(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة. فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية) في ساعات غيابي في الليلة السابقة، وفي الوقت الذي كنت أقوم فيه بتلك الجولة في شارعي السوق الطويل والزعفران،تمت صفقة عمل بين خالي ومكتب بامطرف للصرافة، ذلك العمل كان يشغله موظف من شبام، وكان على نية الخروج منه ليسافر إلى السعودية للعمل هناك، ولهذا فما إن وصل خالي حتى اختير لعمل ذلك الموظف، والذي ظل بيننا فترة ريثما سلم العمل لخالي ثم سافر بعد ذلك..وهكذا وجد خالي فرصته في العمل، وبقيت بانتظار ما يخبئه لي القدر. بعد يومين وكنا في يوم الجمعة وهي العطلة الأسبوعية اقترح أحد الأخوان أن نقوم بزيارة إلى الصهاريج، وهكذا تحركنا بعد صلاة العصر، وما أن اجتزنا سوق الاتحاد حتى انحرفنا يميناً وأخذنا نمشي بالسوق الطويل وما أن حاذينا محل “بور سعيد” حتى اتجهنا يساراً لندخل شارع الطويلة، وقد لفت نظري عدد كبير من الأسرة الخشبية وقد تفرقت على ذلك الشارع بمحاذاة جدران البيوت، وقد جلس عليها الرجال وقد انتفخت أشداقهم بتلك الأوراق الخضراء التي لفتت نظري حال وصولي عدن والتي كانت لازالت تشغل ذهني ولم أجد من يخبرني عنها، وفي تلك اللحظة خرج ذلك السؤال الذي ظل محبوساً في ذهني مدة يومين كاملين، فأفضيت بسري ذاك إلى أحد الأخوان بجانبي الذي أخذ يشرح لي قصة تلك الشجرة الملعونة”إنه القات” ذلك الكيف..الذي تعود عليه أهالي عدن ومن سكن فيها من المحافظات الشمالية آنذاك، وذلك لكي يمدهم بقسط من النشوة والراحة، تلك الراحة التي ربما أنهم يفتقدون إليها طوال الأسبوع الذي يقضونه في أعمالهم الشاقة، هذا “الكيف” الذي يختلف عن الكيف الذي تتعاطاه الفئات الشعبية في حضرموت ويسمى “النشقة” وهو عبارة عن خليط من التبغ والرماد ويوضع في نفس المكان الذي توضع فيه وريقات القات ولكن بأسفل الفم تقريباً من الشفة السفلى، حيث كان يعطي من يتعاطاه نشوة خفيفة ولكنه لا يسبب أي ضرر كالذي تسببه تلك الشجرة المخدرة والمضرة بالصحة، وفي تلك اللحظات وبينما أنا أتصفح وجوه القوم وأراقب الانفعالات التي ارتسمت عليها نتيجة لمفعول ذلك القات فأرى على وجه أحدهم الذهول وعلى الآخر التحفز وأرى بعضهم قد جحظت عيناه..وهكذا بينما أنا أتنقل من وجه إلى وجه ومن كرة إلى أخرى إذا بي أرى بجانب أحد هؤلاء عجوزاً اشتبكت معه في حديث لم أتبينه عن بعد ولكنني ما إن اقتربت منه حتى بدأت أستمع إلى الحديث الذي كانت المرأة العجوز توجهه إلى ذلك الرجل الذي كادت كرة القات التي بداخل فمه أن تفصل وجنته عن وجهه..فقد برزت إلى الخارج بشكل ملحوظ حتى بدت للناظر الشعيرات الدموية في لونها الأخضر وهي تكاد تنفر إلى الخارج، لقد كانت تلك العجوز ترتدي زياً بدوياً مما ترتديه نساء بدو حضرموت بالوادي يقال له: “ذيل وقدمه” ولعلها قد وصلت عدن قبل عدة أيام مثلي تماماً وأثار استغرابها تلك الكرة التي تدلت على وجه ذلك الرجل، كانت المرأة العجوز قد اقتربت منه وأخذت تخاطبه قائلة: وي ..