المكلا..هواء طلق ينعش الأبدان، وبحر شديد البرودة يزيل الأسقام، ورائحة عطرية تدغدغ الحواس، ونهارات لؤلؤية تراقص الأشجان، وليال داجية تتنفس من خلال قمرها وأنجمها الهمسات الشاعرية. للغيوم مواويل فريدة تحت سقف سماء المكلا وللعصافير والنوارس أناشيد وأغان بحرية وللرقصات الشعبية على شفايف الشواطئ ذوق رفيع.. كانت الشابورة المائية تسبح في الرؤية الضئيلة وأزيز الموج يمخر العباب، فرحة بمهرجان البلدة السياحي، وأقدام المارة الفرائحية تلتف حول الخور ويرقص الأثير ودمدمات الريح تداعب غصون الجبال مولدة من خلالها سنوات الطفولة التي عاشتها الأمكنة الأخرى، ولواعج الحب المذاب على مصطبات الأزمان النرجسية الرائعة، ويتوهج الأفق. البحر المتناسل قطار العمر يركض بسرعة جنونية قاذفاً وراءه الذكريات المرة والحلوة، ويبقى احتضاني للمكلا زهرة عباد شمس لاتذبل وتطل الشرفة على الخور الراكد كالأفكار الآسنة وتتطارد النسائم العليلة دائسة على الحمالين والإسكافيين والملامح الناعمة، فيما تتزاحم المنازل الشاهقة دنيا من الحجر، ويصر مرافقي أحمد عبدالله الهقل مسئول البرامج الانتخابية في جمعية النشء الحديث على اصطحابي إلى البحر، وتتصاعد النغمات الكلثومية..هذه ليلتي وحلم حياتي بين ماضٍ من الزمان وآتي..وأقدامنا تتقدم نحو اليم المضطرب الهائج وترفرف أعلام النشوة المعربدة فيما يخيم الصمت إلا من صراع الموج العنيف الذي لايرقى صراع البشر..كانت هاتيك اللحظات هي لحظات تزاوج البحر وتناسله ومخاضاته المزلزلة ويشمخ في السماء قمر هزيل على ملامحه كآبة، محاولاً شرب سحنته المتكسرة ويواصل البحر قضم الشواطئ بشراهة لانهائية غير مبالٍ بالوجوه والمرايا المتكسرة على صفحته الثائرة. الريف الحضرمي الجميل البثور العميقة تتناثر على بدن المكلا وبقايا الخراب الذي خلفته السيول الجارفة قبل زمن قصير لم تبرح أمكنتها..جسور هشة كضمائر المقاولين على بوابة المدينة، ومخلفات عملاقة تجثم قلبها، وقوافل غبار تعمي الفضاء كلما هب ريح هزيل، وعيون قلقة ترقب بنفاد صبر هزات القضاء والقدر وتتزاحم الأزقة المتربة، والفنادق التي فاق عددها المنازل فيما يطل حصن الغويزي من بعيد شامخاً بمهابة ناثراً تأريخه العتيق كالطاووس وينتصب ميزان الوقت بين ماضٍ جمّله الفن والإبداع، وحاضر أثقلت جيوبه الحجارة وتتبدى مناطق فوه وخلف والديس والخور كالدمى فيما تسافر الأشجار إلى حيث يقطن الريف بشاعريته وهواجسه وشفافيته وعذوبته ورقته ودعاباته وبساطته ومرحه وفوانيسه وأساطيره وكرمه وسعادته وألعابه الطريفة ولياليه ونهاراته. البلدة السياحية تنفس الفجر فتنفست الحياة في أعماقنا وتبدت أسفاح الشرفة حول الخور خيام سوداء كثيفة..كانت تلك نساء يحثثن خطواتهن صوب البحر وتزاحم الرفاق لمعاينة هذا المشهد العجيب، فيما ظل التساؤل يسكن رؤوس الجميع وأجابنا عند الضحى المحامي محمد سالم بأن الجميع مستعدون لمهرجان البلدة السياحي الموشك على البدء وأن ذلك الحشد لم يكن سوى لناس ونساء بكروا للتداوي بالموسم من الرومايتزم والصدر وآلام المفاصل والآلام الجلدية وعلل أخرى لاعد لها ولا حصر.. واستطرد في سياق حديثه بالقول: إن البحر بدأ يبرد كثيراً وأن ذلك بفعل ذوبان الجليد في الأقطاب الأرضية المتجمدة، وأن برودة البحر تمتد من ساحل المكلا حتى ساحل بروم .. وقاطعته لماذا لايصل إلى ميناء بئر علي.. رد بالقول أن معجزات الله لاتعد ولاتحصى واختتم حديثه بالقول أن الفنادق تكتظ بالزوار في البلدة السياحية ويعج البحر بالبشر من شتى أنحاء بلادنا ومن بلدان العالم لغرض التداوي. الموج الأزرق يحملنا المرح على بساطه الناعم، ويحتوينا مركز بلفقيه الثقافي الذي يديره الشاب الدمث الأخلاق خالد باعيسى وتفتح النافذة ذراعيها إلى البحر فيما يبدأ الأخ صالح جبل من جمعية الأخاء والسلم الأهلي محاضرته عن الانتخابات مع الحاضرين من مختلف الأحزاب والتنظيمات السياسية يساعده الأخ ناجي الصمي في إثارة الحلقة النقاشية ويتكهرب الكون الصغير برائحة الماء، ويتسرب الوقت ليأتي المساء بحلقته النقاشية التي أدارها أحمد الهقل ونبيل مصارح عن النظم الانتخابية والكوتا النسائية وتنزلق غلالة الغروب وذلك الغروب الملبد بضباب من أسى شفيف وعلى دفة الذاتية كنا مع البحر وجهاً لوجه على مصطبة ساحة العروض المعجة بالعشاق والمتسولين والبائعين المتجولين والسارقين من الليل محتوياته الثمينة والزائرين والفوضويين واللاهين والمتسكعين والزائرين والمخزنين، وناجى كل واحدٍ منا البحر بطريقته الخاصة غير أني تماهيتُ بلذة في أوتار الماء. شموس لاتنطفئ تنطفئ شمس وتشتعل أخرى كسيجار رخيص وتبقى شمس الوحدة المباركة وشمس السابع من يوليو نجمين سرمديين عملاقين لاينطفئان أبداً، وإن حاول الفاقدون مصالحهم النفخ بأفواههم القذرة لإطفائها ذلك لأن اليمن موحد بأرضه وإنسانه ودينه منذ ولادة الزمن، ويبقى الإنسان الحضرمي الأصيل كما يقول الأخ نبيل حمود أحمد سعيد مدير فرع مؤسسة الجمهورية بمحافظة حضرموت مخلصاً لوطنه على مدار الوقت، ويضيف مؤكداً في سياق حديثه أنه لامس في الجميع طيبتهم واخلاصهم ووفاءهم وأنهم أصل التأريخ ومنبع الحضارة، وسادة التراث والموروث الشعبي وفرسان الفن، يمتلكون ذائقة فنية حساسة ومرهفة لاترتقي إليها الأذواق الأخرى، وتأزف اللحظات المشنوقة على تباريح الشوق رغم إصرار الجميع على البقاء لمدينة لم تكتشف كنوزها بعد ومنهم الزميل خليل السفياني المتحضرم الملامح الذي يشرب كل يوم ملامح المدينة متماهياً في فتنتها وجنونها وعربدتها وسهرها.. وقبل الوداع كان لابد من مصافحة البحر بالاسترخاء على أطراف أمواجه المنهزمة المنحسرة.