باريس سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    مذكرات صدام حسين.. تفاصيل حلم "البنطلون" وصرة القماش والصحفية العراقية    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    كيف حافظ الحوثيون على نفوذهم؟..كاتب صحفي يجيب    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    قيادات الجنوب تعاملت بسذاجة مع خداع ومكر قادة صنعاء    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    على خطى الاحتلال.. مليشيات الحوثي تهدم عشرات المنازل في ريف صنعاء    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر عبد الله البردوني: أضواء على حياته وشخصيته
نشر في الجمهورية يوم 06 - 05 - 2010

هو عبد الله بن صالح بن عبد الله بن حسن البردّوني. وأما عن أصل اسمه فيقول البردوني بنفسه في هذا الخصوص: "عندما جئت أول مرة إلى صنعاء لم يسألوني ما اسمك؟ وإنما قالوا: من أين أتيت؟ قلت: من البردّون فصنعوا لي اسمي فورا، وهذا شائع في البلاد العربية، وربما غيرها، يسألونك من أين جئت، فتقول: من اللاذقية، فسمونك اللاذقي أو اللاذقاني، ويسمى هذا اللقب المكاني، وهو في اللغة العربية لا يشعر بمدح أو ذم، وإنما هو النسب المكاني الذي يشبه النسب العائلي."
مولده ونشأته:
ولد الشاعر عبد الله في عام 1348ه الموافق 1929م، وذلك في قرية البردون (*) من قبيلة بني حسين ناحية الحداء، شرق مدينة دنار، والتي تبعد عن صنعاء مائة وخمسين كيلومترا. وهذه القرية معروفة بمآثرها الحضارية الحميرية. ومن أهم معالمها الإسلامية المعمارية مسجد العامرية.
أما تاريخ ميلاد الشاعر فيمكن تقديره بعام 1929م 1930م. وهذا بالتقدير القائم على أحداث مثل ضرب الطائرات البريطانية للأراضي التي كانت تحت سيطرة الإمام يحيى حميد الدين (1904م 1948م)، وكان ذلك عام 1928م، وبغرق محمد البدر، ابن الإمام يحيى حميد الدين في مدينة الحديدة. وكذلك يمكن لنا تقدير مولد البردوني بعام 1929م أو 1930م استنادا إلى رواية أحد تلامذته، أو كما قال البردوني عن نفسه في مقدمة ديوانه الأول من أرض بلقيس:
"نشأت في قرية البردون من أعمال زواجة بالحداء. وهي قرية شاعرية الهواء ذهبية الأصائل والأسحار. يطل عليها جبلان شاهقان مكللان بالعشب. ولهذه القرية في نفس الشاعر ذكريات وذكريات، فيها ولد الشاعر سنة 1348ه وفي أحضان هذه القرية الخالدة".
فيما يتعلق بوالدته فهي نخلة بنت أحمد بن عامر. كانت امرأة ذكية فلاحية. ولدت لعم البردوني ابنتين وولدا، هم: بختية، وطيبة، وعبد الله. ثم استخلفها ابو شاعرنا بعد موت أخيه، فانجبت له ثلاثة أبناء: أحمد، وعبد الله، والثالث قد مات في شهر ميلاده. وقد عاشت والدته أكثر من تسعين سنة، وهي خاطبة كالرجال، وسارية الليل كالرجال، تشارك في الفتن المحلية مع قبيلتها، وكانت شديدة على الشاعر الكبير البردوني في صغره..
نشأ البردوني في قرية البردون. وهذه القرية قرية معزولة دائما، تحتاج إلى رجل سليم قوي يصد عن القبيلة عدوان المعتدين. يقول البردوني: "وقد كان العمى مأتما صاخبا في بيوت الأسرة، لأن ريفه يعتد بالرجل السليم من العاهات، فرجاله رجال نزاع وخصام فيما بينهم، فكل قبيلة محتاجة إلى رجل القراع والصراع الذي يقود الغارة ويصد المغير".
