(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة. فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية) في الأيام الأولى لوصولي عدن، وبعد أن تعرفت على رفاق سكن “سفينة نوح” الذين سيشاركونني رحلة حياتي العملية، وجدت أن هناك بعضاً من الرفاق لم ألتق بهم، ولم أتعرف عليهم، شابان من إحدى المحافظات الشمالية، كانا يعملان حمالين في المحل التجاري الذي يقع أسفل تلك العمارة والتابع للمصرف، كان أحدهما ويدعى “اليريمي” شاباً قوي البنية طويل القامة وله عضلات فولاذية اكتسبها من مهنته التي يعمل بها أما الآخر ويدعى “العمري” فهو أقصر من صاحبه ولكن في متانته وكانا غالباً لا يصلان إلى المنزل إلا في وقت متأخر من الليل، وقد أوى أكثرنا إلى النوم، وإن كنت قبل أن التقي بهما في السفينة ألحظهما بذلك المتجر يعملان في جد ونشاط، وهما يحملان الصناديق أو البالات الضخمة وهما داخلان أو خارجان من ذلك المتجر، لم أدر في أول الأمر أين يقضيان تلك الليالي؟ لكني علمت فيما بعد أنهما كانا من هواة المعارك، قد كانت حواري عدن وشوارعها ذلك الحين مسرحاً للمعارك التي تدور رحاها بين بعض الحارات، وكان لكل حارة من هذه الحارات فتواتها من الشباب الأقوياء، هذه المعارك غالباً ما تدور في وقت متأخر من الليل سلاحها العصي الغليظة والهراوات القصيرة وأحياناً “البواكير” جمع باكورة، من بين تلك الحارات المتصارعة حارة حسين حارة الطويلة حارة القطيع وغيرها، هذه المعارك جذبت رفاقنا الاثنين ولعلهما وجدا فيها بغيتهما في إظهار شجاعتهما وقوتهما بين تلك الفتوات المتحاربة، والعجيب في الأمر أنهما لا ينتميان إلى أي حي من الأحياء التي تخوض تلك المعارك، ولكنهما كانا يقومان بعملهما هذا حسب مزاجهما حباً في العراك وأحياناً ينحازان إلى الجهة الضعيفة من المتحاربين فيشدان من إزرها حتى تنتصر على الأخرى وقد يقومان في ليلة أخرى بضرب تلك الحارة التي شاركا معها في العراك ولهذا فقد كانا يصلان إلينا بعد انتهاء تلك المعارك وقد تورمت عين أحدهما، وشج رأس الآخر، وفي الصباح يقومان بعملهما بنشاط وكأن شيئاً لم يجر لهما، حتى إذا جن الليل بادراً إلى مزاولة هوايتهما الخطيرة تلك حتى تدخلت بعد ذلك الشرطة وأوقفت تلك المعارك بل ومنعت حمل الهراوات الثقيلة في مدينة كريتر. في أحد أيام الأسبوع الأول لوصولي أمطرت السماء ولكن بصورة خفيفة وقد كنا في حاجة ماسة إليها وذلك حتى تبرد الأرض التي كانت أيامها تشتعل ناراً، لكن هذه القطرات القليلة تسربت عبر سقف غرفتنا لتتساقط علينا، كنا حينها قد أوينا إلى فراشنا وإن لم نكن قد استغرقنا في النوم، ولهذا فما إن تساقطت أول قطرات على رأس أحدنا حتى هب الجميع في وثبة واحدة يطوون فرشهم ليجنبوها البلل ثم أخذ كل واحد منا يعتلي فراشه كما يعتلي الفارس خيله وأخذ يسوق فراشه إلى المكان الأقل ضرراً.. حتى أصبحت تلك الغرفة ميدان معركة أخذت فيها الفرسان تصول وتجول توقف المطر لتعود جميع الفرشان إلى قواعدها سالمة ليواصل الجميع نومهم، وكنت ليلتها أخيب الفرسان فقد احتلت صناديد الخيالة