كلنا يعيش أيام العيد في فرحة و بهجة و سرور و حبور .. ذلك لأنها أيام يسودها الصفاء و النقاء و المحبة و الإخاء .. أيام تصفو فيها النفوس و ينجلي العبوس و يطيب فيها الجلوس مع كل الأهل و الأحباب و الجيران و الأصحاب . تعود علينا هذه الأيام كل عام لتجدد عندنا الفرحة و تبعث البهجة و تنسينا بعض الأتعاب و الأوصاب التي تلازمنا طيلة فترة حياتنا .. العيد محطة جميلة يأخذ الإنسان فيها قسطا من الراحة مع كل بني جنسه من أهل الإسلام في مشارق الأرض و مغاربها بعد أن قضوا أياما كلها نفحات و بركات و رحمات .. أيام شهر فضيل يحزن المؤمنون لفراقه . فيجدون في هذا العيد السلوة لينسوا معها الكرب و البلوة .. و يعطى الأجير أجره و يوفي الله الصائمين أجرهم و هو أكرم الأكرمين.. سيئون العيد غدا: في وادي حضرموت من يمن الإيمان و الحكمة تبدأ تباشير عيد الفطر منذ الليالي الأخيرة من شهر الصوم فينظم المرء وقته بين اغتنام العشر الأواخر التي بها ليلة القدر و ما أدراك ماليلة القدر و متطلبات العيد من ملابس و فرش وبخور و حلويات و ما إلى ذلك من متطلبات البيت في العيد . فبعد صلاة القيام ( التراويح ) تستقبل المحلات التجارية و الأسواق الوافدين إليها من ( الرجال ) لشراء حاجيات الأسرة و متطلباتها مصطحبين بعض الأبناء و البنات الصغيرات لاختيار المناسب من الثياب فلكل واحد مقاسه الخاص . فتعلو البهجة كل الوجوه من الباعة و زبائنهم فهذا يزيد في السعر و الآخر يحاول أن يوفر بعض النقود لأن وراءه متطلبات ثانية و ثالثة فالقائمة لازالت بيده يتطلع فيها بين الحين و الآخر : ما ذا بقي بعد ! و بعد أن يتم و نقضي هذا المشوار المكلف ( ماديا ) يجد رب الأسرة متنفسا كبيرا للخلود للراحة و التفرغ فيما بقي من أيام الشهر الكريم لقيام ليلة القدر و ربما الاعتكاف في المسجد لبضع ليالٍ .. و ما أن يلبث هاديا قليلا حتى يأتي صارخا جديدا .. أين كبش العيد .. هل لحم العيد جاهز؟ فيهرول مسرعا نحو أحد الجزارين ليبتاع منه كبشا سمينا بحجم أفراد الأسرة . و من لم يستطع فلا يجد بأسا من أن يشتري بعض الأرطال و لو ليوم واحد .. إلا أن أهل الخير و الإحسان لا يغفلون أقاربهم و جيرانهم فيبعثون إليهم بما تيسر من لحم العيد ليعيش الفرحة كاملة مع أن العيد في المثل الحضرمي الشهير ( العيد .. عيد العافية ). و تأتي ليلة العيد فترى الناس في الشوارع يسرعون الخطى يوزعون زكاة الفطر التي يبقى الصوم معلقا بإخراجها كما جاء عن الحبيب صلى الله عليه و سلم و من عادة الناس في وادي حضرموت أن يوزع كل امرئ زكاة فطره بنفسه على المحتاجين من أرحامه وأبناء حيه .. و بعد أن ينتهي من هذه المهمة التعبدية يأخذ قسطا من الراحة . بعدها بتوجه الكثير من الصائمين إلى بيوت الله عز وجل لإحياء ليلة العيد ( عيد الفطر ) بالعبادة و الذكر و التكبير ، ففي بيوت الله العامرة تقام الشعائر التعبدية بين صلاة و قراءة للقرآن أو كتب التفسير أو غير ذلك مما يعين المسلم على توديع شهر البركات بالطاعة و العبادة و الحسرة على لياليه التي انقضت سريعا دون أن يستغلها الواحد منا بشكلها الأمثل .. و من يدري لعلنا لا ندرك رمضان القادم ! نسأل الله