وينتمي البردوني إلى أسرة معدمة في شعب كان معظم أبنائه يعيشون في مجاعات، وأسرته كانت تعاصر في ذلك الحين الفقر والجوع، ولذلك يصور البردوني معاناته ومشاكل أسرته من الجوع في طفولته هذا التصوير الساخر:
خذها فديتك يا صديقي
ذكرى أرق من الرحيق
وألذ من نجومي الهوى
بين العشيقة و العشيق
وأذكر تهادينا على
كوخ الطفولة و الطريق
وأنا وأنت كموثقين
نحِنّ في القيد الوثيق
نمشي كحيرة زورق
في غضبة اللج العميق
وإذ ذكرت لي طعام
أكلت أنفاسي وريقي
أيام كنا نسرق الرمان
في الوا دي السحيق
وعلى هذا النحو نجد كثيراً من القصائد التي تصور متاعب البردوني من الفقر والجوع، فندرج فيما يلي بعض الأبيات من قصائده التي يشكو فيها من الجوع وضنك المعيشة فهو يقول:
يا بلادي هذي الربى والسواقي
في ضلوعي تنهدات شوادي
إنما من أنا وليس بكفي
دفع والتراب بعض امتدادي
ربما كنت فارسا لست أدري
قبل بدء المجال مات جوادي
العصافير في عروقي جياع
والدوالي و القمح في كل وادي
في حقولي ما في سواها ولكن
باعت الأرض في شراء السماء
يا ندى، يا حنان أم الدوالي
وبرغمي يجيب من لا أنادي
هذه كلها بلادي وفيها
كل شيء ... إلا أنا و بلادي
إن الشاعر الأعمى قد جرب الحياة المرة، وعاش حياة البؤس والشقاء وقد حرم من حنان أمه سنة 1958م، حينما كان صغيرا. ورفع ظل أبيه منه عام 1988 من الميلاد، وكان البردوني قد تزوج مرتين ولم ينجب ولدا. اقترن بزوجته الأولى فاطمة الحماي في العام 1959م، إلا أنها انتقلت إلى رحمة الله في عام 1974م. وبعدها اقترن بزوجته الثانية فتحية الجرافي سنة 1977م، وهي كانت خريجة من القاهرة في القسم الإنجليزي عام 1965م.
مرضه وكف بصره:
يعتقد بعض الناس إن البردوني لم يولد كفيفا، وإنما أصيب في الطفولة بمرض الجدري الذي كان يعصف بالآلاف من أبناء وطنه في ذلك الحين، عندما كان في الخامسة أو السادسة من عمره، فأولا فقد بصره من إحدى عينيه. وكانت عينه الأخرى بقي فيها بصيص من الرؤية، فمثلا إذا استيقظ من النوم صباحا ورأى دخول الضوء في الغرفة فهو يعرف أن الصبح قد أطل. ويشعر بضوء السراج إذا وجد في المكان سراج. ولم يمض عليها إلا قليل من الزمن حتى ذهب عنها هذا البصيص أيضا بسبب إصابته بضربة الشمس والصداع، بالإضافة إلى عدم وجود الرعاية والجهل على عامة الناس في تلك المرحلة من الزمن، فظل يكابد المرض سنتين، وعلى إثره فقد بصره تماما.
تعليمه:
كان التعليم قبل قيام الثورة في اليمن محدودا، وإن وجدت فيها بعض المدارس إلا أنها كانت تقتصر على تعليم الطلبة القراءة والكتابة وبعض العلوم الإسلامية واللغوية، مثل النحو والبلاغة.
تلقى البردوني المبادئ الأولية للتعليم في البردون على يد والده صالح بن عبد الله حسن البردوني، وعن شيخه يحيى حسين القاضي، فتعلم فيها الذي لا يتجاوز قراءة الحروف من معرفة ضمها وفتحها، وكسرها. وكان يوجد في أواخر أيام حكم العثمانيين في اليمن "كتاب (البياض)" أو "(الباب الصغير)" وتعلم فيه البردوني ثلث القرآن الكريم بادئا من أول النصف الأخير (السور القصيرة) حسب النظام التعليم القائم في ذلك الوقت التي كانت تساعد على تمرين الحافظة واللاحقة.