الأماكن الآمنة من المطر ولم تخل لي إلا بقعة كان المطر يصب عليها كالشلال ولهذا فقد ابتلت ملابسي وابتل فراشي، ليلتها لم أنم أن جيداً لأني حينها كنت أتقلب على أرض الغرفة المبللة بعد أن امتص فراشي كل ما على الغرفة من مياه وصرت أترقب طلوع الصباح.. وما إن بدأت طلائعه تنهل على سطح الغرفة وتتسرب إلى الداخل حتى نهضت من نومي حاملاً فراشي الذي كان في ثقل الرصاص لأنشره بذلك السطح، وبينما أنا كذلك إذا بي أسمع من يرتل القرآن بصوت رخيم شدني إليه، فمكثت برهة استمع إليه وقد أضاف إليه السكون الذي كان مطبقاً على المكان رهبة وسحراً.. لكن شيئاً فرقع حولي بعنف ليطغي على ذلك الصوت السماوي الجميل ويوقفه، ولما استمر ذلك الصوت في قصفه وتلفت حولي حتى تبينت مصدره امرأة تصرخ بعبارات هي خليط من اللغة الهندية مطعمة بجمل من اللغة العربية التي لم استطع أن أفهم منها إلا كلمات سباب عنيف يتردد بين آن وآخر وهي جملة “لعينة الملعونة” أما الباقي فلم أفهمه، بعدها سمعت صوت ذلك الرجل الذي كان يرتل القرآن يرد على المرأة باللغة العربية طالباً منها أن تسكت ليواصل قراءته، وكان يردد كلمة “أماه” وقد علمت فيما بعد أن هذه الأسرة التي تسكن بجوارنا هي من أصل “هندي كشي” مكونة من الأم وهي يمنية من “دبع” وولديها الشابين اللذين رباهما أبوهما الهندي على التعاليم الإسلامية الحنيفة لكن الأم التي اقترنت بأبيهما ظلت على حالتها التي كانت عليها في الريف اليمني بدبع من حدة الطبع وسلاطة في اللسان، ولهذا فقد كان من عاداتها صباح كل يوم أن ترسل ذلك “الموال” الذي هو خليط من اللغة الهندية واللهجة الدبعية لتكون منها تلك القذائف التي ترسلها على أبنها الوديع صباح كل يوم، وهكذا تعكر صفو ذلك الصباح الجميل من أوله، كما تعكر صفو ليلى بهطول تلك الأمطار التي كان نصيبي منها الشيء الكثير، بعد أن صليت الصبح خرجت إلى الشارع وما زالت أرضيته مبللة بماء المطر، وقد تكونت هنا وهناك بعض البرك الصغيرة وقد انعكس هذا على الجو من حولي الذي أخذت نسماته تهب عليَّ باردة منعشة فوقفت استمتع بتلك النسمات إلى أن أيقنت أنها ستزول سريعاً عندما تفاجئها أشعة الشمس الحارة، وقفت أمام باب العمارة وقد أخذ ذهني يستعرض المحلات التي أمامي ومن حولي والتي ارتبط بعضها بمسكننا “سفينة نوح” وكأنني استطلع صفحة من صفحات المستقبل.. كان أقرب محل إلينا هو “مشرب الحنكة” الذي يقع قبالة باب المنزل الذي أقف أمامه وهو مشرب يبيع عصير الليمون وكان صاحب هذا المشرب حينها أشهر بائع لهذا الشراب في حي كريتر حيث كان قبلة للكثير من الرجال والنساء.. كما كانت تقف أمامه العديد من السيارات لتتزود بذلك المشروب المنعش الذي يخفف عنهم بعضاً من شراسة ذلك الجو الحار، صاحب هذا المشرب من إحدى المحافظات الشمالية وكان يسكن في نفس ذلك المشرب في الجانب الداخلي منه والذي ليس له منفذ غير ذلك المشرب.. في هذا الجزء الداخلي الصغير الذي اقتطعه من ذلك المشرب كدس الحنكة حريمه، حيث يقال إنه متزوج من ثلاث نساء كلهن من قريته، وهناك من يقول إنه متزوج من