وي ويش بلاك يا بني تصبر على هذا الأمر؟!. ثم اخذت تتحسس بيدها ما كانت تظنه ورماً في وجهه وأردفت قائلة: من متى صابر على هذا المرض...ما أصبرك عليه..قوم ها الساعة واعمل له ميسم....وباتشفى إن شاء الله”. وهي تقصد أن يكويه بالنار وهي الطريقة المعروفة عند البدو للتخلص من مثل هذه الأورام. بعد تلك المسرحية التي شهدت وقائعها أمامي واصلنا طريقنا إلى الصهاريج التاريخية التي ظل الإخوان يحدثونني عنها في عجب وزهو، والتي اختلف المؤرخون في الزمن الذي بنيت فيه، وعندما أقبلت عليها بهرتني بهندستها البديعة..وكان أحد الأحواض المتاخمة للجبل قد امتلأ بالماء ولكنه ماء آسن لونه إلى الاخضرار أما بقية الأحواض التي تليه فقد كانت جافة وقد قيل لي إن مياه هذه الأحواض كانت المياه الوحيدة التي كان يعيش عليها أهالي مدينة عدن في تلك الحقبة من الزمن وتعد المصدر الوحيد لشربهم ولهذا فقد لجأوا لبناء تلك الأحواض وجعلوها تحت الجبل تماماً حتى إذا ما هطلت الأمطار تجمعت المياه في أعلى الجبل لتصب بعد ذلك في تلك الصهاريج الضخمة...وبسرعة أخذ ذهني يستعرض عدداً من الأحواض التي تنتشر خارج مدينة غيل باوزير.. تلك الأحواض الطبيعية التي تمتلئ بالماء طوال العام والتي تمد العديد من المزارع بالمياه تلك الأحواض التي يسمى الحوض الواحد منها “حومة” وهي أشبه بالبحيرات الصغيرة ماؤها نقي وصاف إلا أن به بعض المرارة..هذه البحيرات يؤمها الكثير من أهالي الغيل وأهالي المكلاوالشحر للسباحة فيها...وبعض هذه البحيرات عميقة جداً بحيث لا يستطيع السباح الماهر الوصول إلى قاعها...وقد كانت تلك الأحواض قبلة لأفراد القاعدة الجوية البريطانية المتمركزة “بالريان” التي تقع بين المكلا والغيل..حيث كانوا يأتون إليها أيام عطلتهم الأسبوعية للسباحة وقد يمرون وهم على سياراتهم فيدخلون مدينة الغيل وهم لا يرتدون على أجسادهم إلا السراويل الكاكي القصيرة بأجسامهم الحمراء وأعينهم الزرقاء مما يثير ذلك استغراب أهالي الغيل، أما نحن الأطفال فكنا نجري خلف سياراتهم ونحن نردد”صاب بخشيش” فيرمي لنا بعض منهم عدداً من القطع النقدية لنتصارع عليها.. بعد جولة بتلك الصهاريج عدنا إلى المنزل قبيل غروب الشمس لنستعد لقضاء سهرة الجمعة بسينما “هريكن” التي كانت تعرض يومها فيلم “أول نظرة”لفريد الأطرش وهو أول فيلم أشاهده في عدن وأن لم تكن السينما بغريبة عليّ فلقد شاهدت قبل ذلك بمدينة الغيل بعض الأفلام الهندية وذلك في بعض المناسبات...كأعياد المدرسة الوسطى السنوية بالغيل أو عند زيارة “سالم بن عمر” بمدينة الشحر التي تقام كل سنة، هذا الجهاز يملكه السلطان صالح بن غالب القعيطي وهو الجهاز الوحيد الموجود حينها بحضرموت إلى جانب قاعة عرض دار المستشارية بالمكلا هي قاعى مخصصة لموظفي إدارة المستشارية وأغلبهم من الإنجليز..