أثناء دراستنا في المرحلة الثانوية كان معنا زميلٌ نابه؛ ولافت للنظر جدًا.. لم يكن طالبًا مجتهدًا بقدر ما كان شديد الموهبة والعبقرية في مادة الرياضيات تحديداً.. ولأن موهبته كانت موهبة فطرية لم تجد من يقننها ويهذبها، فإنه كثيرًا ما كان يستخدمها في إحراج المعلمين وإثبات قصور بعضهم، مما تسبب في كرههم له وتحاملهم عليه..في أحد الأيام طلب منه المدرس حل مسألة رياضية أمام الطلاب، فتعمّد حلّها بطريقة مبتكرة ومختلفة عما هو موجود في المقرر، وبدلًا من تشجيعه والإشادة بموهبته، ومحاولة تخليصها مما يشوبها من سلوكيات خاطئة، لم يقبل منه الأستاذ ذلك الحل المبتكر؛ بل اعتبره خروجًا عن النص (المقدس)! والأدهى أنه وبّخ الطالب وبالغ في تجريحه، فما كان منه إلا أن رمى أستاذه بالجهل، فأسرّها الأخير في نفسه وقرر الانتقام منه على طريقته الخاصة.. وبالفعل كان له ذلك بعد حين! تذكرت زميلي هذا وأنا أقرأ عن حالة مشابهة حدثت في جامعة كوبنهاجن بالدنمرك؛ حيث جاء أحد أسئلة مادة الفيزياء كالتالي: كيف تقيس ارتفاع مبنى باستخدام جهاز الباروميتر..؟ كانت إجابة معظم الطلاب هي (بقياس فرق الضغط الجوي على سطح الأرض وسطح المبنى).. غير أن إحدى الإجابات أغضبت أستاذ المادة وجعلته يقرر منح صاحبها (صفرًا مكعّبًا) دون أن يقرأ باقي إجاباته! كانت الإجابة المستفزة تقول: (أربط الباروميتر بحبل طويل وأنزل الحبل من أعلى المبنى حتى يلامس الأرض، ثم أقيس طول الحبل)! رغم صحة الإجابة؛ إلا أن أستاذ المادة كان مُحقًّا في غضبه، فالطالب أجاب بأسلوب بدائي لا علاقة له لا بالباروميتر ولا بالفيزياء عامة. تظلّم الطالب لإدارة الجامعة فمُنح فرصة أخرى من خلال أستاذ محايد؛ طلب منه الإجابة على نفس السؤال شفاهة، فأجاب الطالب بثقة: «هناك طرق كثيرة، أولها أن نرمي بالباروميتر من أعلى المبنى، وبقياس الزمن الذي يستغرقه للوصول إلى الأرض يمكن حساب ارتفاع المبنى بواسطة قانون الجاذبية.. ثانيًا: إذا كان الوقت نهارًا، يمكن قياس طول ظل الباروميتر وظل المبنى، ومن خلال قانون التناسب يمكن حساب طول المبنى.. ثالثا: إذا أردت إراحة عقلك، فإن أفضل طريقة هي أن تقول لحارس المبنى: «سأعطيك هذا الباروميتر هدية إذا قلت لي كم يبلغ ارتفاع هذا المبنى»؟ أما إذا أردنا تعقيد الأمور فسنستخدم الباروميتر لقياس الضغط الجوي على الأرض وأعلى المبنى ويكون الارتفاع هو الفرق بينهما.. سأله الحكم لِمَ لم تكتب هذه الإجابة وأنت تعرف أن أستاذك ينتظرها؟.. فأجاب: لقد ضقت ذرعًا بالأساتذة.. إنهم يفرضون علينا كيف نفكر!. المفارقة المدهشة -عزيزي القارئ - أن هذا العبقري الدانمركي واسمه «نيلز بوهر» لم ينجح فقط في المادة، بل إنه كان الدانمركي الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء!.. أما زميلنا العبقري فلا أعلم عنه شيئاً إلا أنه لم يكمل دراسته الجامعية، وربما كان لأستاذ الرياضيات دور في ذلك! ما وددت لفت أنظاركم إليه هو أن بناء موهوبٍ واحد يحتاج إلى الكثير من المال والوقت والجهد.. بينما لا يحتاج قتل ألف موهبة إلا لبيئة تعليمية عقيمة، أو لأستاذ جاهل أو حاقد يمكنه الإجهاز على مواهبهم خلال أسبوع واحد فقط! تُرى!! كم من المواهب تموت في مدارسنا كل يوم.. لأن أصحابها تجرؤوا وفكروا بطريقة مختلفة عن أساتذتهم؟!