بين سفرٍ وسفر تزدحمُ في الأفقِ الذكريات، كما تزدحمُ في القلبِ الخواطر بوداعةٍ وحبٍ وحنانٍ وترقبٍ وصفاءٍ وانتظار. وجوهٌ وأحداث، أفراحٌ وأحزان خيباتٌ متكررة أو رجاءٌ يتيم، رفةٌ في الجفن أو نكسةٌ في القلب، ذكرياتٌ وانفعالاتٌ وأحاسيس. مرةً تتعالى في الفضاء ومرة أخرى تلامسُ وجهَ الأرض. ضاقت بسجنها، وضاقتْ في وجهها سبلُ البحر والبر، فلجأتْ إلى السماء، لتتسع أمامها رحابة الفضاء وتسكرُها أحلامُ “ديدال” وطيشُ “إيكار”. حرَّضتها الحكاية، ونازعتها عوامل الزمن، فضاعفت من سرعتها لتدرك أقصى السعادة. حلقت عالياً عالياً. نسِيَتْ نفسها. كادت تدركٌ وجه الشمس، ليذوب شمع الجناحين، ويتطاير الريش، فتتقاذفه الرياح، وتهوي مرة أخرى إلى الحضيض. أهيَ بدايةُ الحكاية أم نهايتُها؟ حكايةٌ تبدأُ صغيرةً بتفاصيلها، ثمَّ تكبُرُ معها كلُّ التفاصيل. تغادرُنا مشارب وتستوطنُ في القلوبِ مستجداتٍ وافِداتْ. تحملنا أفكارُنا وأحلامُنا بعيداً وسط تلك الأحداث والوجوه، وتعودُ تهبط بنا من سماءِ الأحلام إلى واقعِ الأرضِ، فنلمسُ معها معنى الوجود الحق، بعدَ أن عشنا الوهمَ الجميل. لم يكنْ كاذباً قط، ولم يكن خائناً ولا خاطئا أبداً. كان يملك أخلاق الأنبياء. لكنه أوصاني قبلَ الرحيل أن أصلِّي لأجله وأشكو للبحر همِّي وهمَّه. ألله يستجيب ويغفر، لكن البحر لا يعي ولا يسمع. طالت الشكوى والصلوات، وتَجَمَّعَتْ فيها خيبتي، وتعالى الخصام مع الروح، وحين بدأتْ أمواجُ البحرِ تدغدغُ رغبتي، ونسيمُه يلاطفُ شعري، شكوتُ إليه أمتاراً من الصفعات على وجهي، وطعنات كالرمل في نفسي ووجداني. شكوتُ للبحر عَصْفَ خواطري، ألقيتُ إليهِ بِهَمِّي. حَمَلَتْهُ موجةٌ إلى حيث لا أدري، موجةٌ تتحرى عن براءة القلوب، عن قداسة الحب والطين، والحاجة إلى قبلة أو رغيف، عن التناقضات وجدوى الحياة، في عالم متنافرٍ وحزين، أخذته البغضاء واستولت عليه المظالم والمطامع والتيه، بعيداً عن معاني الحياة البسيطة، ومحطات القلوب الطيبة الرحيمة، الحالمة بزمن جميل، نَحَرَ نفسه لكي لا يعود. تذكرتُ وصيتَه، وتوقفتُ أسائل نفسي بإحساسٍ أخرس، يحاكي في صمتِه عواطفَ الأنثى وفطرتها، وتناهتْ إلى خاطري تلك المرارة والأحزان، وجدتها في كتبه وفي رسائله، بين سطور وكلماتٍ تنزفُ جروحا ودماء. هاك يا بحرُ شكوتُ إليكَ همِّي، وهمه. رويتُ لكَ قصتي وبسطتُ أمامك حقيقةَ قلبي، فماذا أنت فاعلٌ يا مخزنَ أسراري وحبِّي؟ ترأفْ بنا يا سيدي، ترأّفْ بحالنا وقلوبنا من طغيانك وجبروتِ أمواجِك. في مداك يا بحرُ منتهى شكوتي، فهل تدفنُ أسراري في بواطنِ قواقعك في عالمكِ المظلمِ العميق؟ أم تفرِجُ عنها لتعتلي متنَ موجةٍ عائدةٍ إلى عيون الحبيب، إلى وطنٍ جريح، مهددٍ بالموت في كلِّ حين؟ لا تفشُ يا بحرُ أسراري وتعرِّيني أمامَ من جاءَ يستجيرُ بك، ويبثك أسرارَه وشكواه. غَسَلتني يا بحرُ من همومي وأدراني، وطيَّبْتَ خاطري. دلَّلَتَ بنسيمك شعري ووجنتيّ. بأمواجكَ أخْمَدَتَ بحر رغباتي، وأرجَعَتْني كما ولدتني أمي صافية، نقية، بكراً من الخطايا والرزايا، أو كأنما حججتُ إلى الديار وعدتُ صفحةً بيضاءَ من كتابِ الحياة في كل صفحةٍ منه محطات، تحملُ بين سطورها تجاربي، جروحي، آلامي وأفراحي.