3لن نسلك في هذه المقاربة سبيل الدرس الأكاديمي التقليدي، وإنما سنترك جانباً القوالب الجاهزة التي اعتاد الدرس أن يتلبسها في مثل هذه المواقف ليناقش محمولات العبارة الشعرية في القصيدة. ونبدأ مما تصرح به الشاعرة نفسها من بوح تحاول أن تبرر به القول والفعل معاً. 3 حقيقة الشعر العربي: إذا كان الشعر «ديوان العرب» كذبة من الأكاذيب التي أطلقها العرب ثم صدقوها، وإذا كانت القصيدة الخمرية وأختها الصوفية هما اللتين أنقذتا الشعر العربي من الموت، فما حقيقة الشعر العربي إذاً؟ وكيف كان قبل ذلك؟ ترى الشاعرة «ربيعة جلطي» أن الشاعر العربي يبدو لها: «كما الشعر تماماً، يكبر دائماً في جدلية علاقته مع السلطات الدينية أو السياسية، إن بشكل مباشر أو غير مباشر، فالسلطان من يحدد اتجاه الشعر بالرفض أو القبول. أكثر من 60 بالمائة من شعرنا مدح، و20 بالمائة هجاء، وما بقي موزع بين الوصف والبيانية. في اعتقادي أن الشعر العربي الحقيقي بنسبة قليلة جداً يتجلى، وذلك خلال جميع حقبه المتواترة، في شعر التصوف وشعر الخمريات. ففي هذين الفضائين استطاع الشعر العربي أن يحلق، وأن يحقق الشعرية بمفهومها الفلسفي. ويمكن أن نذكر هنا بشار بن برد، والحلاج، والسهروردي، وابن عربي في «الأشواق».. وهذا ما يجعل الشعر العربي شعراً.»[14] إنها كلمة تتشح بكثير من الثقة، حينما تتوسطها عبارة «في اعتقادي» والعقيدة هي ذلك الوعي الذي لا تُحل عقدته بعد يقين. بيد أن الكلمة التي تدفع بها الشاعرة في حوارها، تحمل كثيراً من القضايا التي يجب على الناقد التريث إزاءها لفحص محتواها، فهي لا تحدث نفسها، وإنما تحدث القراء من خلال الحوار، ليعلموا عنها موقفها مما تثيره من قضايا، وما تلتزم به من مواقف. وسيختلف معها غالبية الناس حينما تزعم أن السلطان هو من يحدد اتجاه الشعر بالرفض والقبول.. لنا أن نسأل: متى حدث ذلك؟ ومن هو السلطان الذي قال للشعراء اتجهوا وجهة كذا، ولا تتجهوا وجهة كذا؟ وهل رفضُ السلطان لقصيدة من القصائد أرغم الشعراء على تبديل وجهة الشعر ولغته وأساليبه؟ ألم يكن السلطان واحداً من الناس واقعاً تحت رحمة الشعر، يهابه، ويشتري رضاه بماله، مثلما يفعل الحكام اليوم مع الإعلام؟ بل العكس هو الصحيح فكم من حاكم أثناه الشعر عن وجهته! وكم من سلطان دفع به الشعر إلى وجهة غير التي ارتضاها.. وما بال المعتصم مع قصيدة أبي تمام؟ إن استراتيجية الشاعرة واضحة من خلال النتائج التي ستنتهي إليها قريباً. فهي أولاً تريد أن تزيح من طريقها مقداراً من الشعر العربي له صلة بالسلطان مدحاً، وهجاء، واستعطافاً، وسياسة.. وهو ما يمثل 80 بالمائة من الشعر العربي بحسب زعمها. فإذا وجد القراء في هذا القدر الكبير أثرا للسلطان وتوجيهه، وإرغاماً للشعراء على القول في ميادينه، رفضوه واستهجنوه، وأخرجوه من دائرة الشعر الحقيقي.. وما الشعر الحقيقي إذاً؟ إنه الشعر الذي لم يرتبط بالسلطان، وليس للسلطان يد فيه. إنه الباقي.. الخمريات والصوفيات. إنه النسبة القليلة جداً (20 %) التي استطاع فيها الشعر العربي أن «يحلق» و أن «يحقق الشعرية» بمفهومها الفلسفي. لأن النسبة الكبرى ظلت لصيقة بالتراب يرغمها سوط السلطان أن تتمرغ في وحله ليل نهار، وأن تكون مكثرة على الرغم من القهر والحجر. ولما تحرر الشعر من هذه السلطة ولاذ بالسكر الخمري والصوفي على حد سواء تمكن من التحليق بعيداً في سماء الشعرية لا بمفهومها الأدبي بل بمفهومها الفلسفي. قد يقع القارئ في حيرة، فلسنا نعلم من أساتذة النقد الأدبي للشعرية إلا مطلبها الأدبي، في كونها العناصر المادية والمعنوية التي تجل النص نصاً أدبياً. أما غير ذلك فليس من شأن الشعرية في شيء. بل نرجِّح أن ما أرادته الشاعرة هو المساءلة الفلسفية والوجودية التي حفلت بها القصائد الخمرية والصوفية، في ارتيادها آفاق الحلول والاتحاد، وانغماسها في الفيض والإشراق، ودورانها في فلك وحدة الأديان، وتقويض الشرائع، وعبادة الذات، وإلغاء البعث والحساب.. وتلك مسألة أخرى تتعلق بالمضامين لا بالأشكال. وكل الأسماء التي استشهدت بهم الشاعرة أمثال «بشار» و«السهروردي» و«ابن عربي» لا يتركون للقارئ مجالاً للشك في طبيعة الشعرية التي تتحدث عنها الشاعرة، فقد تولى عدد لا يحصى من الدراسات بيان فساد فلسفة وعقائد هؤلاء إما استناداً إلى العقل أو الشرع. 3 4 الشعر والنقد: إننا حين نصادف حديثاً مثل أحاديث الشاعرة «ربيعة جلطي» التي تتشح ب«في اعتقادي» و«إني على يقين» نتوجس أن هناك حرجاً تتحسسه الشاعرة من طرف آخر. فهي تستدفع بتلك العبارات رأياً مختلفاً يأتيها إما علناً صريحاً، أو همساً مكيناً يلامس سمعها، لذلك تدفع بين يديها ما يبطل رأيه و يسكت صوته، حين تقول: «من المستحيل أن يستطيع الأكاديمي المرتبط بالنظريات المتخشبة والآراء الثابتة المطمئنة والعادات التكرارية، التي ذمها الجاحظ بصفتها صفة مزعجة في المعلمين. من المستحيل أن يعوّل المجتمع النقدي عليه في تقويم وتشذيب الذائقة الشعرية.»[15] فالأكاديمي ناقد مرتبط بالنظريات المتخشبة، والآراء الثابتة المطمئنة، والعادات التكرارية.. وهي لعمري مما يأنف النقاد الاتصاف به، بل العمل به. إنها أوصاف لأشياء وليست مصطلحات نقدية يتعامل معها النقد في مقاربته النصوص، وليس هناك من نظريات متخشبة، وإنما هناك لغة خشب يعرفها الساسة لأنها سلاحهم في وجه الخصوم. والناقد ليس خصماً لأحد، وإنما هو الحارس على باب مملكة الفن، واسع الصدر، عميق الثقافة، حليم ودود.. إنه لا يكرر في ذاته من كانوا قبله، وإنما يحاول أن يفهم ما يأتي به الجيل ليقوِّمه، ويكتشف فيه مواطن القوة والضعف، فيشير إلى كليهما دعماً للجديد، وتجديداً للقديم. ألم يكن الجاحظ مثال ذلك الناقد الذي لم يتنصل من ماضيه ولم يغمط حق حاضره، ولم يسد باب المستقبل على غيره؟ إنها مخاتلة القارئ في أشد لحظات ابتذالها، لأن الشاعرة تعلم جيداً مقام الجاحظ لدى القارئ العربي، فهي إذ تتوسل به في هذه النقطة لا تريد منه تأييد رأيها بقدر ما تريده أن يكون معبراً لفكرتها في قلب وذهن القارئ. لقد سخر الجاحظ من المعلمين، وعيَّرهم في كثير من كتاباته، وفعل بهم «ابن القيم» في أخبار الحمى والمغفلين ما فعل تندراً وتفكهاً، لا حطاً من قيمة ولا ازدراء مشيناً، بيد أن الشاعرة «ربيعة جلطي» حينما تختزل الأكاديمي وهي منهم في ثوب المعلم، تشير من طرف خفي إلى حمقه وغفلته حينما تربطه بالجاحظ الساخر في عبارة واحدة. لأنها تدرك أن الأكاديمي هو وحده الذي يعرف الحقيقة التي تحاول أن تتخطاها، وقيمة الزعم الذي تتبناه، وفي مقدوره أن يكشف ذلك للقارئ العادي الذي يتصفح الجريدة ولا يتوقف عند حقيقة الرأي، أو لا تهمه صحته أو كذبه. فإذا سألناها من هو الناقد (الأكاديمي) الذي تستريح لحكمه، قالت: «الناقد بشكل عام، والمعاصر على الخصوص، في رأيي، هو من يفترض فيه، بل يشترط فيه أن يكون أعمق ثقافة من المبدع نفسه، وأرقى ذوقاً منه، وأكثر حضارة منه، وأفهم منه في زواج الألوان ونفورها، وأسماء الطيور النادرة، وألقاب الورد، مسافراً في الكتب، وفي الجغرافيا، وأكثر إدراكاً للعالم وشؤونه منه، حراً طليقاً في تفكيره ومبدعاً في أفكاره واقتراباته وتحليلاته، عارفاً بميكانزمات اللغة في حركيتها الدائمة وعدم ثباتها على حال، مؤمناً أن في استقرارها أو تقديسها فناؤها.»[16] إنه الناقد المعاصر! أعمق ثقافة، وأرقى ذوقاً، وأكثر حضارة، وأفهم للألوان والزهور والطيور.. مسافر، مدرك، حر، طليق، مبدع، عارف، مؤمن... فأين نجد مثل هذا الخارق إن لم نجده بين أسوار الجامعات؟ هل نطلبه في المقاهي والحانات؟ هل نعثر عليه بين رفوف المكتبات إنساناً منزوياً في ركن أغبر، ليس له من هم الدنيا سوى حفظ أسماء الورود والفراشات؟ أم هو ذلك الصحفي الذي يجري وراء لقمة العيش يتصيد مقالاً هنا وآخر من هناك؟ أم أنه كائن خيالي يعيش في أحلام المبدعين فقط، يؤمنون به خيالاً وينكرونه وجوداً؟ يألفونه حين يكتبون ليفهم عنهم هواجسهم وغموضهم، ونرجسياتهم المفرطة، ثم يرفضونه إن هو ثار عليها، وأنكر لغتها، واتهم صورها، وسفَّه أحلامها؟.. أم أنه مجرد حديث للتسويق يملأ الفم ولا يشبع البطن؟ لقد كانت هذه الصورة صورة الناقد كما عرضتها الشاعرة مطلباً واقعياً في القرن التاسع عشر، حينما كلف شباب أنفسهم حفظ أسماء الورود والعطور، والفراشات وأسماء الطيور والحشرات، والجزر والفلوات، ليفاجئوا بها الحسنوات على موائد الصالونات.. لقد كانت تلك عادة برجوازية مشهورة، سخر منها كُتَّابُ الواقعية فيما بعد، وعرضوها في ابتذالها المشين، وهي تخفي مستنقع الفجور والرذيلة المستشري في المجتمع المتحلل.. نعم إنها الصور التي عرضها «بروست» في «البحث عن الزمن الضائع» وأنكرها «فولبير» في «مدام بوفاري» وغيرهما كثير.. صورة الناقد المتملق الذي يسعى إلى إعجاب حسنائه بالتعالي المعرفي عليها، صورة المغامر المتنقل بين المدن والمرافئ، صورة العارف بأحوال الشعوب والقبائل، صورة المتحضر الإنساني الذي يقبل الآخر أياً كان دينه واعتقاده، صورة الرجل البليغ المفوه الذي يعرف في اللغة أسرارها، مغاليقها ومفاتيحها.. ثم يأتي ذلك الدور التي كانت تقبل به الفتاة على مضض إن هي أرادت أن تكون من فتيات النوادي ورواد الإقامات. 