العدو الصهيوني يواصل خروقاته لإتفاق غزة: استمرار الحصار ومنع إدخال الوقود والمستلزمات الطبية    عدن.. هيئة النقل البري تغيّر مسار رحلات باصات النقل الجماعي    الدوري الاسباني: برشلونة يعود من ملعب سلتا فيغو بانتصار كبير ويقلص الفارق مع ريال مدريد    الدوري الايطالي: الانتر يضرب لاتسيو في ميلانو ويتصدر الترتيب برفقة روما    الشيخ علي محسن عاصم ل "26 سبتمبر": لن نفرط في دماء الشهداء وسنلاحق المجرمين    انها ليست قيادة سرية شابة وانما "حزب الله" جديد    فوز (ممداني) صفعة ل(ترامب) ول(الكيان الصهيوني)    تضحياتٌ الشهداء أثمرت عزًّا ونصرًا    الأستاذ علي الكردي رئيس منتدى عدن ل"26سبتمبر": نطالب فخامة الرئيس بإنصاف المظلومين    مرض الفشل الكلوي (27)    فتح منفذ حرض .. قرار إنساني لا يحتمل التأجيل    الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر اليمني ل 26 سبتمبر : الأزمة الإنسانية في اليمن تتطلب تدخلات عاجلة وفاعلة    ثقافة الاستعلاء .. مهوى السقوط..!!    تيجان المجد    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    الدولة المخطوفة: 17 يومًا من الغياب القسري لعارف قطران ونجله وصمتي الحاضر ينتظر رشدهم    سقوط ريال مدريد امام فاليكانو في الليغا    الأهلي يتوج بلقب بطل كأس السوبر المصري على حساب الزمالك    نجاة برلماني من محاولة اغتيال في تعز    الرئيس الزُبيدي يُعزي قائد العمليات المشتركة الإماراتي بوفاة والدته    قراءة تحليلية لنص "مفارقات" ل"أحمد سيف حاشد"    مانشستر سيتي يسحق ليفربول بثلاثية نظيفة في قمة الدوري الإنجليزي    محافظ العاصمة عدن يكرم الشاعرة والفنانة التشكيلية نادية المفلحي    الأرصاد يحذر من احتمالية تشكل الصقيع على المرتفعات.. ودرجات الحرارة الصغرى تنخفض إلى الصفر المئوي    وزير الصحة: نعمل على تحديث أدوات الوزارة المالية والإدارية ورفع كفاءة الإنفاق    في بطولة البرنامج السعودي : طائرة الاتفاق بالحوطة تتغلب على البرق بتريم في تصفيات حضرموت الوادي والصحراء    جناح سقطرى.. لؤلؤة التراث تتألق في سماء مهرجان الشيخ زايد بأبوظبي    تدشين قسم الأرشيف الإلكتروني بمصلحة الأحوال المدنية بعدن في نقلة نوعية نحو التحول الرقمي    شبوة تحتضن إجتماعات الاتحاد اليمني العام للكرة الطائرة لأول مرة    صنعاء.. البنك المركزي يوجّه بإعادة التعامل مع منشأة صرافة    رئيس بنك نيويورك "يحذر": تفاقم فقر الأمريكيين قد يقود البلاد إلى ركود اقتصادي    وزير الصناعة يشيد بجهود صندوق تنمية المهارات في مجال بناء القدرات وتنمية الموارد البشرية    اليمن تشارك في اجتماع الجمعية العمومية الرابع عشر للاتحاد الرياضي للتضامن الإسلامي بالرياض 2025م.    الكثيري يؤكد دعم المجلس الانتقالي لمنتدى الطالب المهري بحضرموت    بن ماضي يكرر جريمة الأشطل بهدم الجسر الصيني أول جسور حضرموت (صور)    رئيس الحكومة يشكو محافظ المهرة لمجلس القيادة.. تجاوزات جمركية تهدد وحدة النظام المالي للدولة "وثيقة"    خفر السواحل تعلن ضبط سفينتين قادمتين من جيبوتي وتصادر معدات اتصالات حديثه    ارتفاع أسعار المستهلكين في الصين يخالف التوقعات في أكتوبر    علموا أولادكم أن مصر لم تكن يوم ارض عابرة، بل كانت ساحة يمر منها تاريخ الوحي.    