حينما ابتدع الفيلسوف الإغريقي الشهير أرسطوطاليس مصطلحاً كلاسيكياً في كتابه الشهير «فن الشعر» نحت هذه الكلمة من لفظة «كلاس» أي طبقة اجتماعية من هنا قصد أرسطو أن يكون الفن الكلاسيكي فنًّا لا يستطيع تذوّقه إلا طبقة اجتماعية معيّنة تستطيع أن تفهم مفردات هذا الفن الراقي أو قل الفن الذي يحتاج تذوّقه لثقافة معيّنة وبالتالي فهو يجانب المفهوم العام للفن الذي يكون ملكاً للجميع يستطيع تذوّقه العامة والخاصة على السواء من هنا قد يتساءل البعض هل يكون الفن الكلاسيكي حكراً على طبقة معيّنة ؟ بالطبع لا لأن كلمة كلاسيكي التي ابتدعها أرسطوطاليس تختلف باختلاف العصر الذي ينشأ فيه نوع خاص من الفن فمثلاً في العصر الهلليني كان الفن الكلاسيكي هو الفن الذي يتذوّقه كل الناس سواء العامة أو الخاصة حيث كان يعرض في الأجورا «السوق العامة» وكان مشاعاً للجميع مثله مثل السياسة الأثينية التي ادعت أن إلهامها الرئيسي يأتي من العامة على الرغم من أن خيوطها كلها كانت في يد طبقات معيّنة من المشرّعين ذوي الأصول الراقية وهكذا فإن مصطلح فن كلاسيكي أو كلاسيكية يأتي متشكلاً على أساس العصر الذي يستخدم فيه وبالتالي فإن الفن العادي والذي يفتقد للنزعة المثالية قد يصبح في عصور لاحقة فنًّا كلاسيكياً ومثالياً بل وقد تتخذه الصفوة مثالاً يحتذى. تاريخ الفن التشكيلي يعتبر أن الكلاسيكية التي صاحبت الثورة الفرنسية كانت أكمل وجوه الكلاسيكية في الفن التشكيلي فالمدرسة «الكلاسيكية» هي التي عاصرت الثورة الفرنسية «1793م» وتبنّت تلك المدرسة التعبير عن شعار الثورة الأشهر «العدل - الحرية – المساواة )، هكذا تقول عنها الكتب، لكن الأعمال الفنية الكلاسيكية نفسها تعكس مجموعة من القيم والمفاهيم، ربما لا تتوافق مع شعار الثورة الفرنسية الذي اتخذته المدرسة الكلاسيكية شعارًا لها. ومن أشهر فناني هذه المدرسة المصوّر «جاك لويس دافيد» فقد كان من بين أعضاء محكمة الثورة التي قضت بالإعدام على الملك لويس السادس عشر فأصبح بعد ذلك مصور الثورة الرسمي، وقد تجلَّت النزعة الكلاسيكية في لوحة له تتسم بالرصانة ويتعلق موضوعها بواقعة وطنية من تاريخ الرومان وهي لوحة "قسم الإخوة هوراس". وقد عمل دافيد على إحياء تقاليد الفن الروماني فقد كان التكوين في لوحاته يعتمد على قواعد هندسية صارمة؛ فكان الخط وليس اللون موضع اهتمامه، وقد أنشأ دافيد أكاديمية الفنون التي كانت ممثلاً للذوق الرسمي للثورة الفرنسية وحاربت جميع الحركات الفنية الجديدة. لكن دافيد يظل هو المثال الأبقى والأكثر ثراء في المدرسة الكلاسيكية حتى إن معظم النقاد يجعلون منه مؤسّساً لها وأستاذاً لفنانيها مثل آنجر. كان دافيد قد ولد في عام 1748 وبعد أن التحق بمدرسة الرسم الخاصة بالفنان «فيان» الذي كان كلاسيكياً مدرسياً أي متأثراً بنزعة السوكولائية التي انتشرت في عصر النهضة وبعد أن تعلم أصول الرسم على يديه انتقل إلى مرسم ريميار الذي أكمل دراسته على يديه واستفاد منه بالرغم من أنه كان مغموراً ولا يذكره معظم مؤرخي الفن ثم انتقل لدراسة الفن في بلاده روما حيث كانت المخلفات الحضارية والآثار التي تركتها الحضارة الرومانية هي التي ألهمت معظم الفنانين الأوروبيين في هذه الفترة وغذّت عندهم نزعة الكمال الكلاسيكي بغض النظر عن اختلاف مدارسهم وحركاتهم الفنية. لقد أقنع دافيد كل الفنانين في عصره أن لديه طرحاً جديداً لما يعرف بالكلاسيكية حيث كان لديه تخيّل عمّا يعرف بدراما الرمز داخل اللوحة الفنية حيث اعتبر أن اقتناص اللحظة الدرامية واستخدامها كرمز في العمل التشكيلي أساس ما يعرف بالكلاسيكية الجديدة وحبّذا لو كانت هذه اللحظة مستمدة من التاريخ الكلاسيكي أو حتى الدراما الكلاسيكية فنحن نؤمن بأنه ليس فقط ما رآه من