كان لدى أبي، حيث عاش في فترة شبابه في بلدةٍ صغيرةٍ في شمالِ ولاية ميتشغان، صديقٌ إيطالي، سأسميه «فيل»، يعملُ في مطعمٍ ما. . كان عملُ «فيل» في المطعم معتاداً كما يمكن لكَ أن تتخيّل ابتداءً من إعداد القهوة في الصّباح وانتهاءً بالكنس في اللّيل. لكن الأمر الذي لم يكن مألوفاً بالنسبة ل«فيل» هو عزفه على البيانو. كانا يتّجهان هو وأبي، في ليالي السبت، مع صديقتيهما ويسيران مسافةَ عشرة أو خمسة عشر ميلاً باتجاه فندق على الطريق بجانب بحيرةٍ حيث يحتسون البيرة من كؤوس الجعة الكبيرة، ويرقصون بينما يعزف «فيل» على بيانو متداعٍ. قال أبي إنه بإمكان «فيل» عزف أي أغنية تسميّها له، لكن الأغنية التي كانت محط انتظار الجميع هي الأغنية التي ألّفها، والتي كان يعزفها في نهاية كل أمسية قبل أن يقفلوا عائدين إلى البلدة. كان الجميع يعلم أنه كتبها لفتاتهِ الجميلة والغنيّة على حد سواء. كان أبو الفتاة - وهو صاحب البنك في البلدة - ألمانياً قاسياً، ولم يكن يرغب في صُحبة «فيل» لابنته. عندما حكى أبي القصّة، ولم يكن يفعل ذلك كثيراً، كان يرويها بطريقة مُرتجلةٍ، ويركّز على فترة الكساد الاقتصادي والعوز بدلاً من الأجزاء المهمّة منها. سأحاول، إن استطعتُ، روايتها بالطريقة التي رواها هو. كانوا يتجهون، إذاً، إلى الفندق على الطّريق، جنب البحيرة، حيث يغني «فيل» أغنيته في النّهاية ويرد الناس عليه: «إنها لأغنية رائعة، يا فيل. بإمكانكَ أن تجني كثيراً من المال منها». لكن كان «فيل» يهزّ رأسه ويبتسم وينظر إلى فتاته. عليَّ أن أقاطع هنا وأقول إن أبي، وهو رجلٌ دمثٌ لكنّه شخص عَملي، لم يَمِل إلى التّركيز على الجزء المتعلّق بنظر «فيل» إلى فتاته. إنها أمي التي قالت إن الفتاة كانت تُريح رأسها على كتف «فيل» أثناء العزف، وإن فكرة الأغنية واتته من النّظرة المَليحة التي ارتسمتْ على وجه الفتاة أثناء نُعاسها. لم تكن أمي جزءا من القصّة، لكنها استمعتْ لها عندما كانت وأبي شابين، وبالتّالي حصلتْ على هذه المعلومة. رغبتُ، علاوةً على ذلك، أن أتدخّل وأضيف شيئاً عن كتابة «فيل» للأغنية، ربما لأظهره مترنّماً بلحنها، مُكرراً الكلمات ببطء وعناية إلى أن يصل إلى أفضلها، أثناء تقشيره للبصل والبطاطس في المطعم، لكن ها هو أبي يقودهم عائداً من الفندق مشيراً إلى أي درجةٍ كانت إطارات سيارته رقيعة، ويحدّثنا عن مُحرّكها الذي كان مكوّناً من خليطٍ من عدّة قطعٍ مختلفة من بينها تلك التي من ابتكاره الخاص، بينما تقول أمي إنّ العجوز الألماني أجبر ابنته أن تعده بألا ترتبط بأي رجلٍ حتّى تفرغ من الجامعة، ولن يكون ذلك متأخّراً عليهما. كذلك يروق لأمي الجزء المُحزن من القصّة وتتوق للوصول إلى الليلة الأخيرة قبل أن تغادر الفتاة إلى الجامعة. إذاً، اتجه جميعهم إلى فندق الطريق بحزنٍ حيث غرقت النّساء في دموعهن حين عزف «فيل» أغنيتها، كما قالت أمي. قال أبي إن «فيل» أنفق راتبه الأسبوعي على قميص جديد وربطة عنقٍ جديدة، وكانت أوّل ربطة عنق امتلكها، والناس تندّرتْ معه في ذلك. أحدهم شرع قائلاً:«عليكَ يا فيل أن تأخذ أغنيتكَ هذه إلى باي سيتي»، وكأنه يقول نيويورك سيتي لكن بواقعية