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    محافظ المهرة.. تمرد وفساد يهددان جدية الحكومة ويستوجب الإقالة والمحاسبة    هل أنت إخواني؟.. اختبر نفسك    سرقة أكثر من 25 مليون دولار من صندوق الترويج السياحي منذ 2017    عين الوطن الساهرة (1)    أوقفوا الاستنزاف للمال العام على حساب شعب يجوع    أبناء الحجرية في عدن.. إحسان الجنوب الذي قوبل بالغدر والنكران    جرحى عسكريون ينصبون خيمة اعتصام في مأرب    قراءة تحليلية لنص "رجل يقبل حبيبته" ل"أحمد سيف حاشد"    مأرب.. فعالية توعوية بمناسبة الأسبوع العالمي للسلامة الدوائية    في ذكرى رحيل هاشم علي .. من "زهرة الحنُّون" إلى مقام الألفة    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    على رأسها الشمندر.. 6 مشروبات لتقوية الدماغ والذاكرة    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    صحة مأرب تعلن تسجيل 4 وفيات و57 إصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام الجاري    الشهادة في سبيل الله نجاح وفلاح    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصيدة النثر وإشكالاتها عند عبدالعزيز المقالح 2-3
نشر في الجمهورية يوم 10 - 04 - 2011

ربما يكون من المجازفة القول: إن الشعر في جانب كبير منه يختزل بعض خواص الإيديولوجيا في استبطان الذاكرة الجماعية, وتعميق الإحساس بإنسانية الإنسان، ولهذا فكثيراً ما يثير الخروج على قواعده وتقاليده الفنية أوار المعارك والخصومات، فتتولد الأسئلة, وتطرح الإشكالات, وينقسم الناس بين متقبل مؤيد, ومعارض رافض، ولأنه – أي الشعر– لا يمتلك صفة المقدس كما هو الحال مع الإيديولوجيا؛ فإن معاركه لا تلبث أن تخبو, وتتلاشى وتخمد نارها على مدى ليس ببعيد، مما يتيح للصيغ الجديدة التبلور والانتظام في سلك الإبداع واكتساب شرعية التقبل من الذائقة الفنية الجماعية..
وفي مكان آخر يورد المقالح عريضة دفاعاً عن قصيدة النثر لأحد المتحمسين الأذكياء لها هو خليل الموسوي, نقتطف منها قوله: «إن القصيدة «النص» ليست نثراً وإنما شعر كامل الموسيقى, لكنها موسيقى غير مستوردة من محلات الفراهيدي وإنما من محلات أرقى وأكثر عصرية.. إن قصيدة النثر تعتمد أساساً على الموسيقى الداخلية: وثمة فرق كبير, وكبير جداً, – والكلام مازال للموسوي – بين الإيقاع المستورد من خارج «أنا» الشاعر وبين الإيقاع الداخلي الحار, فإذا كان الإيقاع الخارجي يتوالد من توارد الكلمات ضمن مسار عروضي راقص فإن الإيقاع الداخلي يتولد من تماس الكلمات وضعفها, فتتفجر وتتحول طبيعة أجسادها من خلال برق شعري كثيف.. مما يجعل الحرارة تدب في أوصال الكلمات والحروف, وتجري الحياة في عروقها فتخرج غير مألوفة وتذوب الكلمات المتفجرة بحس التجربة والرؤيا وتشق إيقاعها الخاص العاري ويدخل الشعر إلى أعماق الروح فتعيش الدهشة والنشوة والإيقاع»(20).
وفي تعقيب المقالح على هذه المرافعة يقول: «وبالرغم من امتلاك الأستاذ الموسوي ناصية الحجة في الدفاع عن القصيدة الأجد بل والقدرة على مهاجمة خصومها فإن لغته الشاعرية قد أضاعت عليه كثيراً من الحجج التي أوردها في دراسته.. إن هذه التعريفات الخيالية المغرقة في الشاعرية لا تدعم موقف القصيدة النص «القصيدة الأجد», بقدر ما تدعم التيار الاستنكاري المدعوم بقوة السلف والتراث, وهي تسعى إلى تكريس التناقض والتناحر حول مفاهيم الألفاظ ومدلولاتها, بدلاًمن التركيز على الخصائص الجوهرية في الفن عموماً والشعر بوجه خاص»(21).