مخلفات في الحضارة الرومانية في روما هو الذي أثّر فيه بل أيضاً ما قرأه من أعمال كلاسيكية رومانية وإغريقية هذا أيضاً أعطى لطرحه الجديد في الكلاسيكية معنى أكثر عمقاً وهذا بالتحديد ما تمخّض عنه العمل العظيم الذي جعل منه بلا منازع المنظر العملي الأول للكلاسيكية، هذا العمل كان لوحته الشهيرة «قسم الإخوة هوراس» حيث حققت هذه اللوحة شهرة واسعة وكفلت لدافيد مكانة لم يكن يتخيّلها بين فناني عصره وليس غريباً ما أحدثته اللوحة حيث إنها كانت تعرض لفكرة درامية رومانية لاقت تماساً مع فكر الثورة الفرنسية الوليدة والتي كانت مازالت جنيناً ولن يصدق القارئ أن الفنانين في روما قابلوها بشيء قد يصل إلى حد التقديس فحينما عرضها في مرسمه في روما كان الفنانون ومتذوقو الفن يحجّون إليها ويضعون عندها باقات من الزهور حيث وصلت شهرتها باري قبل أن يبدأ دافيد بعرضها على الجمهور الباريسي عام 1785 حيث وصفت هناك بأنها «أعظم لوحة في القرن ال18». وحينما قامت الثورة الفرنسية كان دافيد قد انتهى من لوحته الشهيرة «بروتوس يتلقى نبأ» موت أولاده وقد كان توقيت عرضها توقيتاً شديد الحساسية بالنسبة لمستقبل دافيد حيث كان الملك لويس ال16 قد عيّنه رسام البلاط ومن ثمّ لما قامت الثورة اعتبرت هذه اللوحة رمزاً لما هو عليه حيث كان بروتس صديق قيصر «وابنه غير الشرعي» ومع ذلك اشترك في مؤامرة قتله أيضاً في سبيل الوطن كما كان يشاع، إذن دافيد أيضاً كان صديق الملك لكنه أيضاً رأى أن مصلحة الشعب في الثورة فكان من ضمن اللجنة التي حكمت على الملك لويس ال16 بالإعدام وبالتالي فإن لوحة "بروتس" الشهيرة ألهبت حماس الشعب والثورة ولاقت هوى لدى الجميع حتى قال عنها روبيسبير خطيب الثورة: «بروتس هي شهادة ميلاد جديدة للفن في حضن الثورة فالطغيان والظلم لا يستطيعان أن يرعيا الفن، فقط دافيد وحده هو الذي أدرك ذلك فأعطى ضميره للثورة على الرغم من أن الطغيان أعطاه المجد». وبعد أن حدث الشقاق داخل الثورة وأعدم روبيسبير صديق دافيد دخل دافيد السجن وبقي فيه ستة شهور كاملة حتى صدر العفو عنه عام 1795 لكنه ظل زعيم الرسامين الفرنسيين حتى بدون مناصب رسمية لكن دافيد عاد إلى موقعه الرسمي بعد استيلاء نابليون على الحكم من ثم أيضاً تم نفيه بعد سقوط نابليون عام 1816 حيث قضى باقي حياته في منفاه في بروكسيل ومات عام 1825. لكن يظل دافيد صاحب الأوقع في استعارة الرمز الدرامي في حقل الفن التشكيلي. لكن أيضاً هناك بعض الأعمال التي جعلت من دافيد فناناً يبحث عن التماحك وراء هذا الزخم الدرامي حيث نجده في تصويره لعدة مواقف يحاول أن يظهر بمظهر المؤيّد للثورة بشكل مبالغ فيه كما يظهر لنا في لوحته الشهيرة "اغتيال مارا" لقد كان مارا متزعماً حزب الجبل كما أسموا أنفسهم بذلك وكان هذا الحزب يسعى إلى السلطة مهما كلفه ذلك الأمر من قتل الأبرياء والتعدي على القانون. نعم حوكم مارا ولكنها كانت محكمة صورية لتهدئة الخواطر وبعدها خرج في حال سبيله. لكن دعنا نقل: إن كل تاريخ دافيد مع الثورة وكل لوحاته الدرامية التي عبّرت عن هذا الجانب السياسي المتعمّد كانت لا تتعدى ثلث عبقريته الفعلية ولننظر لباقي إنتاج دافيد نظره أكثر عمقاً وهذ الإنتاج الباقي إنتاجاً يخلو من كل تكلف حيث تحدوه النزعة الكلاسيكية الصرفة متأثراً بمشاعر صافية من التراث القديم الذي والحق يقال بنى دافيد عليه فنّه العبقري ومنها على سبيل المثال لا الحصر لوحته الشهيرة «سقراط يجرع السم» وهي تصوّر لحظة أشد ما تكون شهرة في تاريخ الفكر والثقافة العالمية حيث ارتضى سقراط الفيلسوف الإغريقي إن يشرب السم معبّراً عن التزامه بقوانين بلاده على أن يهرب إلى خارج أثينا واللوحة تضم معظم من حضروا الواقعة وتعبّر عن هذا الموقف بكل رقي وسمو .