كانت تشعر ببرد مكيفات الصالة يخترق عظامها باستمرار.. أمالت رأسها على كتفه العريض وتابعت أحداث الفيلم غير آبهة بيده المتوحشة التي اندست من تحت معطفها الصيفي وظلت تعبث بآلية منتظمة بأماكنها الحساسة.. لطيفٌ هذا الزنجي.. التقت به من فترة قصيرة ودبر لها بسرعة عملاً جيداً.. كان شغوفاً بها.. فكرت بالأجر الكبير الذي ستحصل عليه من هذا العمل فابتسمت واعتدلت في جلستها تاركة يده تلهو كما تشاء. خلعت نقابها وشرشفها الأسود في الغرفة المجاورة مع رفيقاتها... كانت ضحكاتها مميزة... دخلت إلى الغرفة يعلو وجهها الجميل اضطراب خفيف... حيتهم بلطف وبحياء... نظر إلى ما انكشف من ساقيها الرشيقين وصدرها النافر فشهق إعجاباً.. يالها من جميلة... تشبه إلى حد بعيد جميلات الإعلانات التجارية... ظل مشدوهاً لفترة طويلة لم تتوقف عيناه فيها عن تفحص جسدها العذب وقوامها الرائع وبياض ساعديها وكتفها العاري وصدرها البض الناعم غير مصدق كيف يخفي النقاب كل هذا الجمال؟ سرت في جسده رعدة خفية هزته تماماً... لاحظ أصدقاؤه ذلك فتركوها له وانشغلوا بالأخريات.. شغف بها تماماً.. كانت خجولة.. يبدو أنها لم تتعود على أجواء الغراميات السرية تلك كصديقاتها الأكثر احترافاً وخبرة... لابد أنها مبتدئة.. تواعد معها كثيراً ووقع أخيراً، كما كان يتوقع، في حبها المجنون... عرف اسمها الحقيقي لكنه ظل يدعوها باسمها الذي عرفها به أول مرة... حتى عندما استجوبته الشرطة البريطانية بعد سنين عدة كان يدعوها بنفس الاسم.. (نوال).
لوح بيده إلى مودعيه ودخل صالة المغادرة مسرعاً بعد أن رآها تكمل معاملة الجوازات.. كانت الخطة تسير على ما يرام إذاً.. عندما أقلعت الطائرة كانت يداهما متشابكتين بلهفة بعد أن استطاع أن يتدبر الأمر مع صديق عزيز في مكتب الطيران فحجز لهما مقعدين متجاورين.. قالت له: أنها تريد أن ترى العالم من النافذة.. فكان لها ذلك..
قالت له وقد أعيته القبلات: أنها تريد أن تمارس عملاً ما كبقية زملائها في معهد اللغات.. سيساعدها العمل على اكتساب اللغة.. ظلت تقنعه طويلاً.. وافق في الأخير مرغماً رغم قلقه الكبير.. كان يعرف أنها لم تعد له وأن محاولاته بامتلاكها بدأت تضمحل رويداً رويدا.. منذ تلك اللحظة التي رآها فيها، قبل أسبوع، تلهو مازحةً بشعر زميلها الإيطالي الذي كان يحاول تقبيلها.
كان يبدو سخيفاً وقد أحرقته الغيرة العمياء... صفعها بقوة يوماً ما... هددته بالاتصال بالشرطة فلم تعد تهديداته الصغيرة تخيفها.. بل لم يعد هناك من يستطيع كبح جماح خيالها المجنون.. كانت تشعر بانتصار عظيم وهي تدرك أنها تستطيع أن تفعل ما تريد... لقد أصبح لها أصدقاء كثيرون... ولم يكن ما تبقى من حبها له كافياً لصدها عن عزمها بتركه نهائياً... أحس انه حشرة صغيرة تحاول تسلق جدار لزج.. كان تمردها حتمياً.. لكنه كان مؤلماً بالنسبة له.. ومنذ ذلك اليوم أدرك أن علاقتهم كانت قد انتهت..
منذ فترة طويلة لم تتواصل معه... كان يسمع عنها فقط من أصدقاء مشتركين ما لبثوا أن تفرقوا جميعاً.. قاوم شعور الهزيمة طويلاً وظلت (نوال)) بعد ذلك في ذاكرته الحدث الأكثر تأثيراً في حياته التي لم يكن يعرف، وهذه طبيعة كل البشر، إنها ستنتهي بعد دقائق من الآن.. لماذا يا ترى تذكرها الآن؟ حدث نفسه متسائلاً.. ولماذا أصر سائق السيارة (البيجو) على شراء (القات) من هنا؟ فالرحلة لا تزال في بدايتها وسيمرون بأسواق (قات)) عديدة في طريقهم الطويل الصاعد إلى العاصمة. كانت السيارة قد توقفت بشكل عشوائي على جانب الطريق ونزل سائقها النزق غير آبهٍ باحتجاجات الركاب متوجهاً نحو كشك حديدي مجاور ما لبث أن تبعه إليه بعض الركاب لشراء (القات) أيضاً. زحزح جسده المحشور في الكرسي الخلفي... كان مرهقاً من السفر ومن زحمة الركاب والشمس الحارقة التي كوت ظهره المبتل عرقاً في المؤخرة. كانت سيارة فارهة قد توقفت وبنفس الأسلوب العشوائي، على الجانب الآخر من الطريق استطاع، رغم انعكاس أشعة الشمس على هيكلها الأنيق، أن يلمح تقاسيم وجه امرأة جميلة بداخلها.. أشعل سيجارته الأخيرة فالتصق دخانها بدخان ركاب المقاعد الأمامية الذين أعياهم انتظار السائق فبدأوا بعصبية يضغطون على بوق السيارة لاستعجاله بينما كانت عيناه لا تزالان تراقبان المرأة الجميلة داخل سيارة الضيافة الحكومية الفارهة التي أزعجتها نظرات الباعة والفضوليين، الذين يكتظ بهم سوق (النجد الأحمر) في مثل هذا الوقت من النهار، فأدخلت ذراعها البيضاء المرتخية على حافة النافذة إلى الداخل ورفعت قليلاً زجاج النافذة.
تكومت أجساد الركاب مرة أخرى وبدأت السيارة بالتحرك وهو لا يزال يراقبها.. وفجأة استيقظت حواسه الناعسة ومرَ خاطرٌ سريع في عقله مالبث أن تحول إلى يقين... حاول أن يلتفت إلى الخلف ليرى المرأة مرة أخرى لكنه لم يستطع تحرير جسده المحشور بسهولة وعندما سنحت له الفرصة بالنظر إلى الخلف هالهُ منظر إطاراتٍ ضخمة ل “قاطرة غاز دهست في حادث مروري مريع الجانب الخلفي لسيارة بيجو وأودت بحياة خمسة من ركابها” كما سيُكتب الخبر بخط صغير في الصفحة الأخيرة من الجريدة اليومية في صباح اليوم التالي.