أكثر، «وعليكَ أن تبيعها وتجني مالاً، وتدرس في الجامعة أيضا». لم يكن ذلك ليعني القسوة عليه، ولكنّه نتيجةَ أنّ «فيل» لم يلتحق بمدرسة ثانوية. يمكن أن ترى أن الآخرين يحاولون تشجيعه، كما قالت أمي. حسناً، كانت الفتاة تعود إلى البلدة في عيد الشكر وعيد الميلاد وعيد الفصح والصيف بالطبع، وكانوا يتسلّلون إلى فندق الطريق ذاك ويحتسون البيرة من كؤوس الجعة الكبيرة ويرقصون وكل شيء كما كان دائماً. كان الجميع يعلم أن الفتاة و«فيل» سيتزوّجان بعد أن قطعتْ الوعد مع والدها لأنه بإمكانكَ أن ترى ذلك في عينيهما عندما كان يجلس ويعزف على البيانو المتداعي ويغنّي أغنيتها. ذلك الجزء الأخير المتعلّق «بعينيهما» لم يكن بالطّبع في رواية أبي للقصّة، لكن لا أحتمل إلا أن أضيفهُ على الرّغم من أني أعلم أنه يستنفد من صبر بعضكم. تذكّروا أن كل هذا حدث منذ سنين عديدة في غابة جنب بحيرة في شمالي ميتشغان قبل ظهور التلفاز. أتمنى لو كان بمقدوري أن أضيف المزيد خصوصاً فيما يتعلّق بالأغنية وكيف شعر «فيل» بغنائها وكيف شعرتْ الفتاة بها وهي تستمع إليها وتعلم أنها لها، لكنني تدخّلتُ كثيراً جداً في قصّةٍ بسيطةٍ ليست حتّى قصّتي. حسناً، هنا تأتي حبكة القصّة. لعلّ كثيراً منكم قد حزر، بمرور الوقت، أنها لم تَعُد إلى البلدة لرؤية «فيل» في إحدى العطلات الأخيرة المُشارفة على النّهاية، لأنها التقتْ شابّاً وسيماً، في الجامعة، وغنياً مثلها. ولأن أباها كان يعلم كلّ شيء عن «فيل»، وكان يدفعها للتخلّي عنه، استسلمتْ لهذا الشّاب الآخر وذهبتْ إلى بلدته خلال العطلة لتقع في حبّهِ. هكذا فسّر أهالي البلدة الأمر لأنها عادت معه عقب تخرّجها، وكانا متزوجين بالفعل، ومباشرةً تسلّم الشابُ بنكَ الألماني العجوز واشترى سيّارة «بونتياك» جديدة من المكان الذي كان يعمل فيه أبي ميكانيكياً، ودفع ثمنها نقداً. الجزء المتعلّق بالدّفع نقداً دائماً ما يستوقف أبي، ويجعله يهزّ رأسه ليشير مراراً إلى تلك الأوقات العصيبة، بينما يأتيكَ هذا الشّاب مرتدياً قميصاً أنيقاً أبيضَ (بأطراف رُدنٍ فرنسيّة، كما تقول أمي)، ويدفع الثّمن كاملاً نقداً. والتالي جعل أبي يهزّ رأسهُ أيضاً: أخذ «فيل» الأغنية إلى «باي سيتي» وباعها بخمسة وعشرين دولاراً، وهو المبلغ الوحيد الذي قبضه عن الأغنية. إنها ذات الأغنية التي استمعنا لها قبل قليل في الراديو، والتي ذكّرتْ أبي بالقصّة التي رويتُ لكم. ما الذي حدث ل«فيل»؟ حسناً، لقد بقي في «باي سيتي»، وحصل على عمل كمديرٍ لصالة سينما. التقى أبي به هناك بعد فترة الكساد الاقتصادي وهو في طريقه إلى مدينة «ديترويت» للعمل في شركة فورد. توقّف هناك، وأعطاه «فيل» علبة فوشار. أما الأغنية التي كتبَها للفتاة، فقد بيعتْ منها ملايين الأسطوانات، وإذا ما أخبرتكم عن اسم الأغنية، فالأرجح أنكم ستغنونها، أو على الأقل تترنمون بلحنها. أتساءل بم تفكّر الفتاة حين تستمع إليها. آه، نعم، لقد التقى أبي بزوجة «فيل» أيضاً، وكانت تعمل في صالة السينما معه حيث تبيع التّذاكر، وتنظّف الأرضية بعد العرض بتلك المكانس التي تُدْفع. كانت ضخمة وصاخبة ولم تكن مثل تلك الأخرى، كما قالت أمي.ّ