ثم انتقل البردوني إلى قرية مجاورة تسمى المحلة، وهذه القرية تقع في ناحية عنس جنوب شرق مدينة ذمار حيث كانت له أخت متزوجة في تلك القرية، وفيها كان التعليم منتظما. ففي هذه القرية تعلم البردوني القراءة والكتابة وحفظ فيها بقية القرآن الكريم حتى سورة الأنعام، على يد الفقيه عبد الله بن علي سعيد. وفي الحقيقة أنه قد أنهى التعليم الابتدائي فيها وهو عبارة عن حفظ القرآن الكريم وبعض الأناشيد والمنظومات.
ولما بلغ البردوني الثامنة أو التاسعة من عمره انتقل إلى مدينة ذمار، وهي عاصمة ومركز المحافظة، ومكث هناك حوالي عشر سنوات، ودرس بالمدرسة الابتدائية في ذمار حيث أكمل تعليم القرآن الكريم حفظاً وتجويداً.
ثم انتقل بعدها إلى دار العلوم المعروفة بالمدرسة الشمسية بذمار، وسميت هذه المدرسة بهذا الاسم نسبة إلى شمس الدين بن شرف الدين الذي بناها، وكان قد حارب الأتراك في القرن العاشر وكان مرشحا للإمامة. وقد تم تأسيس هذه المدرسة على يده في عام 1947م، وهي مدرسة عريقة تخرج منها نخبة من الأدباء والمفكرين والكتاب، ففيها أعاد البردوني تجويد القرآن الكريم مرة ثانية على القراءتين (نافع وحفص)، والثالثة والرابعة على القراءات السبع المتواترة، من شيوخه في علم القراءات من العلامة محمد الصوفي، والعلامة صالح الحودي، والعلامة حسين الدعاني، والعلامة أحمد التويرة، وتلقى فيها دروس النحو وأصول الدين والفقه واللغة.
وتخرج البردوني من هذه المدرسة الشمسية محاميا، وحاملا إجازة القرآن الكريم. يقول عن نفسه: "أصبحت محاميا حاملا إجازة القرآن الكريم من أجل شيوخ المدرسة الشمسية صالح الحودي الذي درست على يده كتابين في علم الكلام أو معرفة الله أو دهليز الكفر عند أهل السنة. وكان الكتاب الأول يحمل اسم (الثلاثين المسألة الصغرى) والثاني يحمل اسم (الثلاثين المسألة الكبرى).
عندما دخل البردوني في هذه المدرسة عانى عديدا من المصائب والمشاكل لأنه قد ولد في بيت فقير وأسرة معدمة، فطبعا لم تستطع أن تعيله. ولذلك كانت إعالته شيئا ثقيلا عليه فقد كان في المدرسة يعلم الأطفال المتخلفين في الحفظ ويكرر لهم كرارا لمساعدتهم على الحفظ، فيحصل بالمقابل على لقمة العيش التي تكفيه في حياته اليومية. وفي أثناء وجوده في هذه المدرسة سمع البردوني كلمات رديئة من الطلاب، إذ كانوا يقولون: "أعمى لا غرام ورجام".
كانت حياة البردوني في هذه المدرسة حياة صعبة، ومع هذه الصعوبة قضى حوالي عشر سنوات كابد فيها مكاره العيش، ومتاعب الدرس، والحنين إلى القرية وملاعبها، وبذل قصارى جهوده في سبيل العلم والمعرفة، فتعلم في هذه الأثناء علوم الدين واللغة والأحاديث والتاريخ والكلام وغيرها من العلوم الأخرى حتى أجاد فيها. وفي هذا العهد مال إلى الأدب العربي فقرأ كل ما يقع عليه يده من الدواوين القديمة.