وأعتقد أن المقالح قد كفانا مؤنة الاشتباك مع هذه النوعية من النقد المنفلت كما يقول, إلا أن ذلك لا يمنع أن نسجل ملاحظتين هما برأينا غاية في الأهمية:
الأولى: أن غلبة الصوت المتشنج والانفعال الحاد عند محمد عضيمة قد دفعه إلى اعتبار القصيدة موازياً موضوعياً للواقع الاجتماعي والسياسي؛ ومن ثم رأى أن قصيدة النثر قرين الحرية والديمقراطية بينما قصيدة الوزن معادل موضوعي للعبودية والدكتاتورية, أما الموسوي فقد غلب على نقده الصوت الشاعري فكانت محاولته لتعريف الإيقاع في قصيدة النثر, قصيدة نثر بحد ذاتها, ولها من إشراقة الألفاظ وتوهج العبارات ما تفتقر إليه كثير من قصائد النثر الحالية. وفي خضم هذه الشاعرية ضاع التعريف, وبين هذين الصوتين «المتشنج, والشاعري» ضاعت قصيدة النثر, وجنى عليها أصحابها أكثر مما جناه عليها أعداؤها. ويمكننا القول أن النقد الذي رافق قصيدة النثر وساند مسيرتها لم يخرج – باستثناء بعض الأقلام – عن هذين الصوتين: المتشنج الصاخب, والانفعالي الشاعري, وهذا – برأيي – أحد أهم أسباب الركام النثري الذي نراه اليوم يملأ الصفحات الثقافية وتسود به الصحف والمجلات الأدبية.
أما الملاحظة الثانية: فخلاصتها أن ثمة مؤشراً يتعلق بموقف المقالح النقدي تدل عليه النصوص النقدية السابقة. وإذا عرفنا أن بين النصين والتعقيبين ما يقرب من العشرين عاماً تأكد أننا بصدد موقف نقدي مسؤول يتسم بالوسطية والاعتدال والمغايرة لتلك الأصوات المنفلتة. وقبل أن نشرع في الاحتكاك مع هذا الموقف لابد أن نثبت حقيقة مانراه خشية أن يفهم من الطرح السابق عكس ذلك, وهي أننا لسنا ضد أو مع هذا الشكل على حساب ذلك الشكل أو الأشكال الشعرية الأخرى. ولا نروم بما طرحناه سابقاً المس بمشروعية قصيدة النثر فهي شكل فني ينبغي – بل يجب – أن يعطى حقه من الاهتمام والدراسة الواعية المنضبطة بشروط الفن بعيداً عن الفوضى أو الدعاية الرخيصة؛ الدراسة التي من شأنها إبراز مواطن الإيجاب وتنميتها والتعرف على مواطن الخلل ومقاربتها. والأخذ بيد هذا الجنس الفتي ووضعه في المكان اللائق به. وعذرنا إن تناثرت بعض الأفكار هنا أو هناك التي توحي بغير ما قصدنا أنها من باب إثبات واقع نقدي ليس إلا.
تطور موقف المقالح:
خشية الوقوع في شرك الأحكام الجاهزة نعلن تخلينا – مؤقتاً – عما أشرنا إليه سابقاً من غلبة روح المسؤولية والاعتدال في الموقف النقدي للمقالح من قصيدة النثر حتى لا يقال أننا ننسج خيوط ما حددناه ورسمنا أبعاده سلفاً. ومن أجل ذلك سنكتفي ونحن نتقصى أبعاد الموقف النقدي عند ناقدنا المقالح – برصد مسارات التحول ومحطات التطور وحيثيات ذلك دونما إصدار أحكام أو الخوض في التحليل الذي يمكن له أن يخدم ذلك الاستنتاج. وغير ذلك فنتركه للقارئ ووعيه النقدي.