وبعد أن قضيت وقتاً ممتعاً مع ذلك “الفيلم” عدت إلى المنزل وقبل أن آوي إلى فراشي ألقيت نظرة فاحصة إلى من يشاطرني تلك الغرفة التي أطلق عليها “سفينة نوح” والتي كانت تحوي خليطاً من البشر تنوعت أعمالهم وتعددت مشاربهم واختلفت أهواؤهم وأعمارهم فمنهم الشيخ الكبير كالشيخ علي الملقب “بالبابا” ومنهم الكهل ومنهم الشاب وكنت أصغر راكب في تلك السفينة. وسوف أذكر بعض الرموز التي كان لها وزن كبير في السفينة وأولهم الشيخ محمد عبدالله بن طاهر باوزير وهو من أقدم موظفي ذلك المصرف ويكاد يكون اليد اليمنى للشيخ الكبير عمل في أول حياته في التربية بحضرموت مديراً لبعض المدارس في المكلا والغيل وقد استقال في وقت مبكر من حياته وانضم إلى الشيخ الكبير في أعماله التجارية وهو حكيم السفينة وعاقلها ويأتي بعد ذلك شيخ ظرفاء السفينة أحمد سالم بن طاهر باوزير والملقب “ شيخ بحر” وقد أطلق عليه ذلك اللقب لتقلباته في حياته حيث أنه لا يستقر في أي عمل ولا يستطيع المكوث في أي بلد مدة طويلة فهو غريب الأطوار، إلا أنه رغم ذلك ظريف في حديثه يقول النكتة ولو على نفسه ينظر إلى الحياة نظرة عابثة غير مبالٍ بها ولهذا فإنه لم يفلح في التجارة التي كان يعمل بها والده في الصومال ولهذا فقد آثر الكسل وظلت”سفينة نوح” وطنه وعشه الذي كلما طار عنه عاد إليه يمارس فيها طقوس الظرف والفكاهة وكلما احتاج إلى النقود مد يده لابن عمه الشيخ الكبير الذي لا يبخل عليه بين آن وآخر ويعتبر شيخ هذا ملح طعام السفينة وملطفاً لهوائها المليء بالمعاناة التي يقاسي فيه سكانها الكثير من البؤس جراء الجري وراء لقمة العيش ومن الأهواء التي تمتلئ بها نفوس ركاب تلك السفينة غير المتجانسة.. هذا إلى جانب خالي محمد وابن خالي سعيد “عبدالله” وهو الابن الأكبر له والذي سبقنا إلى عدن،ثم يأتي بعد ذلك عدد من الكومبارس منهم مسؤول المكتب “أحمد صالح القرح” وهو شاب من الشحر ظريف المعاشرة وله ضحكة معروفة يمتاز بها ثم سائق سيارة الشيخ الكبير”خميس باوزير” وهو رجل قصير القامة ممتلئ الجسم أسمر اللون وله أطراف غليظة وخصوصاً قدماه التي يندر أن يجد لها حذاء يناسبها في السوق,ثم فراش المكتب وهو شاب نسيت اسمه الآن يقوم بإحضار الطلبات ومكلف بعمل الشاي على “السماور” هذه أولى طلائع “سفينة نوح” التي كانت تدير دفة السفينة في سنواتها الأولى وينضم إليها بين وقت وآخر قيادات جديدة شابة تواصل الإبحار بها في بحر الحياة المتلاطم. ولكن من ذكرناهم ليس هم كل سكان السفينة فللسفينة ركاب آخرون يعيشون على هامشها وهؤلاء لا يمكن إحصاؤهم فهم عابرو سبيل فيها، أعداد كبيرة تتوافد عليها من شتى بقاع العالم العربي وبعض مدن آسيا، وأفريقيا، هؤلاء هم من الحضارم المغتربين.. جنود مجهولون شرقوا وغربوا وغادروا مدنهم وقراهم، وانتشروا في شتى مدن العالم وهمهم إيجاد اللقمة لأولادهم الذين خلفوهم