بعد استقالتي من عملي بعدن وعودتي إلى مدينة “غيل با وزير” كانت الأجواء السياسية والوطنية قد نشطت في حضرموت وذلك بفضل ثورة يوليو المصرية بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر، وبما تبثه خطاباته الوطنية إلى الأمة العربية من حماس ودعوته لها بالتحرر من الاستعمار، ولهذا فقد أخذ الوعي الوطني ينتشر بين الشباب المتعلم وبعض فئات الشعب، ساعد في ذلك تحرر بعض الأقطار العربية والأفريقية في تلك الفترة، وأذكر أن الحاج سالمين حسين الحضرمي الشخصية الظريفة المشهورة بالغيل قد احتفل عام 1960م باستقلال الصومال وذلك تكريماً للصومالي الوحيد الذي يعيش في الغيل وهو “الحاج فارح” بائع الموز والمطبق، وكان من عادة الحاج سالمين الحضرمي منذ بداية الستينيات العمل على إقامة حفلة غنائية في مقهاه في ثاني يوم لكل من عيدي الفطر والأضحى، كان يقدم فيها إلى جانب الأغاني العاطفية التي يغنيها بعض مطربي الغيل وعلى رأسهم حينذاك الفنان عبدالله محمد بلحيد، كان سالمين يقدم بعض المنلوجات التي يقوم هو بتأليفها وتلحينها وأدائها في مثل تلك الحفلات، وقد قمت بتأليف منلوج قام هو بتلحينه وتأديته في إحدى حفلاته تلك وكان مقدم الحفل ليلتها صديقي المرحوم “عبدالله بن سلمان” أحد شهداء طائرة الدبلوماسيين المشئومة، قلت في مطلع هذا المنلوج: كل عام وأنتم بخير يا أهل غيل آل با وزير كل عام كل عام كل عام وأنتم بخير
يا محمد يا عمر قم واستيقظ وثر شف بلادك تحتضر مالها حد شي نصير كل عام كل عام كل عام وأنتم بخير
كم من أيام تمر وأنت نائم عالحصير إلى متى باتنتظر للمقدر والمصير كل عام كل عام كل عام وأنتم بخير وكان الحاج سالمين في تلك الفترة يصدر مجلة خطية أطلق عليها اسم “بالأحضان” وانظر إلى هذا الاسم الذي تحس بالدفء عندما تنطقه فهو اختيار موفق يدعو إلى الأخوة والتسامح، وكانت مواضيع تلك الجريدة سياسية واجتماعية وتستعمل سلاح الفكاهة والنكتة التي يجيدها سالمين، وكان خالي سعيد قد انتقل في مطلع الستينيات من بيته القديم الذي يقع داخل الغيل إلى بيته الجديد بالصالحية الذي يقع أمام المدرسة الابتدائية، في هذا البيت وفي الغرفة التي تشغلها حالياً جمعية أصدقاء سعيد عوض باوزير الثقافية، في هذه الغرفة وعلى ضوء الفانوس الخافت وقبيل شروق الشمس كان يكتب مقالاته المشهورة “من الخميس إلى الخميس” التي كان يذيلها باسم “عصام” هذه المقالات التي كانت تنشر أسبوعياً في صحيفة الطليعة الحضرمية منذ تأسيسها عام 1959م وحتى توقفها في عام 1967م كان يترقبها الكثير من المثقفين في حضرموت لما تحتويه من موضوعات ثقافية وسياسية وفنية، كان يتطرق فيها إلى جانب المواضيع التي تهم حضرموت واليمن كافة إلى العديد من القضايا العربية التي تهم المواطن الأدبي ولكنه مع ما يدور بداخله من مواضيع جادة إلا أنه يعتبر صالوناً شعبياً يؤمه الكثير من مواطني الغيل البسطاء من شباب وكهول.. طلبة ومدرسين حيث يفترشون أرضية الساحة التي تقع أمام بيته على حصر بسيطة، تبدأ تلك الجلسة ما بعد الخامسة مساء لتستمر إلى ما بعد الثامنة وكنت أواظب يومياً على حضور تلك الجلسات التي يتصدرها خالي وكان رحمه