امرأتين فقط والله أعلم، الشيء المدهش والعجيب في الأمر أنني في فترة السنوات التي قضيتها في سفينة نوح لم أر لحريمه حساً، لا صورة ولا صوت، فلم أر أحداً من حريمه تدخل أو تخرج من ذلك المشرب! لكنني كنت ألمس نتيجة ما يدور كل ليلة داخل تلك الزنزانة والمتمثلة في خروج طفلين بعد كل سنة إلى الخارج يتعثران في سيرهما بما يدل دلالة قاطعة أنه متزوج من زوجتين إلى جانب ذلك المشرب، من الشمال يقع منزل الشيخ ذيبان وهو صديق للشيخ الكبير، بينما يقع في الجهة الجنوبية منه والتي على مدخل الزقاق المؤدي إلى سوق البهرة “مقهي الهبوب” الذي يمدنا يومياً بأقراص “الخمير” والشاي “والملاي” يلي تلك المقهى “بيت الحبشي” وهو من أصل هندي كشي وصاحب البيت رجل طيب ذو أخلاق فاضلة امتدت بيننا وبين أولاده الذين كانوا حينها في مثل سني وسن ابن خالي أمين سعيد أواصر من الصداقة الوطيدة، وفي ذلك الزقاق الذي يؤدي إلى سوق البهرة كما ذكرنا يقبع دكان صغير هو دكان “راوره” بائع التمبل الشهير.. وكان له عربة يسرح بها في شوارع عدن ينادي على بضاعته من العشار الهندي الذي يفضله الكثير من الهنود وبعض أهالي عدن.. ومن الأماكن المهمة في شارعنا ذاك بيتان يقعان في نهاية ذلك الشارع من جهة الشمال والمطل على شارع أبان أحدهما في الجهة الغربية وهو منزل “باشنفر” وهو من البيوت التجارية المشهورة في ذلك الحين بينما يقع البيت الآخر قبالته من الجهة الشرقية وهو بيت “باعبيد الصافي وغيرهم من تجار عدن العرب حينذاك.. أما إذا استعرضنا بعض الأماكن التي كانت قائمة حين وصولي واندثرت بعد ذلك بحكم التجديد الذي طرأ على مدينة عدن فإنني أذكر موقع شرطة كريتر القديم الذي كان يقع على مدخل شارع الطويل وفي المكان الذي يحتله اليوم بعض بائعي المشموم أمام سوق القات لينتقل إلى الهضبة بجانب كود الحشيش وإلى مكانه الحالي الذي كان يشغله حينذاك المستشفى الجمهوري الحالي بعد أن تم بناؤه، هذا المستشفى الذي وضعت له حجر الأساس ملكة بريطانيا عند زيارتها لعدن عام 4591م، وكان ذلك قبل وصولي إليها بشهرين أو ثلاثة أشهر تقريباً، كما كان يقع بجانب مركز الشرطة الذي ذكرناه موقف لعربات الخيل التي كانت الوسيلة المفضلة لأهالي عدن في التنقل بين أحياء كريتر حيث ينعم فيها الراكب بالراحة ويتمتع بالهواء الطلق على عكس السيارات التي يحس الشخص وهو بداخلها بالاختناق، كما أذكر أنه كانت توجد بشارع الزعفران وفي المكان الذي يشغله حالياً الحلاقون بئر واسعة مدورة يمكن أن تلتف حولها ثماني نساء دفعة واحدة ليقمن برفع الماء منها.. كما أن هناك بعض المقاهي المشهورة التي أزيلت مثل “مقهى فارع” التي كانت تبيع إلى جانب الشاي اللبن الطازج الذي يأتيها صباح كل يون من الأبقار التي يملكها صاحبها والتي تقع في زرائب بحارة القطيع المتاخمة للجبل، كما كانت هناك العديد من المكتبات التي كانت تزخر بالكتب الفكرية المتنوعة التي تصل إليها من مصر ولبنان وسوريا والعراق منها مكتبة”الزغير” و”عطا” “وهبة الله” ولم يبق منها اليوم سوى مكتبة عبدالحميد عبادي، هذه المكتبات