وراءهم ،هؤلاء هم بسطاء الناس الذين لا يحسنون الإبحار في أعماق الحياة، واكتفوا بأن يعيشوا على الضفاف يلتقطون حفنات النقود التي يجود بها عليهم كبار القوم هناك، فيعودون إلى أهلهم مسرورين وكأنهم ملكوا الدنيا بأسرها فيمكثون عند أهلهم شهرين أو ثلاثة ولما تنتهي ما معهم من نقود يعودون إلى المهجر من جديد لالتقاط أخرى ترطب شفاه أولادهم من ظمأ العيش، وهكذا فهم في سفر دائم يدورون في حلقة مفرغة حتى يأتيهم الموت الذي ربما يباغتهم في مهجرهم أو في السفن التي تنقلهم فيكون البحر مقبرتهم، في هذه السفينة أخذت لي ركناً قصياً متشبثاً بألواحها العتيقة، في محاولة لأن أشق طريقي مع هذه المجموعة من رفاق السفر الذين من حولي. لقد كانت هذه تجربتي الأولى التي أغادر فيها بلدي وأعيش مع أناس أغراب عني،أنا الذي كنت قبل وصولي عدن أهيم في شوارع مدينة الغيل وأسرح في بساتينها أحلم بمصباح علاء الدين السحري الذي سوف يلبي لي كل طلباتي في غمضة عين دون تعب أو كلل .. في هذا السكن ومع هذه الشلة وجدت نفسي وحيداً منزوياً أحمل على ظهري عقد الماضي من انطوائية واتكالية وفقدان للإرادة القوية، مشبعاً بالخوف الذي زرعه فينا أهلنا منذ الطفولة، هذا الخوف هو الذي أضعف إرادتنا التي بدونها لا نستطيع أن نشق طريقنا إلى النجاح في الحياة، ولولا وجود شيء من اللماحية والذكاء في الذهن، والذي ربما أنه كان مختبئاً في تلافيف المخ ورثته من بعض الأجداد والأخوال لبقيت على خمولي إلى ما شاء الله، هذا البصيص من الإرادة أخذ يظهر على تصرفاتي شيئاً فشيئاً في الفترات الصعبة من حياتي، حيث كنت أتمرد على الطباع الضعيفة التي تربيت عليها ليأخذ مكانها تمرد وخروج عليها، ولو أن هذه الإرادة تعجز حيناً في شق طريقها لتتراجع إلى الخلف في بعض الأحيان وتعود إلى طبيعتي الضعيفة المتكاسلة تاركة للعواصف والأنواء أن تجرني إلى حيث تشاء, دون أن أبدي مقاومة تذكر. هذه السفينة لعبت دوراً كبيراً في حياتي وحياة من عاش فيها، أو حتى من مر بها، فهي تعتبر تاريخاً ليس لروادها فحسب ولكن لمدينة عدن وللوطن اليمني بكامله، حيث كانت تمثل الحياة بكل تناقضاتها سلبياتها، وإيجابياتها، أفراحها وأحزانها وهي تسير وسط موج يرفعها تارة ويخفضها تارة أخرى تارة تتجه شرقاً وتارة تتجه غرباً، ناس يظهرون عليها وآخرون يختفون،هذا السكن هو الذي استوحيت منه روايتي القصيرة “ سفينة نوح” التي نشرت مسلسله عام 1971م بمجلة “الفنون” التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة بعدن ثم صدرت في كتيب عام 1981م عن مؤسسة 14 أكتوبر للطباعة والنشر هذه الحكايات المستوحاة من ذلك السكن هي جزء من قصة حياتي وحياة من عاش في تلك الفترة والتي سأنقل لكم منها نتفاً خلال هذه السيرة لأنها تعد محطة هامة من حياتي وجزءاً من تاريخ عدن في تلك الفترة التي عشت فيها منذ وصولي عدن عام 1954م وحتى قبيل الاستقلال.