أحلى اللحظات هي تلك التي تتفجر فيها الدهشة المفاجئة وأجمل الأيام هي تلك التي يصبح فيها الحلم الجميل والمستحيل حقيقة متوهجة. وليس هناك أجمل من الطبيعة في غيل باوزير.. حين ضاق من عمله المتواصل الذي حوله إلى ما يشبه الآلة سألته وهو يحزم حقيبته: إلى أين تنوي الرحيل؟...رد بزفرةٍ ملتهبة: أرض الله واسعة...ثم أردف قائلاً وقد علت ملامحه موجة ضاحكة: إلى غيل باوزير...كان مثلي ينقصه نهر ونخله، وكنت أتجاوزه بتصنت الأزهار وهي ترشف المياه، لكن نيته التي أتت دفعة واحدة إلى غيل باوزير أجبرتني على مجاراته فلقد كنت لا أختلف عنه في البحث عن أسرار الطبيعة الساحرة، وغادرنا همومنا بقلوب كل ما فيها نخيل باسقات ..لوحات طبيعية خالدة كانت تعيشنا في أحلامنا فعشناها في واقعها، وإلى الشمال من مدينة غير باوزير حمنا وحامت حولنا وفينا النجم والسركال، وتبدت عيون الماء حيوات قشيبة تتجاوز التسعين فانفتحت في القلوب تسعون باباً تدفقت من خلالها كل خيوط السعادة التي قضينا سنوات رملية نبحث عنها. إنسان الطبيعة كثيرة هي الأماكن في شتى أنحاء بلادنا أطلق عليها الغيل لغزارة مياهها الجوفية، وكثافة أشجارها، لكن عوامل خفية من ضمنها فِعال الإنسان أثرت على هذه الغيول فإن هناك أسباباً حسنة جعلت هذا الغيل سرمدياً للأجيال وإلى ما وراء حدود البصر، وتوالدت أشجار النخيل في خريفها المصفر بالثمار، فتحولت المناطق إلى مزارات كالديوان والحافة والفرجة ، وتمدد البساط الأخضر، على طول صهوت والباغ...إنها أماكن تهيم في أفيائها النفوس كرقصات الأغصان التي تداعبها النسمات العليلة، يقول رفيقي أنه يشعر في هذه الأماكن بأحاسيس مختلفة وجديدة...إنه يحس أنه يسترجع سنوات عمره التي أضاعها في الهباء، ويحس في ذات الوقت أن ملامحه الذابلة بدأت تزهر من ازهار المكان الذي نعيشه خصوصاً في تلك البقاع البدائية البسيطة التي جهزها الفلاحون للزوار كبستان الحسينية، وتزدحم الملامح التي تحمل مساماتها الحبورة مناطقاً شتى من داخل البلاد وخارجها...ووحدها الطبيعة تمنح الإنسان كل شيء بلا مقابل..إنها تعيد إليه سعادته وسروره، وتعيد إليه سنوات عمره التي ابتلعها الزمن مزيلة كل التجاعيد والتغضنات ، وتبقى دهشة الاكتشاف مطبوعة على جدار القلب على مدار الوقت، ووحدها الذاكرة مخولة بإختزال الكثير من الصور الخالدة التي لاتموت. تاريخ مزدحم من خلال ظلال الأشجار يتبدى الأفق أو بعضاً منه وهو مزدحم بالسحب وعلى أطراف المديرية يتراءى بحر سرح اليدين وفوقه الصباح..منظر جميل لا يمكن إن تكرر الطبيعة فلاشاته الزاهية سوى في هذا المكان الشاعري وتتراءى من بعيد أجساد تستحم بماء البحر الدافئ وطيور النوارس تحلق ببهاء في فضاء الشاطئ وتتوسط الشمس كبر السماء فيرتفع الأذان في كل مسجد، وبالأخص جامع النقعة القديم الذي يصل عمره إلى ضهاء سبعة قرون، وقد أسسه محمد بن سعيد باوزير،وفي لحظات روحانية نؤدي الصلوات جمعاً وقصراً لنغادر الصرح الروحاني إلى أهدافٍ سياحية لم نخطط لها من قبل ، ويقودنا أحد أبناء المنطقة إلى قارة آل عمر باعمر بآثارها التليدة، ثم تتخطى خطواتنا المرحة حصن الحطيم بشحير وكذا حصت العوالق الرابض في منطقة الحزم والمبني في حوالي العام 1960م ولست أدري هي ينسب هذا الحصن إلى قبائل العوالق الكائنة في محافظة شبوة ويتبدى المركز الثقافي بطرازه المعماري القديم والفريد...إبداع شامخ في زمن اللا إبداع، ومشعل متوهج في عقارب الانطفاء ومتحفاً يضم في أحضانه كل التحف في زمن أهمل التاريخ وباعه المهربون بأبخس الأثمان ومكتبة عامرة بالكتب في زمن أضحت القراءة فيه بضاعة كاسدة. “المدينة الفاضلة” حين يتنفس الإنسان الصعداء، فذلك الهواء بالأحرى ثاني أكسيد الكربون الملتهب عبارة عن هموم منصهرة يتخلص منها الجسد بفعل الطبيعة الساحرة ذات العلاج الناجع ما يختلج في أعماق الذات من تراكمات غمية على مر السنين، وتنتصب حصون آل بن همام شامخة في وجه الزمن، فيما تتناثر السقايات العطشة الباردة في أماكن شتى.. إنه البحث عن الأجر والثواب من الرب بشتى الطرق ورشفنا الماء بنهم خالص، ثم مسحت نظراتنا قباب الأولياء الدائرية.. يقول رفيقي: إن أغلب سكان الغيل القدامى أولياء ولا غرو في ذلك طالما أن الجميع يسعون لفعل الخير في كل بقعة، ولذلك فإن السعادة تفيض من خلال جوانحهم، وتتجلى الصورة المتشابهة بين المدن.. حبان في شبوة، وغيل با وزير في حضرموت في المعلامات التعليمية، ومن هذه المعلامات رباط العلامة محمد بن سالم، والتي أدت رسالتها التنويرية على مدى الأجيال.. لقد كان لحضرموت بشكل عام وغيل با وزير بشكل خاص الدور الريادي في نشر رسالة الإسلام في أفريقيا وجنوب غرب آسيا بالذات وبالمعاملة الحسنة للتجار الحضارمة عكسوا صورة الإسلام في الأمانة والمحبة والتسامح، ومن خلال تلك القاعدة وذلك المنطلق انطلقوا يبشرون وينشرون ديننا الإسلامي الحنيف، فدخل آلاف الناس من اندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وغيرها دين الإسلام أفواجاً. “ولادة جديدة” تلبسنا الدهشة، وتسكننا فنون المدينة الجميلة، فيصبح مسيرنا إلى السوق القديم واجب لا بد أن نؤديه حتى تكتمل في أعماقنا أوراق السعادة الخضراء، وإن كانت زيارة معالم الدولة القعيطية واجب آخر لا بد من تنفيذه لكن في زيارة قادمة كان السوق يداعبه الهثيم، وترتفع من خلال دكاكينه ومواويل وأغانٍ قديمة، وكانت مداعبات المطر الناعم كريش النعام فرحاً آخر يرقص بين الضلوع.. إنه الصباح الوحيد الذي أحسست من خلاله أنني ولدتُ من جديد.