الله واسع العلم وصاحب فكر لماح وذهن يقظ ومطلعاً اطلاعاً واسعاً على قضايا الساعة التي كانت تعرض حينها بالصحف والإذاعات وكان إلى جانب ذلك حلو الحديث محباً للنكتة، ولهذا فقد كان الحاج سالمين من المقربين إليه، يستدعيه إلى تلك الجلسة بين آن وآخر فتضج تلك الجلسة بالضحكات بعد أن تكون قد أجهدت بالنقاشات الوطنية والثقافية الجادة.. في هذا الجو الذي وصفته كان وصولي إلى الغيل لأقضي أكثر من شهر مستمتعاً فيها بمثل تلك الجلسات المسائية، وبجلسات خاصة كنت أقضيها مع خالي بمكتبة المعارف التي كان يديرها، وعلى الرغم من الفراغ المتوفر لدي في تلك الأيام إلا أنني لم أنجز أي عمل أدبي، ففراغي من أي عمل وخلودي إلى الراحة لا يحفزني على الإنتاج الأدبي، وعلى عكس ذلك فانشغالي وانهماكي بالأعمال العامة التي أقدمها للمجتمع، واختلاطي بالناس في العمل والشارع يعطيني دفعة قوية إلى الكتابة، مستوحياً مواضيع قصصي ومسرحياتي من تلك الجموع التي تمر من أمامي ومن خلفي، منفعلاً معها في معاناتها اليومية أقاسمها تطلعاتها في الحياة، هذه العادة أصبحت قاعدة أساسية لي سرت عليها حتى اليوم، فلدي في ذهني جهاز دقيق يلتقط المشاهد واللقطات المتنوعة من الحياة التي أراها أمامي كل يوم، لأختزنها واستفيد منها في تطعيم أعمالي القصصية والمستمدة من الواقع، كما أن لدي إلى جانب هذا الجهاز “النقال” جهاز آخر يهديني إلى أماكن الخلل في المجتمع الناتج من الأخطاء التي يرتكبها بعض الأفراد سواء أكانوا في الحكومة أم خارجها، هذا الجهاز بمثابة “البوصلة” التي يحملها البحار على سفينته لتهديه إلى الطريق، بهذين الجهازين اصطاد مواضيع قصصي حتى إذا ما وضحت الفكرة لدي بدأت في تصوير شخصيات القصة فأضع لها السيناريو والحوار، كل هذا يجري في ذهني لتبقى بعد ذلك وقتاً حتى تختمر تماماً ويلح أبطالها على الخروج إلى الحياة، عند ذلك وحين تجيء ساعة الولادة هنا أبسط أوراقي وأضع قصتي، فلا يهم أين أكون، ربما على قارعة الطريق، تحت ظل جدار، أو تحت شجرة أو على مقعد بأحد المقاهي، فأنا عادة أضع بمحفظتي التي أحملها عدداً من قصاصات الورق، على هذه القصاصات أضع قصتي ثم إذا عدت إلى البيت نقلت ما على هذه القصاصات إلى دفتر من الدفاتر التي يستعملها طلبة المدارس، لتبقى تحت نظري فترة أخرى من الوقت أقوم بمراجعتها مراراً فأشطب هنا وأزيد في مكان آخر.. بعد ذلك أعود إلى كتابتها من جديد.. وبعد مرور فترة أخرى أقوم بتنقيحها حتى أرضى عنها بعد ذلك أبيضها لأقدمها للنشر.. هذه هي قاعدتي في كتابة القصة، وإن تغير فيها شيء الآن بعد تقاعدي عن العمل ومزاحمة العلل التي تشل أحياناً تفكيري أو تقعدني في البيت فأتوقف تارة وأنشط كلما صفا الذهن وحملتني قدماي إلى الشارع لأمارس اصطياد مواضيعي القصصية.. ولهذا فإنني خلال تلك الفترة من إجازتي في الغيل لم أكتب شيئاً، ولكن كنت أخصص وقتاً فيها للقراءة، وكان بمكتبتي حينذاك مجلدان من المسرحيات القصيرة ذات الفصل الواحد للكاتب الكبير توفيق الحكيم هما “مسرح المجتمع”، و”المسرح المنوع” فعكفت على قراءتهما، هذه القراءة المتأنية لهذه المسرحيات المتنوعة، حفزتني على كتابة شيء