1 - تقديم: لن نسلك في هذه المقاربة سبيل الدرس الأكاديمي التقليدي، وإنما سنترك جانباً القوالب الجاهزة التي اعتاد الدرس أن يتلبسها في مثل هذه المواقف ليناقش محمولات العبارة الشعرية في القصيدة. ونبدأ مما تصرح به الشاعرة نفسها من بوح تحاول أن تبرر به القول والفعل معاً. إنها حين تكتب تكتب في خلوة، ولكنها حين تقبل على جمهورها تقوم بتعرية الذات، وفضح أسرارها أمام حشود متعطشة للأسرار والأخبار.. إن العلاقة التي تقوم بين المنشد قصيدته والمتلقي، لا تقوم أساسا على جماليات اللغة، والصور، والعروض، وإنما تقوم على مقامات البوح وما يعمرها من غريب وجديد.. ولا تقوم اللغة إلا خادمة لذلك السريان الخفي بين لسان يدفع، وأذن لا تشبع. وكم يكون الأمر مثيرا حينما يكون الباث امرأة.. إنها ذلك الكائن العجيب الذي لا تنقطع أسراره، وكأنها تتجدد بتجدد الأيام مع شروق سموشها وتوالي لياليها.. إنك تسمع لها وكأنك تسمع حديثها لأول مرة، سواء تغزلت أو اشتكت، أو رثت، أو وصفت.. إن حديثها دوما.. شاءت أم أبت، حديث مبطن بأسرار.. أو هكذا نريد له أن يكون لئلا يسقط في التسطيح والسذاجة. وحين نقارب “ربيعة جلطي” من هذه الزاوية نريد للقوالب الجاهزة والأحكام الناجزة أن تتوارى بعيدا عن كل همس يند من كتلة النص، لنسمعه بينا واضحا من خلال حفيف الكلمات وحشرجة الحروف، وكأننا أمام فضاء تلعب فيه رياح يوسف غضوب بأوراق خرفه، تلهو بهن هنيهة وتعود تجمعها بعد شتات.. إن النص عند هذه الشاعرة وأخواتها .. يسلك عادة هذه الطريقة في النشر والطي.. في الكتم والبوح.. في إغراء الآخر والصدود عنه.. إنها أبداً امرأة أهدت للكلمات شيئا من غنجها وتمنعها.. وشيئا من جرأتها وتبذلها. وكأن النص الشعري يتخلى عن كافة تعريفاته التي أرساها النقد منذ أزمنة بعيدة، ليكتب لنفسه تعريفا جديدا مختلفا، لا نحسبه يصب في الرؤى التي تأسست عليها كافة المقولات النقدية الأكاديمية على أقل تقدير. فالشعر النسوي يقارب اليوم:« من باب هيمنة البوح كمولد نصي،يضع الشعر كنمط أدبي،يعيد هيمنة الذات في النصّ الشعري، ويضعه في منزلة مابين منزلتي السيرة الذاتية واليوميات، وهو توسيع لأدب البوح وتداخل الأنواع ضمن هذا الجنس الأدبي من خلال العبور من السيرة الذاتية إلى اليوميات الشخصية.»([1]) كل ذلك حتى يتمكن الاتصال بين الغامض في الذات والغامض في الكتابة اتصالا يمكِّن الظلال الدلالية من الهروب بعيدا في أغوار النفس المعذبة. أو كبصيص من نور يطل بين الفينة والأخرى عبر التكثيف الذي تتلفع به الكلمات، والضبابية التي تتشح بها العبارات، لتقول الشيء وضده في آن واحد. إن هذا الزعم ليس جديدا على الشعر النسوي، وليس بدعا فيه، وإنما هو مما يتحسسه النقد من خلال قياس مسافات الانتهاك التي يلاحظها بين الجنس والجنس، وكأن الحدود التي تُخترم بين الأجناس الأدبية ليس لها من حقيقة سوى حقيقة الاتساع لتشمل أنواع البوح، وتتمكن من نقل كافة الشحنات العاطفية التي ربما ضاق عنها الشعري واتسع لها السردي. فالشاعرة حينما تفتح القصيدة على السيرة، إنما