وفي مطلع الأربعينات تقريبا وبالتحديد في عام 1943م انتقل البردوني إلى صنعاء والتحق هناك بالجامع الكبير بصنعاء، وبدأ يدرس فيه حيث قضى عدة شهور فقط ودرس فيه على يد العلامة أحمد الكحلاني والعلامة حميد ميعاد. وبعدها التحق البردوني بدار العلوم بصنعاء، فدرس من بداية الصف الرابع الذي يتكون من أربع شعب يؤهل الطلاب فيه للدخول في هذه المدرسة. فتعلم البردوني كل ما أحاط به منهجها. والمنهج الذي كان فيه البردوني يتوزع على كتب أصول الدين وكتب النحو والصرف والفقه والتاريخ وعلم الكلام وكتب البلاغة القديمة، فدرس هناك منهج هذه المدرسة وتفوق فيه، واستفاد فيها من الأساتذة البارعين في العلوم الدين واللغة والفقه والتاريخ من أمثال العلامة جمال الدين الديب، والعلامة الفخري الرقيحي، والعلامة قاسم بن إبراهيم وغيرهم حتى وصل إلى درجة الغاية (*)
وحصل البردوني بعد ذلك على إجازة من دار العلوم برئاسة العلامة علي فضة، "في العلوم الشرعية والتفوق اللغوي". ثم التحق بالمنهج الآخر لكي يتقاضى مرتبا رمزيا كخريج، وعين في نفس المدرسة مدرسا للأدب العربي شعرا ونثرا.
واستفاد البردوني في أثناء تدريسه في المدرسة العلمية من طلبته الطامحين، فكان يستعين بهم لقراءة ما يصل إليهم من كتب مثل ديوان ليالي القاهرة لإبراهيم ناجي، وديوان قالت لي السمراء لنزار قباني وغيرها.
في إبان هذه الفترة استفاد البردوني كثيرا من كتب طه حسين التعليمية خاصة كتاب التوجيه الأدبي للثانوية الذي قد ألفه طه حسين وعبد الوهاب عزام كلاهما.
كان البردوني دائما منكرا للاتباع والتقليد، مع أن أساتذته كلهم كان ميلهم إلى القديم، ولذلك قال له أحد علمائه: "لماذا يا عبد الله تعلمت الشرح الصغير والجوهر المكنون ولا تنظم على تلك التشبيهات والاستعارات والمجازات؟ فأجاب البردوني قائلا: "لأن التعليم يمتد الشعر وليس التعليم إلا أساسا للثقافة الشعرية وغيرها من الثقافات العليا".
أما المنهج الذي درسه البردوني في المدارس النظامية فلم يكن كافيا ليرضي طموحه في الاستزادة من كل جديد، ولم يضيع وقته إذ هو دائما كان ينتهز الفرص. حتى عندما دخل في السجن قال عن نفسه: "فأمضيت أسبوعا في سجن الرادع (كذا) مشتغلا بقضايا اجتماعية، إلى أن شاركني غرفتي في السجن الأستاذ محمد الحورش أخو الشهيد أحمد الحورش، فقرأت وإياه كتابا عن أتاتورك وكتابا مترجما عن الألمانية، كان ينطوي على سيرة الملك عبد العزيز آل سعود.
بدايته مع الشعر:
كانت مدة إقامة البردوني في "المدرسة الشمسية" بذمار عشر سنوات كابد فيها مكاره العيش ومتاعب الدرس وغيرها عديدا من المصاعب والمشاكل. ومع هذا كله مال البردوني إلى الأدب وقرأ كل ما يصادفه من الكتب الأدبية وخاصة دواوين الشعر الجاهلي أو الإسلامي.
وبدأ البردوني يقرض الشعر وهو في الثانية عشرة من عمره، أي بدأ ميلاده الشعري في عام 1946م، فلم يكن يمر يوم أو يومان إلا وتعهد فيه الشعر، قراءة وتأليفا، وكان أكثر شعره في تلك الفترة مليئا بالشكوى من الزمن، وكثيرا التأوه من ضيق الحال، وفي هذا الشعر نجد نزعات هجائية تكونت من قراءة الهجائين، ومن سخط الشاعر على المترفين.