الغفران . تستمر هذه الجلسة حتى أذان الفجر فيؤذن المؤذن و يركع الحاضرون ركعتي قبلية الفجر و يأتي من لم يكن من أهل المسجد ، و يصلي الجميع صلاة فجر أول أيام عيد الفطر المبارك ، في خشوع و خضوع و خشية و رهبة ملؤها الحزن على فراق خير الشهور و ربما ذرفت بعض العيون الدموع و خنقت العبرات بعض المصلين ترى ذلك جليا عقب الصلاة حينما يمر ناظر المسجد بالتمر على صفوف المصلين ليتناولوا حبة أو حبتين معلنين بذلك انتهاء أيام شهر رمضان المبارك من هذا العام سائلين المولى جل و علا القبول و الغفران و العتق من النيران . و أن يعيد الشهر سنينا عديدة و أعواما مديدة على ما يحب و يرضى ذو الجلال و الإكرام . يوم الزينة بعد صلاة الفجر يتوجه كل امرئ إلى بيته ليستعد لصلاة العيد فيغتسل ثم يهذب ما على وجهه من الشعر ، و يأخذ ملابسه الجديدة ليحمد الله تعالى الذي رزقه ذلك و كساه من غير حول منه و لا قوة .. و يأخذ من طيبه أو طيب أهله ، و تشعل زوجته الطيبة المبخرة لتبخره و ثيابه فتنتشر الروائح الزكية في أرجاء البيت الذي دبت فيه الحركة منذ ساعات النهار الأولى فالكبار و الصغار و البنين و البنات كل في فلك يسبحون .. و تأتي ساعة الانطلاقة نحو المصلى ( أو المسجد الجامع ) فقد حددها الإمام في آخر جمعة من رمضان فيتجمع أفراد الأسرة و ربما الحي يتقدمهم الأكبر سنا ثم الذي ليله و هكذا ثم يشرع الكل في التكبير ( الله أكبر الله أكبر الله اكبر .. لا إله إلا الله ، الله أكبر و لله الحمد .. الله أكبركبيرا و الحمد لله كثيرا و سبحان الله بكرة و أصيلا .. لا إله إلا الله و لا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين و لو كره الكافرون .. لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، و نصر عبده و أعز جنده و هزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله ، الله أكبر و لله الحمد ) ثم يلتحقون بمن في المسجد و يكررون معهم التكبير حتى يأتي الإمام فيسوي الصفوف و تقام صلاة العيد .. ثم الخطبتان بعدهما ينفض الاجتماع المبارك . فيتصافح المصلون و يتعانق المحبون و يهنئ كل واحد منهم أخاه المسلم ( تقبل الله منا و منكم .. من العايدين .. عيد مبارك ) و يجيب الآخر عسى العيادة في زيادة . و ربما تكونت الصفوف بصورة تلقائية لتنتظم عملية التهنئة بالعيد و تعم الفرحة و تعلو الوجوه البهجة .. و يلهو الصغار في الخارج بألعابهم ( النارية ) فتسمع الأصوات و الفرقعات بأشكال مختلفة .. و مما يميز بعض مناطق وادي حضرموت أنه و بعد انتهاء الصلاة ثم التهنئة بالعيد داخل المسجد يتوجه بعض الناس إلى المقابر لزيارة القبور حيث أهاليهم و أقاربهم الذين كانوا معهم في سنوات ماضية فيتذكرون كيف كانوا معهم و أين هم الآن ! و عما قريب سيصبح الواحد ( منا ) مكانهم و هذه سنة الكون . و تقرأ الفاتحة على روح كل واحد منهم ثم يعودون جماعات و وحدانا إلى بيوتهم المتقاربة فيزور القريب قريبه و الجار جاره ، و توصل الأرحام في هذا اليوم أكثر من غيره و تقدم في هذه الزيارات وجبات الإفطار النوعية فهنا الكيك و العصير و الحلويات و البسكويت و الشاي الحضرمي في فناجينه الأنيقة و المكسرات و