ولعل أول ما يصادفنا هو موقف التنكر والرفض, فبعد إعلان ميلاد قصيدة النثر في لبنان وتبني جماعة «مجلة شعر» لها, نجد المقالح في مقدمة ديوانه الثاني «مأرب يتكلم» الذي أصدره 1972م بمشاركة عبده عثمان يرفض هذا الشكل الشعري ويصفه بالفقاعات والطفح النثري, حيث يقول: «من المستحيل اعتبار تلك الفقاعات اللبنانية المعروفة بقصيدة النثر وما شابهها شعراً جديداً وحديثاً أو مستقبلياً»(22).
وقد بنى المقالح هذا الموقف الرافض على أساس افتقار هذا الضرب الشعري للسمة الأساسية للشعر ألا وهي الوزن, ومع أنه – أي المقالح – ظهر في هذه المقدمة منحازاً تماماً للجديد الشعري باعتباره وجوداً مساوياً «للصدى الراعش لإيقاع العصر, والأثر البارز للبصمات الفكرية التي خلفها القرن العشرون على مشاعر أمتنا العربية, وفي وعي وضمائر مثقفيها ووجداناتهم»(23)، إلا أن الوزن ظل معياره للتفريق بين الشعر والنثر, وللتدليل على فاعلية هذا المعيار في حسم التمييز بين ما هو شعري وما هو نثري يستدل المقالح بمقولة بول فاليري: «الشعر رقص, والنثر مشي» ويرى أنها «كما كانت صالحة بالأمس البعيد للتفريق بين الشعر والنثر التقليديين, فهي كذلك صالحة اليوم للتفريق بين الشعر الجديد وقصيدة النثر أو نثر القصيدة البيروتية»(24), وعلى هذا الأساس يتبنى المقالح تعريفاً للشعر يمثل الوزن نصف بنيته, ذلك هو قول نازك الملائكة: «الشعر تجارب منغمة»(25), ووفقاً لهذا التعريف – وهو في نظره أصدق تعريف – يؤكد الناقد المقالح على أهمية الموسيقى في الشعر, فيرى ضرورة «أن يحتفظ الشعر الجديد بقدر من الموسيقى يحفظ للتجربة تأثيرها وسلطانها على النفوس ولا أؤمن حتى الآن بالموسيقى الداخلية التي تجعل الألفاظ بموسيقاها الذاتية كما يقول البعض تستغني عن الموسيقى الخارجية فإنه لا غنى في الشعر عن موسيقى الوزن حتى وإن تم الاستغناء أحياناً عن موسيقى القافية.
وفي إطار التعريف الأخير: «الشعر تجارب منغمة» ينبغي أن تختفي أو على الأقل لا يحسب شعراء ذلك الطفح النثري الذي يولد بعيداً عن النغم الشعري حتى لو اشتمل ذلك الطفح على تجارب ذات قيمة»(26). إن خلو قصيدة النثر من موسيقى الوزن هي – إذن – حيثية المقالح لرفضها, وهو مبرر كافٍ للرفض إذ لم يكن الوزن يمثل لديه معياراً للتمايز بين الشعر والنثر فحسب، بل إنه «الرباط السري بين الحداثة والموروث, وإذا كانت قد حدثت تجاوزات من خلال ما يسمى بقصيدة النثر فهي خارج حدود القصيدة الجديدة»(27). ويراد بالقصيدة الجديدة في كل مقولات المقالح قصيدة الشعر الحر, ذلك الشكل الذي غادر موسيقى الشطرين ولكنه التزم موسيقى التفعيلة, وهي كما يرى غير واحد من الدارسين وحدة الإيقاع في الشعر بشكل عام(28).