منها ذلك الحين لأن ذلك يتطلب مني كما ذكرت سابقاً الانهماك في الحياة وهو الذي لم أبدأ به بعد، ولهذا انتظرت حتى بدأت عملي الجديد، وكنت قد قررت عدم العودة إلى عدن والبحث عن عمل في مسقط رأسي أو في المكلا لقربها من مدينة الغيل وكان حينها خالي أحمد عوض باوزير قد أنشأ إلى جانب صحيفته الطليعة قسماً تجارياً واستقدم مطبعة خاصة بطبع فواتير البيع والشراء وسندات الصرف والقبض ولما عرض عليَّ العمل معه بذلك القسم وافقت على الفور، فقد فكرت أن عملي بدار صحيفة الطليعة، واقترابي من العمل الصحفي الذي يديره خالي أحمد سيوفر لدي شيئاً من التجارب والمعارف الصحفية إضافة إلى أنه سيوفر لي نشر كل أعمالي بالصحيفة، كما أنني بوجودي بالقرب منه ومن خالي سعيد سوف أحظى منهما بالتوجيه والعناية في مجال إنتاجي الأدبي وبالأخص وأنا في أولى خطواتي، وهكذا بدأت العمل بدار الطليعة، كنت أقضي في المكلا خمسة أيام وفي اليوم السادس وهو يوم الخميس الذي تخرج فيه الصحيفة إلى الأسواق، كنت أعود عصر ذلك اليوم إلى الغيل لأقضي مساء ذلك اليوم وصباح ومساء الجمعة بين أسرتي، وفي السادسة من صباح السبت أتوجه إلى المكلا لأباشر العمل، وفي الحقيقة فإنني طول إقامتي في المكلا لم أكن أحس فيها أنني غريب فقد كنت أعيش مع خالي سالم وهو أصغر أخوالي وخالي أحمد نفسه اللذين استأجرا لهما منزلاً يقع أمام المبنى الذي تحتله دار الطليعة مكان عملي، وكان يسكن معي أيضاً ابن خالي سعيد، عبدالله سعيد، وهو النجل الأكبر له.. وقد التحق بالعمل بدار الطليعة قبلي بعد عدة سنوات قضاها يعمل في عدن وهو أحد نزلاء سفينة نوح قبل التحاقي بها. هذه الدار التي تأسست بها دار الطليعة تقع في حي “برع السدة” وهو حي قديم بني قبل أن تبنى بوابة المكلا المشهورة التي هدمت بعد الاستقلال، لتحل محل البوابة القديمة ليصبح ذلك الحي وقصر النعيم وأبنية المستشارية وغيرها داخل حي المكلا نفسها وبقي ذلك الحي يحمل اسم “برع السدة” حتى اليوم وبجانب “جابية حطبينه” التي تعتبر المصدر الوحيد لمياه شرب أهالي المكلا قبل أن تدخل الأنابيب إلى البيوت وكانت “الجابية” عبارة عن خزان كبير من الاسمنت، يتدفق إليه الماء من “البقرين” خارج مدينة المكلا بواسطة أنابيب، في هذا الحي نفسه وخلف البيت الذي نسكنه يقع بيت الفنان الكبير محمد جمعة خان كما يقع بجانب “جابية حطبينه” بيت الفنان “بن غودل” في ذلك الحي استقر بي المقام، وإلى جانب عملي ذاك الذي هيأ لي الاختلاط بكثير من المثقفين الذين يلتقون بخالي أحمد، كنت قد وطدت صلتي بالمكتبة السلطانية أتردد عليها بين آن وآخر، وبعد تفاعلي بالمجتمع من حولي تحركت في نفسي غريزة الكتابة، وهكذا ولم تمض أيام قلائل حتى كتبت أولى مسرحياتي القصيرة كنت متأثراً فيها بأسلوب الكاتب العربي “توفيق الحكيم” وكانت تلك المسرحية باسم “المحاكمة” وهي مسرحية سياسية فكاهية استمديت موضوعها مما يجري على ساحة حضرموت حينها من مد ثوري وطني بدأ يتبلور، هذه المسرحية نشرت بصحيفة الطليعة يوم 1 /3/ 1962م بعد أقل من شهرين من وصولي من عدن، وقد ضمت فيما بعد إلى مجموعتي الأولى “الرمال الذهبية”، تحكي هذه المسرحية قصة