية المطاف عن ذات المقدمات التي انطلق منها القياس ذاته، وبالتالي فإن الجديد الذي يخرج به مثل هذا القياس هو،في حقيقة الأمر، ليس بجديد،والمسألة لاتعدو أن تكون اجتراراً،فمثلاً، إذا كانت المقدمة التي لايتطرق إليها الشك، أو يفترض ألا يتطرق إليها الشك،تقول إن الأرض ثابتة ومسطحة،فيكون النقاض المعتمد على القياس المنطقي هو التالي:هل إذا سار شخص إلى حافة الأرض يسقط أم لا؟ لا ريب أنه يسقط ،ولكن يسقط إلى أين؟ هنا تبدأ التأملات الذاتية حول إجابة مثل هذا السؤال، ولنفرض أن إنساناً سار إلى حافة الأرض، وبشكل ماتجنب السقوط وحاول الوصول إلى قاع الأرض، فهل يستطيع؟ لاريب أنه لن يستطيع لأنه لا محالة ساقط حتى لو وصل إلى القاع،لنفرض أنه استطاع الوصول إلى القاع والثبات عليه بشكل أو بآخر،فماذا سيجد هناك؟هنا أيضاً تبدأ التأملات والإضافات» الجديدة« ومن ثم تكون الآراء والمذاهب في هذه المسألة،بطبيعة الحال فإن المسائل والقضايا التي كان يتطرق إليها أرباب الفلسفة المدرسية أكثر عمقاً وأبعد غوراً من المثل الذي ضربناه وذلك من الناحية الشكلية فقط، أما جوهر الموضوع ومضمونه فيبقى واحداً لايتغير: مجموعة من المقدمات التي لايتطرق إليها الشك، ولايفترض ذلك، تقام على أساسها معرفة جزئية لاتخرج عن هذه المقدمات التي يمتلك مفاتيحها ومغاليق غيبها رجال الدين من أتباع الكنيسة. ولو رجعت إلى المناقشات والصراعات الفكرية لتلك الفترة لوجدت المجلدات التي تملأ الأرفف حول مختلف القضايا و»الهموم« ولكنك حقيقة لاتجد شيئاً خارج حفنة من مقدمات أنهار معظمها تحت معاول العصور الحديثة. وجاء عصر النهضة، المقدمة التاريخية للعصور الحديثة، وما تلاه بعد ذلك من عصور تحول تاريخي واجتماعي، وحرك بركة الماء الآسن تلك، لقد كان عصر النهضة مقدمة لطرح تساؤلات حول مدى صحة المقدمات التي كانت تقوم عليها العصور الوسطى وتقول بها من خلال مؤسستها الثقافية الوحيدة، ألا وهي الكنيسة، وقد بدأ عصر النهضة بالأدب فكانت »الحركة الإنسانية« التي في سبيل الرفع من شأن الفرد والفردية المسحوقة تحت ثقل الاقطاع والكنيسة، اتجهت إلى الآداب »الوثنية« الإغريقية والرومانية تنهل منها وتتخذ منها نموذجاً هو في جوهره احتجاج ورفض للنموذج المسيطر، فكان بترارك ودانتي وغيرهما، وأخذت الفلسفة تبتعد عن الشكل المدرسي محاولة إقامة جسر معرفي بين الله والطبيعة المحسوسة، بعيداً عن مقدمات المدرسين وفرضيات الأكليروس، وذلك كمقدمة أولى لظهور العلوم الطبيعية والتحولات التاريخية في الاجتماع والمعرفة، فكان جيوردانو برونو وبوهمه ومونتاني وغيرهم، وقاد كل ذلك إلى البدايات الأولى للعلوم الطبيعية التجريبية، تلك العلوم التي حاولت فرض منهج مختلف في النظر إلى الأشياء من حولنا، منهج يحاول معرفة الأشياء كما هي لاكما تفرضها مقدمات معينة، فكان كوبرنيكس وكبلر وجاليليو، لقد هزت هذه التطورات العقلية الثقافة