لقد تشكلت ثقافته من قراءته للدواوين القديمة ودواوين بعض الشعراء المعاصرين. وتتضح هذه الحقيقة من تأثره بالمتنبي وأبي تمام والمعري. وقد قد تأثر البردوني بهم في الأربعينات. ومن أهم مطالعاته في بداية الأربعينيات أربعة كتب: الأغاني للأصفهاني، وكتاب الموازنة بين الشعراء، للدكتور زكي مبارك، وكتاب الشوامل والهوامل، لأبي حيان التوحيدي، و متاب مع المتنبي لطه حسين.
والبردوني تأثر بالشعراء المعاصرين أيضا أمثال إيليا أبو ماضي، وأبو القاسم الشابي، وعلي محمود طه...وتأثر البردوني بشعر "أدونيس" كثيرا خاصة بديوان وجوه دخانية في مرايا الليل"، وديوان ترجمة رملية لأعراس الغيار.
هذه هي بداية البردوني الشعرية التي تلتها بداية المعاناة والقسوة، ورافقها سحابة الإبداع وشرارة النضال المتوقدة في صدره.
نضال البردوني:
أسلفنا القول إن البردوني قد حرم من نعمة البصر حينما كان في الخامسة أو السادسة من عمره، ولكن لم يمنع العمى البردوني من أن يأخذ موقعه في صفوف النضال الشعبي الذي قام به المثقفون والأحرار من أبناء الشعب اليمني وعلى رأسهم الشاعر الكبير اليمني محمد محمود الزبيري، ونعمان، وزيد الموشكي، وعلي عبد المغني وغيرهم الذي حملوا على كتفهم قضية تحرير الشعب من الاستبداد والظلم والفقر والجهل. وقد أدى البردوني فيه دورا بارزا بشعره وحمل لواء القصيدة العربية الحديثة بدهشتها، والعريقة بعبقها، هو الذي وقف بكل صلابة اليمني في وجه حكم الإمامي الكهنوتي. وندد البردوني بذلك العهد وبظلمه وجرائمه وتخلفه، ولم يخف من بطش الطغاة ولا من قيودهم الدامية، بل جاهر البردوني بصوته المجلجل وتحدى النظام الإمامي. ولذلك ما زال يعد البردوني الضمير الحي الذي يتصدى لأي محاولة طارئة على مسار طريق الفجر. إن البردوني قد كرس شعره للوطن والثورة والإنسان والحرية وظل على ذلك المنهج حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى.
كان البردوني عاشقا للوطن والحقيقة والحرية والضوء وحاول بشعره محاولة شديدة إثارة قضية تحرير الشعب وإنقاذه من الاستبداد والفقر. وعلاوة على ذلك فقد خلق البردوني جانبا من ثقافة الجيل الجديد وأسهم في تخصيب دائرة الوعي في صفوف أوسع الجماهير...كان أول من حرض وحث الشعب ضد حكم الإمام. وله كثير من القصائد في ذلك. فنذكر فيما يلي بعض أبياته التحريضية. فهو يقول:
يا شعب مزق كل طاغ و انتزع
عن سارقيك مهابة الأرباب
وصمت الشعوب على الطغاة و عنفهم
صمت الصواعق في بطون سحاب
فاحذر رجالا كالوحوش همومهم
سلب الحمى و الفخر بالأسلاب
وكذلك ظل البردوني يقارع سلطة الإمام وأعوانه الذين لا يؤمنون بحقوق الشعب في العدل وكرامة العيش والحرية بهناء.