المعمرات حتى أن الواحد يصاب بالحيرة فيما يتناول و ما يترك حتى تمتلئ البطون و يصبح الفرد متخما . و كان من عادة أهل حضرموت أن تقدم وجبة الغداء في هذا اليوم إلى قبل صلاة الظهر وهذا مميز آخر ليوم العيد فعادة الناس أن يتناولوا وجبة غدائهم قبل العصر في أيامهم العادية و قد نسوا ذلك التقليد طيلة أيام الشهر الفضيل فكانوا على عجلة من أمرهم فقدموها اشتياقا لها !! غداء العيد إن وجبة الغداء المعتادة في بيوت وادي حضرموت يوم العيد هي الرز مع اللحم كعنصرين أساسيين يضاف إليها مالذ وطاب من المحمر و المشمر و الكشننات و المقبلات و المشهيات و المخللات و هذا يعتمد على همة ربة البيت و تفننها في إعداد الوجبات ففي يوم العيد تحاول المرأة أن تجتهد في بيتها لتبرزه بالمظهر البديع ( فاليوم عيد ) و العيد تعني كل جديد و فريد . فتضع البرنامج الخاص بهذا اليوم منذ ساعاته الأولى فبعد أن غادر أولادها وزوجها البيت لصلاة العيد تأخذ مع من معها في البيت من بناتها و زوجات الأبناء و غيرهن في ترتيب الأولويات غرفة الضيوف، وجبة إفطارهم، البخور، حلويات الصغار، الاستعداد لزيارة الأرحام من أولاد الإخوة و الأعمام و الأخوال.. كل ذلك يجب أن يكون جاهزا و بشكل لافت ناهيك عن وجبة الغداء الدسمة قبل أذان الظهر .. و لا تنس كل واحدة منكن نفسها فيجب أن تظهر أمام زوجها والآخرين بأزهى حللها و أروع زينتها فاليوم هو يوم الزينة . و غداء العيد عند الحضارمة لا يقصد به غداء يوم العيد ( الزينة ) تحديدا فقط و لكن هناك يوم آخر اصطلح على تسميته بغداء العيد ، و هو اليوم الذي يدعو فيه الأب كل أفراد عائلته و أصهاره لتناول وجبة الغداء في بيته ، و قد يكون أثناء أيام الاحتفال بالعيد و قد يؤجل بحسب الظروف المحيطة . يمر يوم الزينة ( أول أيام عيد الفطر المبارك ) في تواصل و تراحم و سرور و حبور ، أبواب المنازل مشرعة تستقبل الوافدين إليها ، و روائح البخور تعطر الحي كله فهذا اليوم يوم ( العواد ) و العواد هو ذلك التزاور العجيب إذ إن كل بيت من بيوت الأسرة وحتى بيوت الأرامل و القصّر لابد أن يزوره أفراد الأسرة جميعهم يضفون على أهله السرور و يشعرونهم أن العيد للجميع ، و الأطفال يلهون و يلعبون و يدخلون و يخرجون و كل واحد منهم يتأمل ثيابه الجديدة بإعجاب ويفخر بها و يفاخر ، الكل منهك و مرهق إلا أن الفرحة طغت و بددت كل تلك الأوجاع .. و قبل العصر يخلد الجميع للراحة فهناك مهمة أخرى تنتظرهم في العشية و المساء . العيد تواصل تمتاز العيد في حضرموت أنها تستمر لعدة أيام يتزاور فيها الأهالي في أوقات محددة حتى لا تتعارض الزيارات ففي عصر أول أيام العيد يكون هناك ( عواد ) الأقارب و الأصهار حيث يجتمعون في بيت كبير الأسرة في الغرفة المخصصة للاجتماع فيسلم بعضهم على بعض و يتبادلون التهاني بالعيد السعيد و ربما تذكر البعض منهم أيام زمان و كيف كانت و كيف هي اليوم و مستجدات الوضع و ما إلى ذلك ، و في هذه الجلسة العائلية الخاصة تقدم الحلويات و المكسرات و حبات الحنضل الحضرمية المعروفة إضافة إلى فناجين الشاي الأنيقة و صحونها الخاصة مع علب السكر الصغيرة مما تضفي على الجلسة الصفاء و البهجة و الحب