تمرغت في سكون الصحراء، حتى وجدت نفسي أمام حشد من حضارة هائلة... استنهضت في مخيلتي لحظات مرور القوافل المحملة بالبخور واللبان جذبني الماضي إليه، أدخلني في صميم صفحاته المزدحمة تعمقت فيه كثيراً قرأته ككتاب شيق.. وتأملته كفيلم سينمائي يعرض لأول مرة. حارس منيع بدت لنا في الأفق براقش "يثل" كما هي تسميتها في النقوش اليمنية القديمة، تربض بشموخ وكبرياء كتاج مرصع بالعقيق والعسجد، على رأس ربوة دائرية قطرها سبعمائة متر مصنوعة من "طين" ومأخوذ لونها من لون ما حولها من رمال... لها هيبة الملوك، عظمة الفرسان ومتانة الأرض التي غرست عليها.. وروعة التاريخ الذي لم تكتب تفاصيله بعد. اقتربت منها أكثر فأكثر وعيناها تحرسني تؤدي مهمتها الأزلية التي أرادها الأجداد، فتبددت من داخلي كل مشاعر الخوف ومضيت قدماً لاكتشاف المجهول. كانت ذات زمن حارساً منيعاً وموثوقاً للقوافل التجارية التي جابت الصحراء ومحطة أخيرة لمرورها على ظهر الجغرافيا اليمنية فيها استراح المسافرون وأمن سكانها من أي اعتداء لأنها كانت ومازالت محاطة بأسوار جبارة يناطح شموخها السنين، وهي وبشهادة كثير من المهتمين تعتبر من أكمل الاسوار الباقية في المدن اليمنية القديمة، ويصل ارتفاعها في بعض الأجزاء إلى ثمانية أمتار. وتتداخل أسوار براقش.. ب 56 برجاً، هي ماتبقت واستعصت على قهر الزمن من أصل 75 برجاً يحرسونها من كل الاتجاهات. عاصمة المعينيين الدينية في براقش المدينة المكان مزدحم بالماضي، مكتظ بالتاريخ الذي بدأ يتسرب من بين أطلالها الأسطورية، ليتحدث بنبرة تباهي عن عبقرية يمنية لن تتكرر استمرت رحلتي بين جنبات تاريخ حي مهيب، هو باعتقادي الأكثر أثراً وآثاراً.. استقيت من لفحات اسراره عبق الماضي وقداسة المستقبل وقلت في خاطري هذا أنا يأخذني هذا المكان وبقوة، وأنا ابن البلد فكيف بالسائح والزائر الأجنبي. يقول شاعر اليمن القديم: تسن يالفرو من براقش وهيلان أو يانع من التعم وإذا كان ومازال لكل شيء استثناء فإن براقش أحدها لأنها بحق مدينة عريقة شهباء سايرت الأزمات ودفنت الملوك ومازالت حية ترزق كانت عاصمة المعينيين الأولى ثم تم تحويلها إلى عاصمة ثانية ودينية حج إليها قدماء المعينيين وملوكهم وهي حتى الآن مكتظة بعديد معابد أثرية ولعل أشهرها على الإطلاق معبد "الإله نكرح" حامي المدينة وهو الذي اكتشفته البعثة الايطالية بداية تسعينيات القرن المنصرم بعد أن أجرت حفريات أثرية برئاسة البروفيسور الساند رودي ميغريه، وقامت نفس البعثة بترميم هذا المعبد خلال عامي 2003- 2004م. ويعتبر معبد "نكرح" من المعابد ذات الطراز المعماري المميز فالجزء الأكبر من هياكله مستند على قاعدة كبيرة مغطاة بسقف يستند على أعمدة، وهذا النموذج من المعابد ظهر أيضاً في حضرموت في مدينة "ريبون ومكينون" وفي أثيوبيا، وهو من المعابد الجميلة والمكتملة والذي سيكون له دور كبير في الترويج السياحي لهذه المحافظة الواعدة إذا ما استغل بشكل سليم. كما قامت بعثة إيطالية أخرى برئاسة "الساند رود يمكري" بترميم معبد "نقرة" ومن المعابد الشهيرة في براقش معبد "يمثل" ذو النمط المعماري المعيني القديم والمصحوب بأعمدة رأسية وأفقية وصل عددها إلى نحو 16 عموداً فيما يعتقد أحد الباحثين بأنه كان معبداً للمعبود "عثتر" ويوجد معبد آخر في وسط المدينة يشاهد منه أربعة أعمدة فقط. لمحة في براقش يحلو للمرء أن يستأذن الزمن ليغوص في تفاصيل كانت حاضرة ولم تذهب بعيداً فمن أسوارها المنيعة، ومعابدها المشبعة بالوهم النفسي، استمد المعينيون قوتهم وانتصروا على دولة سبأ ومن موقعها المطل سيطروا على طريق اللبان والبخور ليعيشوا بعدها في طفرة مادية شواهدها باقية على