وما نريد أن نصل إليه هو أن ملتقى الشعر الجديد– أي قصيدة التفعيلة – لم يفقد صوت الموسيقى التي ألفتها أذنه منذ أطربه بها الشاعر الجاهلي الأول, صحيح أن معمار القصيدة تغير ولكنه – أي المتلقي – قد اعتاد تجديد البناء الشكلي للقصيد, وحملقت عيناه في معمار الموشحات والمربعات والمخمسات...إلخ ولكنه مع كل تغيير طرأ على معمار القصيدة كان لا يزال يتمتع ويطرب بموسيقى الشعر, ولم يجرؤ أحد ممن خاض غمار التجديد الشكلي أن يصدم ذائقته بكلام نثري على أنه شعر أو يقول له: إن الشعر ليس له موسيقى. ومن هذا المنطلق فقد رأى المقالح أن قصيدة النثر ستظل الشكل الأكثر رفضاً من المتلقي»، إن بعض المتلقين على استعداد لتقبل هذا اللون من الأدب على أنه نثر فني, لكن الغالبية العظمى ترفضه باعتباره شعراً, وترفض أن ترى الشعر وقد تخلى نهائياً من كل عناصره الفنية, وفي مقدمتها الوزن»(29).
ومع أن المقالح قد أفرد لهذا الشكل الشعري الأحدث بعض الوريقات في رسالته للماجستير «الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن» إلا أنه لم يتخل عن الوزن كشرط للشعر, فقد رأى أن قصيدة محمد المساح وعبدالودود سيف «أنا وحبيبتي ورحلة الحب «تفوق عشرات القصائد العمودية والجديدة ولكنها كانت تغدو أكثر تفوقاً لو أنه قد توافر لها الوزن»(30), ولا يبدو من هذا المقتبس – مع ما فيه من إشادة – أن ثمة تحولاً كبيراً طرأ على موقفه تجاه قصيدة النثر, وأما احتكاكه مع بعض نماذجها في رسالته العلمية فمن باب الإحاطة بالمشهد الشعري اليمني ليس إلا, وهو أمر فرضته طبيعة رسالته وشمولية موضوعها؛ ولذا فقد كانت الموضوعية طاغية على أحكامه النقدية في أثناء قراءته لتلك النماذج.
ففي تحليله لقصيدة عبدالرحمن فخري «بلقيس تبكي بدمعي» وهي قصيدة نثرية ألفيناه يقول: «وكما تعددت مستويات هذه القصيدة في الشكل وفي درجة الوضوح, وفي الوزن فقد تعددت كذلك مستوياتها من حيث الجودة والرداءة»(31). ويتضح من هذا المقتبس – وسابقه – أن الرفض الذي ألفيناه في مقدمة ديوان «مأرب يتكلم» قد تحلل وخفت حدته, وأن ثمة معايير أخرى غير الوزن دخلت قاموس الناقد لتكون ضمن مقاييس الشعر واشتراطاته, وهو ما ينبئ بتحول جديد في الموقف النقدي؛ لأن توسيع مقاييس الشعر هو بلا شك الخطوة الأولى للاتجاه صوب قصيدة النثر، إذ هي نتاج طبيعي للتحلل من الشروط التقليدية لهذا الفن, ولا مشاحاة في ذلك فنحن نعلم أن التجديد في أشكال الشعر وقوالبه لم يبدأ إلا مع انهيار الشرط التقليدي الشهير «الشعر قول موزون مقفى يدل على معنى» لتحل محله أو بالقرب منه مفاهيم الخيال والمجاز وبلاغة الكلام. ومع أن المقالح مازال متمسكاً – حتى اللحظة – بمعيار الوزن فإن لهجته وأسلوب تعامله مع تلك النماذج النثرية توحي بتحفظه عليها وليس رفضه لها كما سبق له ذلك, وشتان بين الرفض والتحفظ, فإذا اعتبرنا أن الأول يعني: «الترك» والثاني يعني: «الاحتراز من الوقوع في الخطأ»(32), فذلك يشير إلى أن إمكانات الحوار في موقف التحفظ متوافرة ومتى مازالت أسباب الوقوع في الخطأ تعدلت المفاهيم والأفكار وتغيرت– بالتالي– المواقف.
