كان يوماً مختلفاً تماماً عن بقية الأيام الماضية التي عشتها، كان يوماً يافعياً ساحراً، تتطاول على أفيائه الجبال، وتسبح في آفاقه ندف الضباب، وتستند إلى أوتاده صروح المباني العتيقة، وتشمخ من خلال مساماته أشجار البن الوارفة. تنكمش الحياة النابضة في الجلابيب الدافئة، وتشتعل المواقد على السفوح المرتعشة، فيما تتصاعد ألسنة الدخان مختلطة مع ريش الضباب، وتبقى الشمس عاجزة عن مصارعة الغيوم، وتنداح مع الشلالات الغنائية للعصافير موسيقى يافعية بعذوبة لا نهائية لفنان يافع علي صالح اليافعي، ويتبدى شتاء يافع الجميل بألوان زاهية ومختلفة. مطرزات صخرية كان كل شيء يترنم بتسابيحه الهامسة التاريخ، الإنسان، السحر، الجمال الأخاذ، المواويل وتمضي الخطى متسلقة جدران السعادة وجدران الوقت وجدران الآثار في تناغم يبعث البهجة في النفس، والكون يرتسم بأشكال مختلفة مملوءة بالتفاؤل والحبور، فيما الصدى يرفع أعلامه الشاعرية لدفقات الكلمات الرشيقة التي تشنف الآذان. كانت لحظات ذهبية تتوهج لها مسامات النفس المظلمة، في تقاطعات صخرية وسهلية أشبه بالأناشيد، وطرازات هندسية تتجاوز حدود التعقيد، وأعماق سحيقة تستبد في قعرها اللذة المعربدة، وتعتلي العقارب درجات الوقت فتعتلي الشمس سلم السماء، ويبدأ الضباب المهزوم بالانسحاب دفعات دفعات، حتى تبدو يافع جوهرة متلألئة في قلب الكون. يافع اليافعة منذ الأزل ويافع ما زالت يافعة لم تشخ رغم امتدادها على أجزاء من محافظتي، أبين ولحج، جبالها تتعملق وتاريخها وحضارتها، تكبران في راسيات احتضنت المعابد، وتشمخ جبال اليزيدي والعلي والعرو كساء، وثمر أعلى قمم يافع التليدة، ويسقط البصر على وديان، خصيبة تخضر لنضارتها العيون والقلوب كوديان ذي ناخب ويهر وغيرها، وتظل شجرة البن سيدة الأشجار على مستوى اليافعتين العليا والسفلى، وبدأت ابنة السماء ترسل خيوطها الدافئة فدبت الحياة، وارتفعت الأصوات الفرحة، وتبدت عوالم جديدة من قرى متناثرة على امتداد البصر، ومدن كانت ذات يوم قبلة الحضارة والتاريخ كمدينة بني بكر العملاقة الواقعة شمال يافع، والمزدحمة بآثارها الثمينة. بالإضافة إلى مدن لبعوس وحلاقة وقنداس العاصمة اليهرية، والمحجبة عاصمة السلطنة الهررية، وتتعدد المدن والقرى التي يطاردها البصر الواهن عن إحصائها، فيستقر على جبل القارة الذي يمتطيه قصر العفيفي، الفريد في معماره، الأبيض في أحجاره الرخامية، المزدحم بمنازله وأضرحته وصهاريجه ومدافنه الغالب عليها الطابع الحميري. حمير وأوسان المكان لا تكفيه زيارة واحدة، والآثار لا تعد ولا تحصى، ورفيق رحلتي الأخ صالح الحدي يحمل في رأسه خارطة طويلة لا يكفيها الزمن الذي حددته، والسلاسل الجبلية الطويلة لا تنتهي.. كانت أسئلة تاريخية ملحاحة سوف تكشف لي آفاقاً جديدة في حال الإجابة عنها، وكان صالح يؤكد أن يافع هي الموطن الأصلي للحميريين العظماء، مدللاً بانتسابها إلى مالك بن زيد بن رعين الحميري، ويضيف في سياق حديثه أن النواة الأولى ليافع كانت للأوسانيين تلك القبيلة التي كان صيتها يملأ الجزيرة العربية، ويهز فرائحها رعباً، ثم يتقدمني بخطواته الهادئة وسط التصاميم الهندسية الرائعة والفريدة وهو يردد متباهياً اسم أشهر ملوك يافع والمعروف بشهاب اليافعي، ثم يلتفت صوبي وسبابته تشير إلى مفترق زمن يتوسط القريب والبعيد موضحاً أن يافع مشهورة على مر التاريخ، حيث كانت إقليماً للسلطنة العفيفية، وتتعدد تفاصيل المدنية النورانية، فيما يبقى وهجها المتقد دافقاً في تلافيف الشرايين والأوردة على مر الوقت. مساجلات ومواويل تميل الشمس إلى الشفى، وتتصاعد أبخرة القهوة فيسري الدفء إلى الأبدان، وترتفع الضحكات المجلجة والنكات، وعلى حافة أزقة يتبادل المغرمون بالشعر تراتيلهم، وتشرد هواجسهم وحليلاتهم، وقريحاتهم الشفافة، وتهتز أوتار الأعواد، فيما تبوح قيثارات الرعاة كل ما يعتلج في أعماقها من مشاعر وأحاسيس، ويظل الجميع بتراثهم الأصيل منتظرين مهرجان الشعر المقام كل عام على بساط المغتربين، ونفحة المغرمين الهائمين، وتظل الكلمة واللحن الأصيل والدعابة روح الحياة في تلك البلاد الغارقة في براءتها وفطرتها، وعاداتها وتقاليدها المميزة التي تصاحب الأفراح والأعراس والمواليد، وتبقى المساجلات الشعرية فناً يسيطر على القرى والمدن والمقايل والصباحات والأماسي، وإن كان هذا الفن يجر الشعر اليافعي الخصب الكلمة والمعنى إلى كوكب من الركاكة والنحول وربما الاندثار. أماكن خالدة يحشد المساء جيوشه السوداء، فتحتشد في أعماقي حقائب الرحيل عن بلاد يمنية حباها الله بالجمال في الأرض والمباني السامقة، وفرشها بأشجار البن والقطن والخضروات والحبوب، وأنعم عليها بالهواجس واللحن الجميل، وأودع مرافقي صالح الحدي ومقولة صديقي صفوان الشويطر تترنم في ذاكرتي ..إن الأماكن الحضارية الجميلة تتربع عرش الذاكرة وعرش الوجود إلى ما بعد الفناء “إلى الأبد”.