ولعل خير دليل على أن البردوني قد بذل جهودا جبارة في سبيل تحرير اليمن هو جرأته الصادقة التي قد واجه بها الإمام أحمد حميد الدين، فقد وجه البردوني خطابا ضده في يوم عيد جلوسه على العرش، فخاطب الإمام في ذلك العيد بقوله:
عيد الجلوس أعر بلادك مسمعا
تسألك أين هناؤها؟ هل يوجد؟
تمضي و تأتي والبلاد وأهلها
في ناظريك كما عهدت وتعهد
إلى أن يقول:
للشعب يوم تستثير جراحه
فيه ويقذف بالوقود المرقد
ولقد تراه في السكينة إنما
خلف السكينة غضبة وتمرد
مؤلفاته:
كان للبردوني شغف كبير بقراءة الكتب قبل الثورة وبعدها، فهو كان يقرأ كل ما تقع عليه يده عندما يجد من يقرأ له، وقد أشار إلى هذا الجانب الدكتور المقالح قائلا:
"كنا نقرأ الكتاب الواحد عشرات المرات ونقرأ الديوان الواحد عشرات المرات أيضا، ومن تلك القراءات تكونت حصيلته عن المعارف التي تجلت أولا في شعره وثانيا في كتاباته النثرية".
جمعت هذه القراءات المتنوعة بين القديم والجديد وبين السياسة والتاريخ والأدب وما إلى ذلك. وقد وهبه الله تبارك موهبة فائقة في الحفظ والذكاء. كما وصفه النقاد والصحفيون ب "خزان الحكمة اليمانية" أو "انترنت بشري"، فكتب البردوني عن الشعر والأدب والفكر والثقافة والتاريخ وغيرها من العلوم. وله اثنا عشر ديوانا وثمانية كتب ومئات مقالات في المجلات والصحف والإذاعة. وتعد دواوين البردوني الاثني عشر نقدا عميقا لأوضاع المجتمع اليمني وفساد السلطة وظلمها وآفاتها آنذاك. (راجع قائمة بمؤلفاته في الهوامش).
وكان البردوني يعكف على تأليف كتاب عن اليمن الموحد بعنوان (الجمهورية اليمنية) حين أدركه الموت . وكان قد انتخب رئيسا لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين عام 1970م في مؤتمره الأول، إذ كان من الأوائل الذين سعوا لتأسيس هذا الاتحاد. وكان البردوني يكتب مقالة أسبوعية في صحيفة 26 سبتمبر، بعنوان "قضايا الفكر والأدب". كما كان يكتب في صحيفة الثورة بعنوان "شؤون ثقافية" وكذلك تم له نشر عديد من المقالات والمقابلات في الصحف والمجلات المحلية والعربية والقنوات الإذاعية والفضائية العربية والعالمية.
وفاته:
شارك البردوني في عديد من المحافل الأدبية والشعرية في مختلف البلدان، وكان يمثل اليمن في كل المحافل. ولكن في الأيام الأخيرة من حياته عجز البردوني عن السفر، فكانت آخر سفرياته إلى الأردن في عام 1998م، قبل عام تقريبا من وفاته.
وقد وافته المنية بعد عناء طويل مع المرض، فقد عصف المرض بصحته في السنوات العشر الأخيرة من حياته، وكان البردوني قد عانى عديدا من الأمراض في الأيام الأخيرة من حياته. في هذا الصدد تقول السيدة فتحية الجرافي، وهي الزوجة الثانية والأخيرة للشاعر البردوني: "قبل عشر سنوات سافر إلى روسيا، وأجرى الأستاذ الراحل فحوصات عديدة أثبتت أنه مصاب بسبعة وعشرين نوعا من الأمراض. منها: ضغط الدم، والربو، والسكر، والأملاح، والقلب وغيرها."
وفي الساعة الحادية عشرة من صباح الاثنين الموافق 31 أغسطس/آب عام 1999م توقف قلب الأديب والشاعر عن الخفقان بعد أن خلد اسمه كواحد من أعظم شعراء العربية في القرن العشرين. وكانت وفاة البردوني خسارة كبيرة للأدب العربي في اليمن وبقية الأقطار العربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.