وثمة إجماع بين عدد من الباحثين ممن سبق لهم واحتكوا مع المشهد النقدي اليمني بأن العام 1976م قد شهد أول انعطافة في موقف المقالح باتجاه مناصرة قصيدة النثر(33) من خلال ما نشره من دراسات وبحوث ضمنها كتابه «قراءة في أدب اليمن المعاصر», وهو من الكتب التي تمثل البدايات المتحفزة للمقالح, ومن الكتب التي أثارت قضايا الجديد والقديم, بل الجديد والأجد(34), وفيه دراسة بعنوان «ملامح التجربة المعاصرة لقصيدة النثر في اليمن» سبق للمقالح ونشرها في مجلة الحكمة العددين: 48و50, مارس ومايو 1976م, وفي الدراسة التي هدفت بالأساس للتعريف برموز قصيدة النثر وشعرائها في اليمن أبدى المقالح تعاطفه وترحيبه بهذا الشكل بصورة غير مسبوقة, مفتتحاً الدراسة بما يشبه الاعتذار والتراجع عن تحفظه الذي سبق وسجله في كتاباته الفائتة حيث يقول: «وكنت في كتابي «الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن» وقبله في مقدمة ديوان «مأرب يتكلم» قد أظهرت بعض التحفظات حول قصيدة النثر,... ومنذ ذلك الحين والقصيدة النثرية تشغلني ونماذجها الأكثر تجاوزاً وشعرية تشدني وتدعوني إلى تجاوز موقفي المتحفظ»(35), ويبدو أن المقالح قد تجاوز موقف التحفظ بمسافات, وتحول إلى موقف المساندة والتأييد بمحاولته توفير الدعم اللوجستي, ووضع الإطار النظري لهذا الوليد الفتي.
ومن هذا المنطلق رأى أن: «الفن الأصيل كلما خرج من شروطه التقليدية وقع في إطار شروط أكثر صعوبة. ولم يعد صحيحاً بالمرة أن القصيدة الجديدة أسهل من القصيدة العمودية لخروج الأولى على بعض الضوابط الخليلية. كما أنه ليس صحيحاً – كذلك – أن قصيدة النثر أسهل من الاثنين لخروجها نهائياً عن دائرة الخليل ولكونها صارت مشياً بعد أن كانت القصيدة – على حد التعبير التقليدي – رقصاً, ونحن نؤكد أن الرقص في قصيدة النثر وهو – هنا – الشعر أكثر وجوداً – وإن لم يكن أكثر رنيناً – في قصيدة النثر منه في المنظومات العمودية»(36) وفي سعيه لتوفير الغطاء النظري بحث الناقد جذور هذه القصيدة, وتتبع ينابيعها الأولى في التراث العربي وعرض من ثم لخصائصها, والأشواط التي قطعتها. وغيرها من القضايا موضوع حديث المبحث القادم.
وواضح هنا أن المقالح انطلق من المعايير نفسها التي بنى عليها موقف الرفض, وهي تلك المتصلة بالرقص في «الشعر الموسيقي» وإن كان واضحاً بما عناه بالرقص عندما رفض قصيدة النثر – أي خلوها من موسيقى الوزن – فإنه هنا لم يطلعنا كيف تحقق الرقص «الموسيقى» لهذه القصيدة. ومع أنه قد أشار إلى أن: «الإيقاع الداخلي– قد حل محل الوزن, ومحل رنين القافية»(37), فمن غير الواضح كذلك بما عناه بالإيقاع الداخلي فهو مفهوم غير واضح لديه حتى اللحظة, وسبق له وأعلن ذلك صراحة بقوله: «ولا أؤمن حتى الآن بالموسيقى الداخلية التي تجعل الألفاظ بموسيقاها الذاتية كما يقول البعض تستغني عن الموسيقى الخارجية فإنه لا غنى في الشعر عن موسيقى الوزن حتى وإن تم الاستغناء أحياناً عن موسيقى القافية»(38).