وخاصة مكتبة عبادي كانت قبلتي وملاذي الذي أقضي فيه أوقاتي صباح كل يوم عند وصولي عدن وقبل حصولي على العمل الذي شغل كل وقتي، ولأنني كنت حينها لا أملك ما أشتري به قيمة صحيفة واحدة فقد كنت أقضي وقتي في تصفح الصحف والمجلات والكتب وأخرج منها عند الظهر وفي نفسي ألف حسرة على عدم اقتنائي لصحيفة أو مجلة أو كتاب من تلك المطبوعات، مكان آخر كنت أتردد عليه في أول أيام وصولي عدن، فإلى جانب زيارتي لتلك المكتبات وبعد أن مللت لعبة التصفح هذه والتي تقلصت إلى يومين في الأسبوع تعرفت على “مطعم التركي” لا لأتناول طعامي فيه فقد كان حينها مطعماً للنخبة من ذوي اليسار، ولكنني اكتشفته ذات ليلة بالصدفة وأنا في طريقي إلى حقات وحينما دخلت لأتناول مشروبي الأسبوعي “الكوكاكولا” وهو المسموح لي شراؤه في ظل التقشف الذي كنت أمشي عليه وما إن تناولت أول رشفة منه إذا بعيني تقعان على إحدى الرسومات المعلقة على جدران ذلك المطعم.. هنا شعرت بأن كياني يهتز وعيني تتسمران على تلك اللوحة الزيتية التي كانت تحمل منظراً طبيعياً خلاباً وعندها التفت إلى ما حولي من اللوحات الأخرى التي كان يغص بها المطعم، ومن ساعتها صرت أسير ذلك المطعم أجيء إليه صباح كل يوم ولكن كمتفرج فقط ودون أن أطلب طعاماً أو أي نوع من المشروبات التي يتعود على طلبها كل من يدخل إليه وذلك بعد أن علم عمال ذلك المطعم أني قريب للشيخ الكبير الذي كان صديقاً حميماً لصاحب ذلك المطعم، لذلك سمحوا لي بالتردد عليه وهكذا صرت مدمناً على الحضور إليه يومياً أجلس الساعات وأنا أتطلع إلى تلك اللوحات التي أسرتني حتى حفظت كل خطوطها وألوانها، وأشجارها وأنهارها، وما إن وقعت في يدي أولى طلائع النقود حتى اتجهت إلى سوق البهرة لأشتري أول علبة لمعاجين الألوان الزيتية مع عدد بسيط من ألواح “المسنيت” التي أخذت أرسم عليها أولى لوحاتي.. ومن ذكرياتي لتلك المرحلة هو ترددي أنا وشلة سفينة نوح على زيارة “بستان الكمسري” بالشيخ عثمان الذي كان حديقة غناء يمتلئ بالأشجار الظليلة وتكتسي أرضيته بالأعشاب الخضراء الكثيفة فكنا في ظهر كل جمعة نخرج بعد الغداء ونأخذ معنا عدة الشاي “السماور” مع ورق اللعب وحبوب “الحنظل” الزعقة حيث نقضي وقتاً جميلاً وبعد أن نؤدي صلاة المغرب وحينما يحل المساء نعود ليتهيأ البعض من الشباب لقضاء الجزء الثاني من عطلتنا بإحدى دور السينما، هذه هي الاهتمامات الأولى التي بدأت بها حياتي بعدن وبرغم الصحف المحلية التي كانت منتشرة حينها إلا أنني لم أكن أهتم بها لربما لضيق ذات اليد أو لعدم اهتمامي بالسياسة في سني ذلك، لهذا فقد كنت أشغل نفسي بنافذة ثقافية أخرى أطل من خلالها على الأدب والفن دون أن تكلفني شيئاً من النقود.. هذه النافذة هي برنامج ندوة المستمعين الذي تبثه إذاعة لندن مرتين في الأسبوع، هذا البرنامج كان يذهب بي إلى كل البلدان العربية لأتعرف على العديد من الأصدقاء الذين على شاكلتي يتابعون ذلك البرنامج الشيق، وكنت أحياناً أشارك في بعض فقرات ذلك البرنامج بأن أرسل لهم بعض النكات أو بعض الأبيات الشعرية من مخزون ذاكرتي.