(1 ) الامطار تهطل ، ورجل نحيف أشيب يجلس بمحاذاة الباب الخارجي للمسجد الكائن في أطراف المدينة ، يسترق النظر الى السماء والسمع لأزيز العاصفة ، فتحيي في مخيلته ذكريات صباه ، واللعب تحت وقع المطر مع رفاقه الصغار ، ووالده الذي رآه ذات مرة فزمجر وتوعده بالضرب ، فهرب خائفاً الى المنزل ، واحتمى بوالدته من طوفان الغضب الآتي إليه ،ازداد هطول المطر ، فتأمل حباته ، واشتداد زخاته ، أسند رأسه الى الجدار ، ابتسم وهو يتذكر من جديد والده ، والتعب الذي أصابه من كثرة الصراخ ، وكلماته لوالدته .. أنت تفسدين أخلاقه ، وردها عليه مالنا غيره ، صغير ومايفهم. (2 ) برق ورعد وبرد . يجمد العظام النخرة ، فيتكور على ذاته ، يلامس صدره ركبتيه ، ويتغامز الأطفال في شأنه ، يجرون من أمامه وحوله ، ويتجرأ بعضهم فيدوس على أطراف قدمه ، يتأوه من شدة الألم مع ابتسامة تشرق في وجهه ، يدعو لهم بالهداية واللعب خارج أسوار المسجد ، لكن الأطفال لم يبالوا لرجائه ولم يتركوه في حاله إلا عندما رأى أحدهم هراً صغيراً ، زائغ العينين ، يبحث عن مكان يحميه من هطول المطر ، فصاح في رفاقه يناديهم وهو يجري نحوه ، وقف الهر في مكانه ، يحدق في الطفل ، وصل بقية الصبية ، التقط أحدهم حجراً ، كشر الهر عن أسنانه ، قبل أن يمتزج دمه مع ماء المطر ، سقط يحمي صغيره ، ركله الصبي بقدمه ، طار في الهواء ثم وقع يتزحلق على الأرض قبل أن ينهض ويجري من جديد إلى وليده ، يحاول احتواءه ، لكن الصغار وقفوا أمامه ولم يتخلص منهم إلا عندما خرج رجل من المسجد ، صرخ فيهم ، تفرقوا هاربين ، أكمل وهو يتجه الى الهر ... جيل فاسد لا يرحم. (3 ) لا مطر . لا برق . لا رعد . لا برد . لا بشر . هدوء تام . مميت . ممل . لم ينقذه منه إلا المنسلون من داخل المسجد ، فيشكر من يجزيه العطاء ، ويدعو لمن يتحدث معه . فجأة ، انتفض مقطب الجبين حينما خرج من داخل المسجد شاب حسن المظهر ، وقف أمامه يخرج نقوداً من جيبه ، وفي اللحظة التي قدمها إليه وتلاقت عيناهما سويا في اللحظة ذاتها ، تسمر الفتى في مكانه ، تحجرت أنفاسه ، أما هو فلم يبادله الإحساس ذاته ، أخذ نقوده من على الأرض وقذفها في وجه ابنه.