تفتحها على تداعيات لا تحترم التراتبية الزمنية ولا المكانية، وإنما تنصاع لداعي الثرثرة التي تترنح بها مينا وشمالا، وكأنها تسعى وراء حقيقة لا يمكن إدراكها من خلال الشاخص بين يدي القارئ، وإنما يُستعان عليها بما ينثال من رؤى وهواجس تتخلل القول الشعري وتُتْرِع ساحته بالصور المبتوتة عن أصولها. إنها مخاطرة أن تجعل المرأة من وجودها كائنا سيريا: « بتحويل ذاتها إلى موضوع، وتستخدم الأنا للتمحور على الذات،وتأكيد الوظيفة التعبيرية لعناصر الرسالة الأدبية. مما يجعل المرأة عرضة لأن تؤخذ بجريرة ما تكتبه، فللمرأة حضور خاص ينعكس في خصوصية تجربتها ذاتها.» ([2]) فالكائن السيري معرض أبدا لانتهاك الضمير من خلال فعل البوح الذي يتدرج به من العادي العرضي إلى الخصوصي المرتبط بالأنا في أدق تفاصيلها، وفي أحرج لحظاتها الوجودية. ومن ثم فإن تحويل المرأة إلى موضوع يخاطب القارىء من خلال ضمير الأنا، لا يعفيه أبدا من تبعات الخوض في مسائل تستثير لذة القارىء، ليس باعتبارها فنا وتجربة إنسانية، وإنما باعتبارها مادة للتلصُّص التي تحول الفعل القرائي – مثلما يقول ألبيرس-إلى فعل مصاص الدماء، وتتحول معه المتعة الفنية إلى متعة سادية. فالقارىء:« المقيد بإكراهات التابوهات الدينية سيحاول ترميم فعل القراءة، وتفعيل مشاركته في ملء فراغات النص أو المسكوت عنه. وبذلك سيكون هذا الأدب نمطا من النصوص المناهضة لهذه التابوهات. وتدخل هذه النصوص ضمن نسيج النصوص المقاومة للتابوهات الثلاثة: في الجنس، والدين، والسياسة. فإن غياب الحرية قد حوّل كتابات المرأة إلى وسائل دفاعية.»([3]) لأن الظلال التي تلقيها الألفاظ على حواشي الدلالة تستثير متعة التلصص. كما أن للكلمات حفيفاً آخر ينضاف إلى الظلال ليجعل النص همسا تتخلله حشرجات مختلفة الوقع، بعيدة الغور، توحي بالمعاني الحافة فيها. لقد حاول النقد الأدبي محاصرة الظاهرة من خلال عقد الندوات التي دعيت إليها شاعرات، يتحدثن فيها عن تجاربهن وأساليب كتابتهن، وكيفيات تعاملهن مع اللغة والصور. وما انتهت إليه: « البحوث والمناقشات التي جرت في ندوة “الحرية في الأدب النسائي” التي جرت مؤخرا في طرابلس العاصمة الليبية، باتسام الأدب النسوي في تحديد أهم سمات الكتابة النسوية “بالانكباب على الذات، والعناية بالتفاصيل الصغيرة،والنبش في الطبيعة السيكولوجية،والجنسية… والعري،والفضح والتلصص، ونقد الذات، وتخطي الحرام الجنسي إلى الحرام السياسي” وكان وعي المرأة بالجسد، كحضور ثقافي يخضع لإكراهات المجتمع، باعتبارها مدخرا أموميا للولادة والتناسل، وكذلك لأداء الأعباء اليومية في المنزل حتى يصح وصفها بأنها حارسة الهيكل المنزلي» ([4]) ذلك لأن النسق الشعري في الأدبي النسوي حول الجسد إلى كتابة، ومن ثم صارت قراءة الجسد في الشعر النسوي من أولويات الفعل القرائي الذي يطل من وراء البوح على تضاريس الأنوثة مجسدة في الجسد المسجى عبر اللغة. لقد عُدَّ ذلك الفعل انتهاكاً لحرمة الجسد في بادىء الأمر، ثم فوجئ القارىء بالجسد حضورا ثقافيا بين يديه، ثم تحول