3 5 الشعر والإخلاص: حينما نذكر «الإخلاص» فإننا عادة ما نخلص لشيء يقع خارجنا، ملك من الخصائص ما يجعله فينا محط إكبار وتبجيل. وأننا حين نعلن إخلاصنا إليه إنما نجدده فينا استمراراً وقبولاً، وأن نأتي من الأفعال ما يدفع عنه خائنة التحريف والانتهاك. إنها خصلة الإخلاص في أساسها المعرفي الأول. بيد أننا حين نستمع إلى الشاعرة في حوارها السالف، نجد ضرباً من الإخلاص جديداً علينا يفرض على الدارس الوقوف إزاءه لمساءلته، حتى يتبين حقيقته فيطمئن إليه أو ينصرف عنه. ففي حديث «ربيعة جلطي» عن المتلقي ترى: «أنه ليس من السهل أن تفتن المتلقي المعاصر وتأخذ بتلابيب أحاسيسه نحو عوالمك. أعرف أنه من السهل على الشاعر أن يستعمل البحور والقوافي، فأذن المتلقي جاهزة. لكنني بما ورثت من شعر عربي غزير وجميل يمتد إلى مئات السنين، إلا أنني ابنة عصري، ولي مشاكسات في اللغة العربية الجميلة المتجددة المليئة بالمفاجآت.. ولي صوتي الشعري، قد تكون بعض حباله من حنجرة الشنفرى، أو ابن الرومي، أو المتنبي، أو ابن زيدون، وكم كبير هو الشرف.. ولكنني «ربيعة» أعيش في هذا العصر، ولن أخونه بالهروب منه ماضياً، أو الهروب منه إلى الأمام.»[17] وهو تطويح آخر، يفقد الناقد صوابه. لقد أعطتنا الشاعر منذ قليل نسباً للشعر العربي، لم تبقَ من الجيد فيه إلا نسبة قليلة قصرتها على الخمريات والصوفيات، على شعراء هم: بشار، السهروردي، وابن عربي.. وها هي الساعة تراه غزيراً جميلاً، يمتد إلى مئات السنين، وفي قائمته: الشنفرى، وابن الرومي، والمتنبي، وابن زيدون.. وهم مداحون، وهجاؤون، ووصافون.. ينتمون إلى تلك الطائفة التي عدتها من موات الشعر من قبل. هؤلاء الذين تكون النسبة إليهم عند الشاعرة «كبير شرف» لا يجوز الإخلاص لهم ولا إلى مذهبهم في فن القول، وإنما الإخلاص للعصر، لا لشيء إلا لأنها ابنة العصر! فكيف يجوز لمثقف أن يعلن انصرافه عمن يحترمهم ويكبر فنهم، ويرى الانتساب إليهم شرفاً وأيَّما شرف، ثم يجعل ولاءه للعصر؟ وهل للعصر من خصوصية حتى يجبر الفنان والشاعر على الولاء والإخلاص له؟ أم أن في العصر شيئاً آخر غير ما نعلم؟ فما دام للشاعرة مشاكساتها اللغوية، وصوتها الشعري، فلن تخون العصر بالهروب منه ماضياً، أو الهروب منه إلى الأمام. ولسنا ندري ما المراد بالمشاكسات اللغوية، لأننا لسنا أمام اصطلاح يعرفه الخاصة من النقاد بل العامة منهم، وإنما نحن أمام استعمال لغوي «شعري» قد يقول كل شيء وقد لا يقول شيئاً البتة.