الحقيقي خصوصا و أن الناس قد خرجوا من شهر المحبة و التسامح فتعلو الضحكات .. و تعاود فناجين الشاي مرة و مرتين إلى أن تنتهي العشية فينطلق الجميع لصلاة المغرب .. مغرب هذا اليوم يختلف عن مغرب يوم الأمس .. الكل يتجه بالنظر إلى جهة الغرب عله يرى هلال شوال و بالأمس كنا نراهن على رؤية هلال رمضان فبين راء للهلال و بين متعسر عليه ذلك و يتكرر المشهد عفب صلاة المغرب و لكن في بيت آخر . في الأيام التالية تكون الأسرة على موعد في العواد العام .. إذ إن كل بيت من بيوتات أفرادها قد تهيأ لاستقبال ( المعاودين ) فلو كان عدد منازل أفراد الأسرة يبلغ ال 50 بيتا فهذا يعني أننا سندخل 50 بيتا .. تقسم خلال أيام العواد بحسب مواقعها . و في هذه الجلسة يسلم المعاودون على صاحب هذا البيت قبل الدخول و يجلسون فترة من الزمن ينشد قيها المنشدون احتفاء بالعيد ثم يؤتى بالبخور و يبخر جميع الحاضرين كبارا و صغارا .. بعدها يقف صاحب البيت على عتبة داره مودعا و معلنا الذهاب إلى بيت آخر و هكذا دواليك و تتكرر هاتان العبارتان ( من العايدين الفايزين عند المجيء ) و العبارة الثانية ( عوّد العواد في خير و عافية عند الانصراف ).. و هكذا يستمر التواصل بين الأقارب و الأرحام و أهل الحي كله . بعد أن ينتهي الواجب داخل الحي ( القرية ) يأتي الوافدون من خارجه كما تشد الرحال إلى الأقارب من خارج القرية لمعاودتهم و هذا من أوجب الواجبات و إلا تم تفسير عدم المجيء بالقطيعة و تشعبت الأسباب . و ينصرف من حضر العيد من خارج البلدة عموما بعد أن يتمكنوا من حضور غداء العيد . أما النسوة فلهن عوادهن الخاص الذي قد يستمر أحيانا طيلة أيام شهر شوال و له طقوسه و ظروفه الخاصة. الست من شوال امتثالا لهدي النبي الكريم يبادر الحضارمة بصيام الست من شوال عقب يوم العيد ( ثاني أيام عيد الفطر ) حرصا على اغتنام إجازة العيد و قبل أن يعودوا إلى أعمالهم و انشغالاتهم . و في مدينة تريم ( عاصمة الثقافة الإسلامية 2010م ) تعود أجواء شهر رمضان خلال الست الأولى من شهر شوال فتجد الناس منكفئين على أنفسهم نهارا ، منتشرين ليلا و كأنك تعيش أيام و ليالي الشهر الفضيل من جديد . و إذا صادف أن جئت مدينة تريم في أول شهر شوال فلا تتفاجأ و حاول أن تتظاهر بالصيام نهارا و لوكنت مفطرا حتى لا تجرح شعور الأهالي و تتهم من قبلهم . أما بالليل فهناك القراءة و الختومات إلا أنه لا تراويح !! و خلال شهر شوال يحرص أهل وادي حضرموت على صيام الست من شوال و لو مفرقة ، و لكل واحد ظروفه و خصوصياته. عساكم من عواده و هكذا أحبابي عشنا و إياكم جانبا من جوانب الاحتفاء بعيد الفطر في بعض مناطق حضرموت و المتمثل في التواصل و التراحم و تحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي ، و هذا لا يعني أننا أحطنا بكل مظاهر الاحتفال فهناك المهرجانات التراثية و الإنشادية ليل نهار كما أن هناك جلسات الأنس و الطرب و الدان و الجولات الترفيهية و غير ذلك مما لا يخفى على أحد .. و يتكرر هذا المظهر في عيد الأضحى المبارك مع بعض الخصوصيات المتعلقة بالحج . تقبل الله منا و منكم صالح الأعمال .. و كل سنة و انتم طيبون و عساكم من عواده .