لعل من أروع ما يمكن أن يقراه المرء عن إرادة التحدي والإقدام التي تحلى بها اليمنيون في كفاحهم ضد الاستعمار البريطاني هو ما ترجمه تقرير الاستخبارات البريطانية الصادر في شهر يوليو 1966 وقد جاء فيه ما نصه: (لقد أظهرت تحركات سرية في الكتيبة الأولى من فرقة (ذي برنس أوف ويلزم أون) من عدن إلى مكيراس في ديسمبر عام 1965 استلم قائدها في غضون أربع وعشرين ساعة من وصولهم رسالة من زعيم المنشقين المحليين (يقصد قائد المقاومة المسلحة اليمنية) يقول فيها؛(نرحب بالكابتن نفيل وسريته إلى مكيراس ونتمنى له زيارة سعيدة، ويؤسفنا أن نبلغه بأننا سنقلق بعض لياليه بنيران قذائف المورتر وذلك لحاجتنا إلى تمرين حي على أهداف حية)..المجابهة المباشرة هذه مجرد نماذج للمقاومة الباسلة التي أقضت مضاجع البريطانيين المحتلين والتي تحولت من مرحلة العمل السري إلى المجابهة المباشرة مع المحتلين منذ أواخر عام 1966 وحتى انتصار الثورة عام 1967 فقد تميزت العمليات العسكرية بالتحرك المكشوف والتمركز على سطوح المنازل وخوض معارك الشوارع ضد الدوريات وقوات الاحتلال مما اضطر المحتلين البريطانيين إلى إجلاء عائلاتهم وترحيلها إلى أن جاءت المعركة الأخيرة التي تحولت فيها عدن بالفعل إلى ساحة معركة دموية بين قوات المقاومة والقوات البريطانية . الرد على نكسة العرب إن يوم 20 يونيو 1967 الذي تم فيه تحرير عدن من قبل الثوار لمدة أسبوعين يمثل ذروة الكفاح المسلح في جبهة عدن وقد أجمعت الوثائق العسكرية السرية البريطانية أن جبهة عدن كانت من أعنف جبهات القبائل التي واجهتها بريطانيا بعد أن وسع فدائيو الجبهة القتال من الريف إلى عدن، والذي اعتبر رداً على نكسة 5 حزيران عام 1967 ولم يستطع قائد قوات المظلات البريطانية نعمفري تريفليان اقتحام عدن إلا بعد أن تكبد خسائر جسيمة في القتلى والجرحى. سايغون جديدة لقد وصف المندوب السامي البريطاني (كندي ترافيسكى) استيلاء الثوار على عدن في كتابه (ظلال الكهرمان) فقال بأن هذه العملية كانت بمثابة المسمار الأخير في بقاء بريطانيا العظمى في مستعمرة عدن أو سندريلا الإمبراطورية البريطانية وأصبحت حكومة الاتحاد التي أنشأها البريطانيون ريشة في مهب الريح وتحولت عدن إلى سايغون جديدة بفعل العزيمة والتخطيط الدقيق للعمليات العسكرية التي قامت بها الثورة ومقاومتها الباسلة والتي وصلت ذروتها عندما وقعت عدن في قبضة الثوار في العشرين من يونيو 1967 ولمدة أسبوعين. رعب كمائن المقاومة لقد علق أحد مراسلي الإذاعة البريطانية (BBC) على معارك جبهة عدن بالقول: إن الثوار كانوا في الليل يسيطرون سيطرة شبه كاملة على مدينة عدن وفي الصباح تصير المدينة بيد القوات البريطانية إلى أن جاء الوقت الذي صارت فيه بيد المقاومة ليلاً ونهاراً بعد أن فقد البريطانيون السيطرة الكاملة على العمليات العسكرية في جبهة عدن، بل وصل الأمر إلى أن الدوريات البريطانية كانت تتحاشى الدخول إلى شوارع الشيخ عثمان والمنصورة وكريتر لتتجنب كمائن المقاومة اليمنية الباسلة. حرب مكشوفة لم تكتف المقاومة بذلك، بل سيطرت تماماً على الشيخ عثمان وشوهد الثوار في الشوارع وهم يحملون أسلحتهم ويرفعون أصابعهم بعلامة النصر وقد وصفت الوثائق البريطانية معارك الشيخ عثمان منذ السادس من أبريل 1967 وحتى التحرير بالقول:(وفي الشيخ عثمان والمنصورة أصبحت المعركة عبارة عن حرب مكشوفة تستخدم فيها كافة الأسلحة على نطاق لم يعهد مثله من قبل في عدن). الترابط المصيري إن هذه المقاومة الباسلة التي قدم فيها الشعب اليمني آلاف الشهداء على مذبح الحرية قد أنهت الوجود البريطاني في اليمن برحيله عن أرضه الطاهرة يوم 30 نوفمبر 1967، وإن هذا اليوم لم يكن يوم نصر يمني فقط، وإنما كان يوماً استعادت فيه الأمة العربية بعضاً من هيبتها وكرامتها التي جرحتها نكسة الخامس من يونيو/ حزيران 1967، كما إن هذا اليوم يمثل مرحلة مهمة من مراحل الثورة التي بدأت في 26 سبتمبر 1962 لتكون شاهداً على الترابط المصيري في معارك الدفاع عن الثورة والنظام الجمهوري في شمال الوطن والتحرير من النظام الاستعماري في الجنوب، وأهمية هذا الترابط في القضاء على نظام الإمامة والاستعمار البريطاني وفي إعادة توحيد اليمن الواحد بخطوات متتابعة انتهت بقيام الوحدة اليمنية الصلبة يوم 22 مايو/آيار 1990 بقيادة فخامة الأخ الرئيس علي عبد الله صالح. *جامعة إب