كواحدة من بنات قريتها تمضي بها أحلامها نحو دروب الحياة.. بكل حياء وتواضع تنساب خطواتها في الطرقات .. بكل أمان تنظر لطفولتها وهي تكبر يوماً فيوماً.. ثقة واطمئنان كبيران يقودانها للولوج في بوابة الأحلام.. يدفعها شوق وحنين لمعرفة قادم الأيام والذوبان في بحر الأحلام والأمنيات.. تمخر عباب الآلام والأحزان علّها تصل إلى شاطئ الحب والأمان،حيث فارسها الملهم ينتظرها هناك عند الشاطئ على جواده الأبيض.. وسيأخذها إلى ما لا نهاية من الأماني والأحلام.. على جبينها ترتسم لوحة حزينة تُخبرك عنها ملامح وجهها، نقشتها قسوة الأهل والأيام. حزمة من الطلاسم والألغاز طُبعت بها حياتها القصيرة والقصيرة جداً ولم يستطع أحد فك أسرارها. تريد أن تحيا بالحب في زمن الحب فيه عار .. تريد البقاء في زمن الموت. آه .. كم من أحلام نسجت ذاكرتها!! آه .. كم من أمنيات طافت في مخيلتها!! لم تذق طعم الحياة بعد .. “الله .. عادِه ما تهناّش بعمره وشبابه” هكذا صرخت إحداهن.. وأضافت أخرى:” ماتت .. نعم من صدق ماتت”. المكان يعجُّ بالناس.. والنساء غاديات ورائحات في ذهول واندهاش. وهناك في زاوية الغرفة البعيدة تٌسمع حشرجات لصوت خافت.. متقطع .. ينشج بالبكاء.. والأنين.. وثمة آهات تتصاعد أحياناً تكاد لها القلوب تذوب حسرة وألماً.. لا شيء يهدئ من مصابها.. ويخفف حزنها.. بكاؤها وأنينها يمزق نياط القلوب.. إنها الأم المفجوعة بفلذة كبدها.. إنها الأم المذبوحة بسيف الفراق الحزين. الصراخ يملأ المكان .. ورائحة الحزن تفوح من ثنايا الدار.. وتلسع أفئدة السامعين.. لا تكف عن الجريان الدموع الملتهبة بنار القهر والألم. صوب منبع الألم والحزن الذي عمّ أرجاء القرية .. يتسابق الناس زرافات ووحداناً .. تتكاثر الأسئلة وتحضُر الحيرة والظنون ويغيب الصبر واليقين.. نعم ماتت “...”؟ كيف ماتت وعاده جاهل؟! هذا هو السؤال الذي هزَّ كياني. أحدهم قال : لا أستطيع أن أصدق ما حدث .. وكيف.. “صدق أو لا تصدق .. أيوه ماتت” هكذا كان رد صاحبه لكن صوتاً والألم يعتصر قلبها بائساً قادماً من أعلى السُّلم يشق ضجيج ولغط الواقفين: أنتم كذابين .. لا .. لا .. مما تتش أختي”. وفي جو كهذا رائحته البكاء والدموع والألم .. بكى الأخ الصغير فأثار الحزن والشفقة في القلوب.. وكأنه لا يعرف إلا لغة البكاء .. ولا يدري ماذا حصل. آه .. ما أقسى الحياة والموت يغتال الأحلام ويفترس الطفولة والشباب. وما إن بدأت جموع المشيعين بحمل النعش على أعناقهم بدأ الصُّراخ والنحيب يرتفع .. وتعالت أصوات الفتيات مولولات باكيات بحرقة وأسى .. حتى غاب النعش عن الأنظار.. والآن وقد توارى وجهها وكل أحلامها عن الأنظار.. ووري جثمانها الطفولي الطاهر في التراب .. لتستريح في مرقدها الأخير.. دُفنت معها كل تلك الأحلام والأمنيات.. دُفن حلمها .. وضاع أملها .. وبقي ألمها..