شاب وطني غيور اتهمته السلطات بأنه يدعو إلى التحرر والمساواة والعدالة الاجتماعية، وتتم محاكمته بعد منتصف الليل ودون أن يعلم أحد بتلك المحاكمة الصورية، وذلك مخافة أن يعلن أنصار ذلك الشاب بميعاد المحاكمة، ولما لم يجدوا من يكون شاهداً يشهد ضده، فقد أوعزوا لأحد حجاب المحكمة أن يشهد ضده بعد أن لقنوه ماذا يجب أن يقول ليلة المحاكمة، ويتصادف أن يتغير ذلك الحاجب في نفس يوم المحاكمة ويحل محله آخر من مدينة أخرى لا يعرف شيئاً عن أمر تلك القضية، الملفقة، وهكذا تنتهي المحاكمة بمهزلة، بعد نشر تلك المسرحية الأولى، جاءت مسرحيتي الثانية “الضحية” ناضجة وقد تخلصت من أسر تأثير الحكيم وأطول من الأولى وكنت قد استوحيت موضوعها من خبر قصير نشر على صفحات الطليعة عن واقعة حدثت بوادي حضرموت، يفيد ذلك الخبر أن فتاة رمت بنفسها في بئر عميق بعد أن أشاع عنها أهل قريتها بأنها حامل سفاحاً، على هذا الخبر بنيت مسرحية “الضحية” وكيف أن إشاعة كاذبة تكون مصدراً لعذاب فتاة بريئة، وقد نشرت هذه المسرحية بالطليعة يوم 26 /4 /1962م وضمت أيضاً إلى مجموعة “الرمال الذهبية” بعد هاتين المسرحيتين كتبت عدداً آخر من المسرحيات ونشرتها بالطليعة كانت تعالج بعض المواضيع الاجتماعية والسياسية وكانت آخر مسرحية كتبتها هي مسرحية “انتصار السلام” وهي طويلة نسبياً وقد نشرت بالطليعة في عددين الفصل الأول يوم 29 /11 /1962م والفصل الثاني يوم 6 /12 /1962م وهي تعالج موضوع الصواريخ التي نصبتها روسيا في كوبا ضد أمريكا والتي كادت تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة، بعد نشر هذه المسرحية عدت إلى كتابة القصة القصيرة فكتبت قصة عن معاناة المزارعين في غيل باوزير في زراعة “التمباك” بعنوان “شجرة الشيطان” وقد اختارتها إدارة المناهج بعد الاستقلال لتكون ضمن نصوص كتاب القراءة للصف السابع موحد وما زالت حتى الآن، أما آخر قصة نشرن بالطليعة فقد كانت قصة “المتسللون” التي نشرت يوم 11 /4/ 1963م استوحيت أحداثها من ثورة 26 سبتمبر وقبلها كنت كتبت قصة “المبروك” وهي عدن الشعوذة مستلهماً ظهور مشعوذ ظهر في قرية “جعيمة” في وادي حضرموت أثار ضجة كبيرة بين المواطنين السذج وكان يداوي كل الأمراض بخاتم عادي، وكانت القصص الثلاث التي كتبتها في عدن وبعض المسرحيات القصيرة التي كتبتها في حضرموت ونشرت بصحيفة الطليعة نشرتها باسم مستعار هو اسم “عبده” فلم أكن حينها واثقاً من نفسي، ثم إنه كان لي غرض خاص بذلك ، فقد كنت أريد أن أعرف رأي النقاد فيما أكتبه دون أن يجاملني أحد من المقربين إليَّ رغم أن أحداً لم يكتب شيئاً عن تلك القصص والمسرحيات، إلا عام 1977 فيما كتبه الدكتور عبدالحميد إبراهيم إلا أنني استفدت من النقد الشفهي الذي كنت أسمعه من بعض المترددين على خالي بدار الطليعة من المدرسين والمثقفين وحتى من عامة الناس الذين كانوا يتفاعلون مع ما أنشره.. هذا النقد ما كنت سأحصل عليه لو علموا بأنني أنا شخصياً كاتب تلك القصص والمسرحيات، بعد ذلك وبعد أن تأكد لي أنني قد نجحت وأنني راضٍ عما كتبته أطلقت اسمي من قمقمه ليرتفع عالياً على رأس القصص والمسرحيات التي كتبتها فيما بعد..