لوحة خالدة مازالت اليوتوبيا الأفلاطونية الحشاشية ترقص في أعماقي، وتوهجات الأنجم الشقراء تسطع في أفلاكي، ولوحات الأماكن الخالدة ترتسم في حدقاتي... مازال ذلك العبق القديم للمدن التاريخية يشتم أنفي، والشموخ السامق للحضارات يطاول زمني، فيما يمتد البصر عبر بوابة العالم القديم لشبوة مطلاً على المعابد والمقابر وأسواق التجارة والمخازن والقوانين واللبان والبخور والنقوش والخربشات والمطولات الشعرية والمناظرات والحصون والقلاع والأدوات الحربية والزراعية في مساحة تقدر بسبعين ألف كيلو متر مربع، وعلى نسمةٍ أثيرية تتبدى شبوة في الجزء الجنوبي من الوطن الكبير، مطلة ببهائها الملائكي على البحر العربي المتبدية ملامحها على مرآته، بين خطي طول 46 درجة و48 درجة شرق غرينتش، وخطي عرض 70.13 درجة و2.16 درجة شمال خط الاستواء، يحدها من الشمال رملة السبعتين العملاقة ومحافظة مأرب, ومن الجنوب البحر العربي، أما من جهة الشرق فتحدها محافظة حضرموت، ومن الغرب محافظتي أبين والبيضاء، وتبقى شبوة متأثرة بقلب اليمن، وقلوب المحبين على محيط هذا الكوكب الأخضر. ساحل مختلف الساحل أجمل في الشتاء له طعم آخر على بقية الفصول، وساحل محافظة شبوة الفريد والتي تضم من حصن بلعيد في مديرية أحور بمحافظة أبين غرباً، وحتى نهاية ساحل إمبح وبداية مديرية ميفع حجر بمحافظة حضرموت شرقاً، وتنتصب العديد من الموانئ التأريخية القديمة كميناء بلحاف وقنا وحورة، بالإضافة إلى ميناء عرقة، وترفرف الطيور النادرة ذات الأصوات الموسيقية التي تردد صداها الخلجان الشاعرية، والجزر السياحية، والمياه الحارة والدافئة... البحر له رائحة أخرى وطعم مختلف ولون فرائحي، والشواطئ لها نفس الميزة غير أن اللهو واللعب والمرح على ذراتها الذهبية يمنح النفس سعادة قصوى لاحدود لها، ويردد الصدى أصوات الصيادين، مواويلهم، فيما تواصل الأقدام توثبها على بطن الرمال، ومطاردة سرطان البحر على منتجع بئر علي، وفي لحظة بهائجية يتقيأ البحر أجساداً سمراء بعضها تنتهي منها الحياة عند الشاطئ، فيما البعض الآخر تواصل رحلتها المنهكة في غياهيب المجهول. أودية وجبال المساحة شاسعة والأقدام المشتاقة بساط ريح، وسلاسل الجبال المعتدة لاتنتهي، والبداية مع جبال الكور ذات مرتفعات السراة التي تخترق الجزيرة العربية والمتصلة بروي ودثينة ومرتفعات الهضبة الشمالية المتاخمة للبيضاء، ويحلق البصر كنسر في الجبال والمرتفعات الشرقية النابتة من أطراف مديرية حجر شرق بئر علي وشرقي عتق وحبان، هابطاً في الأودية السحيقة كجردان والمعشار وعرماء وعمقين وسلمون ومحيد والعوارض، وتتبدى صحاري مفروشة بالرمل أدنى جبال الكور وحواضن خليفة ووديان مرخة وبلحارت وظراء وعبدان ويشبم وحبان وهدى وميفعة، ومابين مرتفعات جبلية ومنحدرات سهلية وصحراوية تتعدد المواقع الأثرية أهمها شبوة عاصمة دولة حضرموت قبل الإسلام، وتمنع عاصمة قتبان في حيد بني عقيل وهجر كحلان بوادي بيحان، وهجر ضور الزرير وهجر الناب، ونقب الهجر بمديرية ميفعة، بالإضافة إلى ميناء قنا بمديرية رضوم وهجر أمذيبة وعبدان وحصن أنور وهجر البريرة، وطريق اللبان والبخور، كما تتعدد المتاحف حسب الأخ خيران محسن الزبيدي مدير عام الهيئة العامة للمتاحف والآثار بالمحافظة كمتحف عتق المزمع فتحه أمام الزوار قريباً ومتحف بيحان، ومتحف تمتع ومتحف حسبان، ومتاحف أخرى مفتوحة تتربع على أفياء المحافظة الأثرية. المهد الأول للحضارات تعد محافظة شبوة المهد الأول للحضارات اليمنية العريقة، وهذا ليس حديثي بل أقوال الأسفار القديمة كالإغريق والرومان، وأقوال الشعراء أيضاً، يقول الشاعر أبن أحمد في هذه المدينة التليدة: يمانية مران شبوة دونها وشيخ شآم هل يمانٍ بمشئم فلله من يسري ونجران دونه إلى دير حسمني أو إلى دير ضمضم، وبسبر أغوار التاريخ العريق لمحافظة أثرية ملأ صيتها العالم نجد أنها كانت في ذلك العهد البائد موزعة على عددٍ من المخاليف كمخلاف شبوة الذي يتربع شبوة القديمة عند عقب أدوية عرماء والمعشار، ويحتوي قبائل الأشباء والأيزون، ومخلاف صداء في متنفسات مرخة ويضم قبائل صداء من مذحج، ومخلاف بيحان ومخلاف حجر الممتد من عرقه الساحل في رضوم حتى وادي حجر المشهور في حضرموت وهو يضم قبائل بني وهب والعامريين من كندة التي ينتسب إليها سيد الشعر والشعراء امرئ القيس بن كندة، ومخلاف جعفي في جردان الذي قطنته القبيلة المسمى باسمها أو المسماة باسمه قبائل بني عيذله، وفروع من حمير، بالإضافة إلى مخلاف أحور الذي كان يضم قبائل العوالق مناطق آل ذييب من حمير، وتتعدد المخاليف، فيما تبقى محافظة شبوة سيدة الأرياف والحضر. مدينة بطعم العسل في هذه المحافظة بالذات “شبوة” أجدني كما تمنيت ووحده الفرح في قاموسي ولاشيء غيره، تستهويني الفيافي الممتدة، وتتسلقني السعادة العملاقة كجبال هذه المدينة، ويبقى العسل الجرداني وحده الذي يتدفق على كل لسان وزمان ومكان.