السائدة بمثل ماهزت الكشوف الجغرافية والتحولات التاريخية بنية المجتمعات السائدة، وهذا ليس طبيعة بحثنا في هذه المقالة العجلى. لقد كان أولئك الرواد في الأدب والفلسفة والعلم من المؤمنين المخلصين و»المسيحيين الطيبين« ولكن ذلك لم يكن رأي الكنيسة المتحدثة باسم الله، إذ رأت في كل ذلك مروقاً على سلطتها، وبالتالي سلطة الله، واهتزازاً لقواعد سيطرتها الاجتماعية، ومن ثم الفكرية والعقلية والثقافية. فلاحقت الرواد حيث أحرقت البعض وسجنت البعض، و»حرمت« البعض من ملكوت السماء، وحاكمت البعض فارضة عليهم الإقرار بالخطأ والتوبة عن ذلك الخطأ الذي نعلم تمام العلم اليوم أنه لم يكن خطأ ولم يكن خطلاً، رأت الكنيسة في آراء أولئك الرواد خروجاً على الحقيقة المطلقة »المقدسة« كما تفسرها وتقهمها الكنيسة، وكأن هذه الحقيقة هي فعلاً من عند الله، وليست تجميعاً كمياً وكيفياً لآراء مجرد أشخاص مثل أرسطو وإقليدس وبطليموس، عن طريق مجرد أشخاص مثل هيلز وسكوتس وأكويناس منحوا هالة من القداسة والعصمة، رغم أنهم في خاتمة المطاف ليسوا إلا بشراً مثل كل البشر، لقد حاكمت الكنيسة جاليليو لمناصرته آراء كوبرنيكس في الفلك والقول إن الأرض مجرد جرم سماوي يدور وليس ثابتاً كما تقول فرضيات و»مقدمات« الكنيسة المقدسة والمطلقة، واضطرته إلى »الاعتراف« بالخطأ والتوبة عن ذلك الخطأ الذي لم يعتقده جاليليو فعلاً. وكلنا يعرف تلك القصة التي تقول إنه وأثناء خروج جاليليو من محاكمته تلك سُمع وهو يتمتم: »ومع ذلك فإنها تدور«، لقد مات جاليليو ومات من حاكمه من رجال الدين في الكنيسة، ولكننا نعرف اليوم جيداً اسم جاليليو ولكننا لانعرف اسم أحد من محاكميه: لقد طواهم النسيان وسجل اسم جاليليو في سجل الخلود، لأنه قال الحقيقة في زمن يكره الحقيقة، هكذا تقول الأيام. واستمرت الكنيسة على عنادها، بل أخذتها العزة بالإثم، وأخذت تقاتل هنا وهناك..وتقاتل ماذا؟ لقد كانت تقاتل الحقائق التي وإن كانت نسبية إلا أنها واضحة وجلية ومفيدة في ذات الوقت، فكان لابد أن تخسر المعركة لأنها لم تستوعب حقائق العصر ولا متغيرات الدهر ولم تدرك معنى التغيير في الإنسان والطبيعة، لقد رأى الناس في أوروبا، وعلى مدى الأيام والسنين، كيف أن ماتقول به الكنيسة لايعبر عن حقائق الحياة ومجريات الأمور فكان أن انهارات مصداقيتها، بالاضافة إلى الأسباب التي ذكرناها في السابق وأسباب أخرى، وأصبح الريب في شأنها حالاً محل التصديق مما أدى في نهاية المطاف إلى عزلها عن مجرى الحياة العام لعدم تكيفها وتواؤمها مع هذا المجرى، وتحولها إلى مجرد شأن خاص وشخصي لاأثر له ولا طابع في حياة المجتمعات الأوروبية، وقبلت الكنيسة هذا الوضع في خاتمة المطاف كرهاً لا طوعاً، عندما تجاوزتها الحياة وأهملها التاريخ ولفظها الإنسان الذي أراد الله له الكرامة فعلاً، وأرادت له الكنيسة السحق والهوان، باسم الله ذاته الذي هو براء من كل ذلك.