ولعل التساهل في استصحاب حيثيات ومبررات تحول موقف الناقد من الوزن إلى الإيقاع الداخلي قبل أن يضع مفهوماً محدداً للإيقاع يزيل به لبس ما سبق وأعلنه, ويكون مبرراً كافياً ومقنعاً لهذا التحول؛ هو من دفع بأحد الباحثين إلى رؤية هذا التحول من زاوية أخرى ربما تقلل من الموضوعية التي حاولت الدراسة أن تظهر بها(39), فثمة إشارة على درجة من الأهمية ذكرها الدكتور رياض القرشي, وهي أن قبول المقالح بقصيدة النثر في هذه المرحلة «يأتي من زاوية الصراع بين الجديد والقديم, وبدا فيه المقالح منتصراً لأصحاب الجديد, خاصة وأن الذين مارسوا هذا اللون من الشعر كانوا من أنصار الجديد التفعيلي في بداية الأمر.. ومما يدل على أن هذا القبول كان من باب الانتصار للجديد فقط أنه تراجع عنه بعد ذلك وبخاصة حين لا ينصرف نقده إلى المقارنة بل إلى دراسة شعر شاعر»(40). وإذا نحن وضعنا هذه الملاحظة بجوار قول المقالح: «أنا مؤمن بالجديد الشعري حد التطرف»(41) حُق لنا موافقة صاحبها الرأي, خاصة ونحن واجدون في مقولات المقالح من مثل هذه الأحكام: «وإذا كانت قصيدة النثر تقدم الآن في بلادنا أنضج ما أعطت في الأقطار العربية فإن الفضل في ذلك راجع إلى جهود ومواهب عدد من الشعراء اليمنيين الشبان وفي مقدمتهم: حسن اللوزي, وذو يزن, ومحمد المساح, وعبدالرحمن فخري, وعبدالودود سيف, ومحمود علي الحاج, وشوقي شفيق, وآخرون لا أتذكر أسماءهم الآن»(42), فقد كان من السابق لأوانه في تلك المرحلة الحديث عن قصيدة نثر ناضجة في إطار القطر الواحد, ناهيك عن المفاضلة بينها وبين قصائد الأقطار الأخرى؛ نظراً لعدم تبلور مفاهيمها النظرية, وهشاشة الإطار المرجعي النقدي لقصيدة النثر العربية بشكل عام.
وليس هذا رأيي فحسب, بل هو رأي المقالح نفسه, ففي المقابلة التي أجراها معه عبدالرحمن إبراهيم للعدد الأول من مجلة «الثقافة الجديدة» 1978م – أي بعد عامين من هذه الدراسة – وجدنا المقالح يقول: «ومن الملاحظ أنه لا القصيدة التفعيلية, ولا قصيدة النثر تكتب بشكل ثابت, فلا تزال كلتا القصيدتين تحت التجريب, ولم تطرح قضاياهما بشكل جدي حتى الآن»(43). وفي كتابه أزمة القصيدة العربية المنشور بعد تلك الدراسة ب9 سنوات – أي 1985 – نراه يقول: «قد يمر وقت طويل قبل أن تصبح القصيدة الأجد كائناً حياً له ملامحه الخاصة ومعالمه المميزة وعناصره المتكاملة»(44) بما يؤكد أن الحديث عن التميز سابق لأوانه. ومع ذلك فقد كانت الموضوعية سمة غالبة وبارزة في هذه الدراسة, حتى وإن جاءت في قالب الانتصار للجديد؛ فقد قدم فيها المقالح أفكاراً غاية في الأهمية يمكن أن نعدها الأساس أو الأرضية التي استند عليها في مواقفه بعد ذلك – ومنها على سبيل المثال تلك التي ضمتها الخاتمة, كقوله: «إن قصيدة النثر المتجاوزة لما تواضع الناس على تسميته بالشعر المنظوم وبالنثر المشعور, ستصبح عما قريب القصيدة الصورة أو القصيدة اللوحة, وهي قصيدة نابعة من عصرها ولها زمنها الخاص تستغني بلغتها المشرقة وبإيقاعها الدرامي عن كل الفنون البلاغية الموروثة, وهي حقاً قصيدة الشعر الحر لأنها تحررت نهائياً من عنصري الوزن والتقفية وقد كانا من أهم ومن أبرز العناصر التي يتآلف منها عمود القصيدة التقليدية, ورغم ذلك فقد بقيت شعراً, وشعراً متجاوزاً, وهي في اليمن علامة من علامات الجدة والمعاصرة في شعر اليمن الحديث»(45), غير أن هذه الأفكار– برأي باحث آخر – «لم تكن لتمثل مرحلة انعطاف في موقفه؛ لأن المحاورات التي أجريت معه بعد نشره لهذه الدراسة لم تعكس موقفاً مسانداً ومؤيداً لهذه القصيدة وإنما كانت تدل على مرونة تجاهها»(46).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.