للهوامش سطوة على المتن ، فهي القادرة على الإيضاح والإضاءة للمعتم ، والذاهبة إلى التحديد واثبات الحق والمرجع ، فتصبح العودة إليها وقراءتها ضرورة من ضرورات إدراك المتن وإكمال صورته ، من هنا جاءت هذه الهوامش التي نحررها على دفتر الفن لنضع علامات هامسة لمن يريد أن يكمل وجه الحقيقة الفنية اليوم ، فإن وجدت فيها ما تبتغيه ، وإلا دعها، فلست المعني بهذه الهوامش الهوامس. عبقرية فنية يقف المتأمل للتجربة الفنية لعملاق الأغنية الحضرمية المعاصرة، كثيراً، عند قدراته الصوتية واللحنية والأدائية، ويستطيع، بسهولة، اكتشاف الكثير من سماته الفنية التي جسدتها تلك التجربة في الأربعين السنة التي خاضها، فناناً متفرغاً لفنه ورسالته الخالدة، إذ أن المتابع والمتذوّق والناقد لهذه الرحلة الفنية يجد أن الفنان الكبير محمد جمعة خان قد وضع أسساً مجيدة ومعايير صارمة للإبحار بفلك الفن والإبداع في بحار الخلود وقمم الشموخ، واليوم، ونحن ننظر من بعيد إلى رحلته الفنية بعد رحيله إلى دار البقاء في الخامس والعشرين من ديسمبر من العام 1963م، نرى أن هذه التجربة مازالت تعطي مدداً فنياً ثرياً وعميقاً يضيِّق الخناق على سفاسف العبث المنسوب إلى جذوة الفن الخالد، مازالت تجربة الفنان الكبير تمد شرايين الجسد الفني الحضرمي بدم نقي وصاف غير ملوث، من خلال الكثير من الدرر الغنائية التي يحاول الكثير من الفنانين الكبار والصغار اليوم التغني بها هروباً من الإفلاس الفني الذي تعيشه الكلمة الشعرية في الأغنية العربية برمتها، ولوذاً بالألحان الجميلة الذي صاغها في مشواره الفني الطويل. رحيل وبقاء ونحن نحيي في هذه الصفحات الفنية ذكرى رحليه (46) ندرك جيداً مدى التأثير الذي تركته تجربته الفنية على الكثير من الفنانين الذين انخرطوا في مدرسته الفنية وحاولوا السباحة في تيارها الفني الغنائي التطريبي، ومنهم الفنانون الكبار بدوي زبير، محمد سالم بن شامخ، عبدالله سالم مخرج، والكويتي أحمد سنان، وغيرهم من الفنانين الذين يحاولون وصال ليلاه الفنية بين حين وآخر ولكن دون أن تمنيهم ليلى بوصال أصيل، فشتان بين طرائق الأداء التي عرف بها هذا المبدع الكبير وتلاميذ مدرسته الفنية وما يحاوله البعض ممن تقصر بهم همتهم الفنية عن بلوغ المرام، من هنا نجد أن رحيل هذا الفنان الكبير قد آذن ببقاء وخلود فني يزداد حضوراً وقوة وعمقاً في النسق الفني والثقافي والجمالي في حضرموت خاصة والوطن العربي عامة. ملوك عزف وفن إن اللحظة الراهنة وهي تستعيد ذاكرة الفن الحضرمي الخالدة لزمن الفنان الكبير محمد جمعة خان، تقف، كذلك، عند ظاهرة التخت الموسيقى المصاحب لهذا الفنان في مشوار حياته الفني التسجيلي، فأعضاء فرقته الذين رافقوه السنوات العشرين الأخيرة من حياته لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الخمس، فعازف الكمان الذي نادمه ليالي الفن والطرب في الوطن وخارجه هو الفنان الكبير سعيد عبداللاه الحبشي، أما عازف الرق فهو الفنان الكبير بكار هيّال، في حين رافقه على الإيقاع الفنان الكبير أبوبكر الحبّاني، وعازف الناي الفنان الكبير بوتمباك، هذه الشوامخ الفنية هي التي نستمع اليوم إلى عزفهم معه في الكثير من التسجيلات التي توزّع وتباع في محلات ونوافذ التوزيع والإنتاج الفني، ويقف المتذّوق عند هذه الكواكب اللامعة في التخت الموسيقي الذي صاحب الفنان الكبير ليدرك أن عبقريته لم تكن في شخصه فقط، وإنما في ملوك العزف الذين رافقوه مشواره الفني، فلن تجد وجه مقارنة بين عزفهم وروعة أدائهم بمن خلفهم على منصات الفن والتطريب، وهذه من شمائل المدرسة الفنية للفنان محمد جمعة خان. تراث وضياع ما يحز في النفس اليوم، أن تراث هذا الفنان الكبير يمارس عليه الطمس والإهمال والتشويه والسرقة الفنية بمبررات وأسباب ساذجة وغير أخلاقية، فالطمس تمارسه أجهزتنا الإعلامية والثقافية التي يقع على عاتقها حمايته وتوثيقه وتأصيله، والإهمال ديدن صحافة التسطيح والشلل الفارغة من المضمون الفني العميق التي لا تجد في زمنها وقتاً لإحياء ذكرى مثل هذه الأعلام الكبيرة، وتكتفي بالبحث عن أصحاب التسعيرة اليومية في سوق النخاسة الفنية، أما التشويه فما أكثره ممن يدعون زوراً وبهتاناً وبصكوك رسمية وغير رسمية فنانين كبار وعمالقة عصر، وأي عصر، يا عيباه، والطامة الأخيرة هي السرقة التي يقترفها الكثيرون جهاراً نهاراً دون حمرة خجل والتزييف والتزوير طريقهم إلى ذلك، وعبارة من التراث جاهزة لكل من يرفع عقيرته مطالباً بالحق الأدبي قبل المادي.. ويظل الفنان الكبير محمد جمعة خان نجم الأغنية الحضرمية الذي يزداد ضياءً ولمعاناً كلما أوغل ليل الفن وسواده في اللحظة واليوم والسنة.. وكفى!.