بعد مشوار مكلل بالتعب واليأس تصل زينب ذات العمر الربيعي بعينيها المشدودتين نحو أذنيها وأنفها الصغير إلى شعور قاتل بأن لا جدوى!. فقد طلب منها حكم شرعي من محكمة شرعية يؤكد أنها يمنية وابنة يمني لتحصل على الهوية..فقد اضاعت ملامحها كل امل قد يساعدها في الحصول على الهوية الشخصية،زينب ولدت لأم فيتنامية ووالدها الحاج صالح اليماني من المناطق الوسطى باليمن،هاجر قبل ثلاثة عقود الى فيتنام واستقر هناك ليدرس ابناء المسلمين القرآن والسنة، رجل زاهد وورع، لم يترك لابنائه سوى منزل صغير وبعض اثاث قديم وفي أواخر أيامه نصح زينب ووالدتها بالسفر إلى اليمن والتعرف إلى أهلهم خاصة شقيقه محمد الذي يصغره بخمس سنوات وقد أوصاهم أيضاً ببيع نصف ممتلكاته في اليمن من الأرض لإعالة أطفاله الصغار.
سافرت الأسرة المكونة من الأم وزينب والخمسة الصغار باحثين عن العنوان الذي كتبه والدهم المرحوم .. وفي أول نقطة للتفتيش يأمر الضابط المسئول بإبراز الهويات الشخصية.. تمد زينب بوثائق مرور سفر. - الضابط ذو الرأس الأصلع والكرش البارز : هذه صور وثائق مرور لا أريد هذه بل أريد البطائق الشخصية أو جوازات السفر. يحتج سائق السيارة البيجوت قائلاً يافندم نريد أن نواصل السفر مادخل الركاب بهؤلاء؟ ينزلون ونواصل نحن. - تحاول زينب شرح الموقف للضابط: يا فندم نحن لا نمتلك سوى هذه الوثائق ونحن ذاهبون لاستخراج احكام شرعية لاثبات هويتنا اليمنية اسمح لنا بالسفر الله يخليك. - يتدخل أحد العسكر:حرام يافندم نردهم إلى صنعاء.. - ينهره الضابط المسؤول:ينزلوا ويرجعون الى صنعاء لا سفر بدون هوية أو جواز سفر فقط والدتهم تسافر لأنها تحمل جواز سفر فيتنامي. (الصغار في خوف مما يحدث خاصة وقد تعالت الاصوات السائق،الضابط - زينب - بعض الركاب- أبواق السيارات التي تود العبور). - ضابط آخر يدلي براية: يافندم أنا أرى أن يطرحوا رهناً حتى يرجعوا بالحكم الشرعي من القرية او يرجعوا الآن إلى صنعاء !.. ( تروق الفكرة للضابط المسؤول ويهز رأسه ) توافق زينب وأمها ويتفقان على ترك نصف ما لديهم من مبلغ كرهن إلى حين عودتهم من القرية ..
تصل العائلة إلى القرية التي طالما حدثهم عنها والدهم، زينب تحدث نفسها .. جميل منظر المنازل وكأنها منحوتة على صدر الجبل ما أروع المدرجات هذه لا شك أن إنسانها رائع ومبدع .. تطلق تنهيدة قائلة : يافرحة لم تكتمل فقد مات أعز انسان في حياتنا كنت اتمنى ان يكون معنا اليوم .. وبينما هم يقفون أمام منزل جدهم العتيق تجمع عدد من الاطفال وهم يرددون الصينيون وصلوا .. الصينيون في القرية تخرج بعض النسوة رؤوسها من النوافذ ومن على سطوح البيوت وأخريات جئن ليستفسرن عن هوية القادمين .. إلا ان زينب وبتلقائية تعرفهم بأمها وإخوتها وانها ابنة صالح اليماني الذي هاجر من هذه القرية منذ ثلاثين سنة الى فيتنام ومات هناك وهو يؤدي دوره في تدريس التربية الإسلامية .. - قالت تقية : أبوك وأنا ولدنا في يوم واحد الله يرحمه كان طيب ويخاف الله .. علقت احدى الجارات : جدتك الله يرحمها كانت تتمنى تشوف ابنها صالح قبل موتها .. أما زوجة العم محمد، رشيدة التي وصلها خبر القادمين وهي في الحقل فقد صافحتهم ببرود ودعتهم لدخول البيت ،.. وفي غرفة الديوان جلست زينب ووالدتها وأشقاؤها في الوقت الذي أرسلت رشيدة ابنها الصغير إلى سوق القرية لتبليغ والده في الحال .. تتأمل زينب الصور المعلقة على الجدار وتقف عند احدى الصور التي شكل الذباب فوقها نقاطاً سوداء لم تخف ملامح والدها وهو جالس بجوار والده وطفل صغير بالجانب الآخر أشارت زينب بفرح قائلة : ربما يكون هذا هو عمي محمد .. ياتي محمد عم زينب وقبل أن يدخل الديوان تمسك رشيدة بيده وتدخله المطبخ وتوشوش له في أذنه قليلاً يخرج وبصوته المبحوح قائلاً : السلام عليكم. - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . - يسلم على زينب مكتفياً بهز رأسه لأمها ، وابتسامة فاترة للصغار قائلاً : من أنتم ؟ - زينب - مبتسمة -: نحن أبناء أخيك صالح جئنا من فيتنام وقد أوصانا قبل وفاته أن نأتي لنتعرف عليكم والحمد لله وجدناك ياعمي فأنت والدنا وخير من يقف بجانبنا . - محمد وقد تحجرت مقلتاه : أولاً اخي صالح لم يتزوج قط وانا لا اعرف هذا الموضوع .. لازم السفارة اليمنية في فيتنام تشهد وتؤكد هذا الكلام لأكون على بينة فالاأمور لا تؤخذ هكذا. - زينب: ألا تصدقني.. خذ هذه الأوراق لتعرف اسمائنا وتواريخ ميلادنا.. يتناول الاوراق بدون رغبة .. يتفحصها بدون اهتمام معلقاً: هذا ليس كافياً لابد من شهادة السفارة في فيتنام يضيف وقد مدَ لها بالأوراق: وهل كل من جاء وقال هو ابن أخي صدقته؟؟- زينب : ياعم محمد انا لا اكذب ونحن لا نريد منك شيئاً سوى حكم شرعى يؤكد اننا يمنيون..- محمد :لا يمكنني ذلك ..اذا كنت انا غير متأكد من انكم ابناء اخي كيف لي ان اشهد انكم يمنيين!؟؟- زينب (ودموعها تتسابق): ارحمنا من عذابنا وساعدنا واعدك أننا لن نسألك شيء آخر ..-محمد: آسف يابنتي لن اقدر ..ماعليكم الا ان تقضوا هذه الليلة هنا والصباح تعودون الى صنعاء وتحاولوا ان تأتوا بافادة من السفارة وأنا بموجب الافادة أشهد واعمل لكم الحكم الشرعى واعطيكم حقكم لو عندكم حق!..تبدا رحلة العودة الى صنعاء ويبدو على زينب الارهاق الشديد وامها الحزينة تضم ابنائها إلى صدرها وتمنع دموعها من التدفق تقف سيارة البيجوت التي تقلهم عند نطقة التفتيش وياتي ضابط،مسؤول جديد ويسأل:- اين البطائق الشخصية او الجوازات؟- زينب:نحن اسفون لم نتمكن من استخراج الحكم الشرعى من القرية كما وعدنا وقد دفعنا رهن امس للضابط نريد استرداد الرهن.- الضابط غاضباً: أي ضابط؟ انا لا اعرف رهن ولاجناً..أسالك اين الهويات الشخصية هيا بسرعة!..- زينب: هذه جواز الوالدة ولانملك الا هذا التصاريح –تمد له بها-الضابط:هذه صورة تصاريح لدخول اليمن وليس للتجوال داخل البلاد..- ماذا اعمل اذن؟-الضابط تعودوت من حيث جئتم..تبكي بحرقة وقد تذكرت موقف عمها..يتدخل بعض الركاب طالبين السماح لهم بمواصلة السفر إلى صنعاء.. قائلين: حرام مكالف ومعاهن جهال..غرباء مساكين مايجوزتتعامل مع النسوان هكذا..وآخر الركاب يقول وهو يدخل اوراق القات الى فمة:المفروض يدوا معاهم رجال أبوهم اخواهم مهما كان هذا سفر!!
يعودون وزينب تلزم الفراش ثلاثة أيام ومازال القلق يسيطر عليها عندما تفكر في الأيام القادمة..وفي اليوم الرابع تربط منديلها جيداً على رأسها وتمسح دموعها وتتجه صوب المصلحة برغبة جامحة لعمل شيء ما..تشرح لهم ما حدث.. لاتجد أذن تسمع ، نظرات بلا معنى ترهقها .. الضابط الأول لم يتعاون واحالها إلى ضابط اخر والآخر يحيلها للثالث وهذا الأخير بدوره يوعدها بالحل ويغمز بطرف عينه ويتأملها .. تزوره بشكل شبه يومي .. تمضي ساعات طويلة في انتظاره .. يغيب .. يأتي وتنتظره .. يوعدها .. يبدأ قطع الاستمارة ، تعبأ البيانات .. ليس لديها ماتدفعه يوشك ان ينهي المعاملة .. عبارات الشكر لم تعد تجدي .. ما تقدمه ليس بكاف .. يطمع في المزيد .. المعاملة أوشكت .. ومنذ ذلك اليوم أصبحت زينب فتاة اخرى تعرف كل الوجوه التي تصدر الاحكام غير الشرعية ...