جلس إلى قربي على احد المقاعد الكثيرة المتناثرة في حديقة الرصيف الطويلة الممتدة على ضفاف بحيرة جنيف. نظر إلي... ثم حاول التحرش بي وهو يداعب احد أطفالي مبتسما: هو ولدك أليس كذلك؟. أجبته بفخر: كما ترى!. قال لي: لازلت شابا لكي تنجب!... ما الذي دفعك لذلك؟. ثم تابع قبل أن أجيبه: كنت مثلك فرحاً بهم كان لدي ثلاثة... أغرقتهم بالدلال والاهتمام حتى اخذ كل منهم مكانه الذي يليق به!. ثم استدرك محاولا إثارة اهتمامي: هل ترى الرجل الذي يجلس هناك (وهو يشير بإصبعه ناحية المقعد الآخر) انه حارسي الخاص.!... كما ترى هو يتبعني منذ الصباح.... انه شرطي بلباس مدني... كلف بملاحقتي بعد أن أطلقوا سراحي من السجن بعد أسبوع من إقامتي فيه... لم تطل إقامتي هذه المرة.... قال لي القاضي ( كف عن حماقاتك واترك السرقة وعد إلى منزلك.!... لدي شيء آخر أهم منك لكي أقوم به.؟؟؟) التفت إليه مستغربا وقبل أن أجيب بادرني بالحديث وهو يضحك: لقد سرقت في المرة الأخيرة ( باكيت شوكولاته ) ؟.... لم يعجبهم الأمر!؟... لم يكن كافيا لكي يعيدوني إلى السجن لفترة طويلة؟. آخرها كان لمدة شهر فقط، لأنني سرقت ساعة ذات قيمة من احد المحلات الراقية؟. لم يقتنع القاضي بذلك لماضي النظيف فأطلق سراحي وأمر بالعناية بي وبدفع كامل مصاريف البيت من إيجار وكهرباء، حتى انه عين لي امرأة لكي تنظفه وتعتني بي وبطعامي؟!... وأمر لي براتب إضافي وطلب مني ألا أعود لهذه الحماقات؟؟. كما قال. ثم تابع وقد بدا عليه الحزن: كما ترى ليس لي احد في الخارج!؟... هناك استطعت أن أكون الصداقات وكل شيء متوفر للتسلية.... هناك من أتحدث معه... التقي به.... اسمع منهم حكاياتهم.... أقص لهم مغامراتي....هم ليسوا خطرين كما يتهمونهم!؟. إن السجن ارحم من هذه الحرية الفارغة التي لا ترحم... لا يوجد من يرد التحية علي أو يتمنى صباحا أو نهارا جميلا ولا حتى التمني لي بمساء طيب أو لديه الوقت الكافي للثرثرة معي.... وآخر زيارة لأولادي كانت في أعياد الميلاد... أتتصور منذ أكثر من تسعة شهور؟؟. بالرغم من أن احدهم يسكن المدينة نفسها... هل تصدق؟. قلت له مستغربا: معقول؟؟. أجابني وهو يبتسم ساخرا: كما ترى... وهذا الشرطي الذي يتبعني يرفض أن يتركني قبل أن ادخل المنزل... وقد اشترى لي منذ قليل الكثير من الأشياء ولم ينس الشوكولاتة طبعا... وذلك بأمر من القاضي!. ثم نهض وهو يرفع قبعته محييا وقال: علي أن اذهب.. لقد تشرفت بمعرفتك وسررت بالحديث معك،... يجب أن اذهب حتى لا يغضب مني... فقد نغصت عليه عيشه أكثر من اللازم!؟... وداعا. وغادر وكأنه لم يرني ولم يتعرف إلي ولم يحدثني؟!!.