طول وعرض صحراء وأودية الجوف عرضة لنباشي القبور ولصوص الآثار. وبراقش بالذات كانت الأكثر رخاء وانتعاشاً فآلاف الحجيج كانوا يتوافدون إلى معابدها من كل حدب وصوب، وقد حددت أكثر المراجع التاريخية تلك الفترة الذهبية في الفترة من بداية القرن السابع حتى نهاية القرن السادس قبل الميلاد. وبما أن دوام الحال من المحال، دخلت براقش بعد ذلك في مرحلة مظلمة خاصة بعد أن انتهت مملكة معين وسيطر عليها البدو والرحل... وقد احتلها عنوة القائد الروماني "اليس غاليوس" أحد قادة الإمبراطور "أغسطس" خلال حملته العسكرية على اليمن السعيد مابين العامين "25-24" قبل الميلاد، كما أفاد المستشرق "استرابون". أما في العصر الإسلامي فقد سكن مدينة براقش الإمام عبدالله بن حمزة، واتخذ منها مركزاً له - وبنى فيها مسجده المعروف مسجد الإمام عبدالله بن حمزة في عام 84ه. "الاشراف" هم من استوطن مدينة براقش خلال القرون الإسلامية الأخيرة، وهم في الأصل من آل جرفيل وينتمون إلى سلالة هاشمية عريقة وجدهم الإمام قاسم العياني المقبور في حرف سفيان م/ عمران..و"الفقمان" هي أقرب قبيلة لبراقش من قبائل نهم وتحفظ ذاكرة العامة هناك أن ثمة محاولات من قبيلة الفقمان لاجتياح براقش إلا أنها باءت بالفشل والآن وفي عهد الثورة والوحدة والتنمية صار الجميع إخوة ولم تسجل أية اعتداءات مشابهة. براقش يمنية يفيد الأخ علي محمد كزمان - مدير مكتب السياحة في محافظة الجوف بأن مدينة براقش إلى ماقبل خمس إلى ست سنوات كانت جزءاً من مشكلة حاضرة في كياننا الجغرافي اليمني وفي التقسيم الإداري القائم بالذات فهي كانت خاضعة إدارياً للسلطة المحلية في محافظة مأرب وكان في ذلك إرباك كبير للدارسين والزائرين معاً، وصعوبة في تحرك الإخوة القائمين على حمايتها سواء كانو مدنيين أو عسكريين، وصعوبة في إجراءات متابعة ومعاملة الإخوة المواطنين في قضاياهم الماثلة والمعاشة.. وصدقوني أنه وبمجرد ولوجي محافظة الجوف ورؤيتي مدينة براقش المعلقة من على الخط الإسفلتي مدخل مدينة الحزم عاصمة المحافظة قيل لي من معرف غير مطلع على التغيرات الإدارية المستحدثة والايجابية بأن براقش مأربية وليست جوفية وهو الأمر الذي استنكرته فالجغرافيا تقول عكس ذلك كما أن خلفيتي الثقافية التي تشربناها منذ الصغر من المناهج الدراسية والمراجع التاريخية الموثوقة تقول إن براقش مدينة أثرية تقع في وادي مجزر الجوفجنوب مديرية الخلق بخمسة كيلو مترات فقط. وهو الأمر الذي حفزني للتواصل مع مدير مكتب السياحة في محافظة الجوف، علي كزمان - الذي زاد على كلامه السابق بأن براقش ليست ملكاً لأبناء الجوف وحسب ولكنها ملكاً للشعب اليمني برمته وللإنسانية جمعاء مضيفاً: إن براقش مفخرة اليمنيين وهي تاريخ وعراقة للكل، سواء في الجوف أو مأرب أو حضرموت أو شبوة وكلنا في النهاية يمنيون ومن يقصد غير ذلك فهو ضعيف الرؤية مجافٍ للصواب. مناجاة خيل لي أن ثمة مدناً كثيرة تشبه "براقش" أو بمعنى أصح - ما تزال مستعصية على أيادي العبث والاهمال وعوامل التعرية التي لا ترحم، حين تواردت الإجابات بغير ذلك خيمت على رأسي فصول من الكآبة ووجع الحسرة فالعابثون كانوا أشد ضراوة. وتأكيداً لهذه الحقيقة أجمع كثير من المهتمين على أن براقش أحسن حالاً من مدن الجوف الأثرية الأخرى فبقاياها حتى اللحظة مازالت واضحة المعالم ولم تتعرض للنبش العشوائي والتخريب بشكل كبير. وأنا أودع الجوف خاطبت "براقش" نعم هناك مايشبهك؟! ولكن في مدونات التاريخ!، وهي الآن مجرد أطلال وخرائب تتناثر هنا وهناك وجميعها بحاجة ماسة لمزيد من الاهتمام والعناية والترويج المنظم حتى تحظى بالزيارة والاكتشاف من أجل إنعاش واقعنا السياحي الراكد.