الحضور الفني إلى استعراض أيروسي فج في كثير من النصوص التي لم تجد فيها المرأة إلا شبقا تحاول اللغة أن تقوله كيفما اتفق، في همس البوح تارة، وفي جهر العهر تارة أخرى. بيد أن الأمر لم يكن مقصورا على المرأة وحدها فقد شاركها الرجل في تأجيج العهر، وانساق وراء البوح ليقول جسه هو الآخر بفجاجة أكبر. فكان الجسد صفحة يكتب عليها شعر هؤلاء لافتاته الداعية إلى التجاوز والتحول.. لم يكن فيها شيء مما يدعون أنه تجاوز للتابوهات، وكسر لأصنام الماضي، ونسف لمخاوفه، وإنما ارتدت فيهم الكتابة الأيروسية إلى ابتذال مشين. 2 - مهمة الشعر لدى النساء: قد يكون من المفيد استقراء آراء الشاعرات في مفهوم الشعر ووظيفته، حتى نحدد مجال الرؤية التي سنناقش بها مواقف الشاعرة “ربيعة جلطي” لأننا قد أشرنا منذ البدء أننا أمام رؤية مختلفة، قد لا تتفق في كثير من معطياتها مع الرائج من الآراء والأقوال، وأنها تنصرف إلى وجهة أخرى تجعل فهمنا للشعر النسوي ينطلق من قاعدة خاطئة، وأن ما نبنيه من أحكام عليها لا يستند إلى معرفة حقة بالظاهرة، فيثبت في وجه النقد والانتقاد. ترى الشاعرة “حمر العين خيرة” :« أن أية محاولة لتنميط القول الشعري وحصره في قضايا ذاتية، أو قومية، أو محلية، هي جناية على الشعر، وتعطيل لحرية اللغة في الانعتاق والتجلي، لأن هوية الشعر انبثاق أزلي، وفيض مستمر، ولا يمكن لهذه الأزلية والاستمرارية إلا أن تكون شاهدا على الأبدية» ([5]) وكأن هاجس الشاعرة أن لا يُنمط الشعر، وأن لا يُقصر على مجال دون آخر، فلا هو بالذاتي ، ولا هو بالقومي، ولا هو بالمحلي،إنما هو كل ذلك جملة واحدة. وكأن وظيفة الشعر عند الشاعرة أن يرود هذه التخوم كلها، وأن يقول فيها قولته، وأن يبدع من خلالها تجاربه الفنية. فهو فضاء للذاتي ومتسع له، وهو مجال للقومي وهمومه الاجتماعية والثقافية والسياسية والحضارية وغيرها.. وهو إطلالة على المحلي وألوانه الفلكلورية.. إننا نوسع من دائرة الشعري حتى لا يسقط في التنميط المذكور أعلاه حتى وإن حمَّلنا الشعر الأحمال كلها، وأثقلنا كاهله بالأثقال كلها، وجعلناه يقولها جملة وتفصيلة. بيد أن الأمر الثاني لدى الشاعرة، في إشارتها إلى لغة الشعر التي يجب أن تكون “انعتاقا وتجليا” وهو شرط لديها في تأسيس هوية الشعر القائمة على الانبثاق الأزلي، والفيض المستمر، ليكون شاهدا على الأبدية.. صحيح أن مثل هذه اللغة ليس لغة نقدية، ولا هي من قبيل ما تسجل به النظريات، وإنما هي لغة الشعر ذاته التي تريدك أن تعتقد ما تشاء من خلال وعيك وإدراكك للكلمات. فقد يجد الذاتي في هذه الظلال مجال ليقول ذاته عبر “انعتاق وتجل” فيوحي الانعتاق بالتحرر من قيد خفي كان يكبِّل الذات ويحول دون إرادتها في أن تفصح وتجهر، أو أن تهمس وتشير. فإذا استطاعت أن تنعتق، تمكنت من أن تتجلى وتتكشف في كل هيئاتها وأحوالها. غير أن هذا النمط من الفهم قد لا يستقيم إذا حمل الشعر على عاتقه مشاكل الواقع القومي والمحلي، فذلك سيحوله سريعا إلى خطابَة سريعا ما تتخلص من اللغة الإشارية الهامسة لتركب الجهر والوعظ.