تتميز المجتمعات الديمقراطية حسب طوكفيل( TOCQUEVILIE 1805- 1849) بالتساوي في الظروف وتتغلب فيها المساواة الاجتماعية على التفاوت الوراثي في الواقع ..إن المدرسة في معنى المنظومة التربوية تبدو مذ ذاك أداة لتحقيق هذه المثل القائمة على التساوي وبالنسبة لمؤسسي الجمهورية الفرنسية الثالثة ( 1870-1940) فإنه يجب على المدرسة أن تضمن تربية وتعليماً لكل الأفراد وتزودهم بالأدوات التي تضمن وتؤمن لهم ترقيتهم الاجتماعية فحسب . هذه الإرادة التي أصبحت معتقدا يتقاسمه الكثير من الناس تم تجريحها من قبل كتابين نشرهما بياربورديو ومساعدوه: الورثة LES HERITEERS الذي يتحدث عن الجامعة وإعادة الإنتاج LA REPRODUCTION الذي يقترح بناء نظرية عامة حول اشتغال المنظومة المدرسية (1) . إن نتائج هذه الدراسات لارجعة فيها : المدرسة بدلا من تقليص التفاوت الاجتماعي تساهم في إعادة إنتاجه ومن ثم لابد من التساؤل حول العمليات التي أدت إلى هذه النتيجة المفارقة على الرغم من المكانة المركزية التي تتمتع بها هذه المؤسسة في المجتمع الحالي. إذا اعتبرنا الحقل المدرسي سوقاً كسوق ، من الممكن القيام بتحليل مزدوج : من جهة ( العرض) وذلك بتحديد الآليات الموجودة في المؤسسة التي تضمن إعادة الإنتاج الاجتماعي ومن جهة ( الطلب ) بتحليل نتائج الاستعمالات المتمايزة للمؤسسة من طرف الطبقات الاجتماعية المختلفة. 1 - المدرسة : أداة خفية للهيمنة : - الثقافة المدرسية هي ثقافة الطبقة المهيمنة . للبرهنة على هذا التحليل يكفي أن نبين أنه يوجد تشابه بين أسلوب اشتغال المنظومة المدرسية وتمثلات وممارسات الطبقات المسيطرة . - الثقافة المدرسية ليست بمحايدة . إن الثقافة المدرسية هي ثقافة خصوصية ، ثقافة الطبقة المسيطرة ، والمحولة إلى ثقافة شرعية قابلة للتموضع OBJECTIVATION ولا جدال فيها ومن ثم فهي ثقافة اعتباطية وقسرية وذات طبيعة اجتماعية فهي تكون نتيجة اختيار وانتقاء يحدد ماهو مثمن ومتميز أو عكس ذلك ماهو مبتذل وركيك وعمومي . ( إن انتقاء الدلالات التي تحدد بصفة موضوعية ثقافة جماعة أو طبقة بوصفها منظومة رمزية تعسفي ووظائف هذه الثقافة لايمكن أن تكون مستخلصة من أي مبدأ كوني أو طبيعي أو بيولوجي أو روحي فلا يربطها أي نوع من العلاقات الداخلية الخاصة بطبيعة الأشياء أو بالطبيعة البشرية ) (2). وبعبارة أخرى وبنوع من المغالاة بغرض فهم هذا الاستشهاد لايوجد أي مبرر عقلاني حسب بورديو لكوننا نطالع موباسان MAUPASSANT بدل تانتان TINTIN أو ندرس الرسم الأكاديمي عوض انتاجات ( الذين يرسمون على الجدران ) TAGGEURS أو الموسيقي الكلاسيكي بدلاً من التكنو TECHNO . وكذلك الأمر عندما نؤسس مقاييس الامتياز على الرياضيات عوض اللغة اللاتينية أو اليونانية فكل هذا يرجع إلى التعسف والاعتباط . إن اختيار وانتقاء التخصصات المدرسية كما هو الشأن بالنسبة لاختيار محتويات هذه التخصصات هو نتاج علاقات قوي بين الجماعات الاجتماعية. إن الثقافة المدرسية ليست إذن بثقافة محايدة وإنما هي ثقافة طبقية . ومذاك ، وإذن كانت المسافة بين الثقافة المدرسية وثقافة وسط الانتماء قصيرة وهي ثقافة مرتبطة بالتنشئة الاجتماعية ، كلما كان النجاح في المؤسسة مرتفعاً . إن بناء الطبقات العليا لهم رأسمال ثقافي موروث من عائلتهم ويتكون من رصيد ثقافي مستبطن في شكل أدوات فكرية وبفضل التفاعلات التي تتم داخل أسرهم ، فإن أبناء الفئات الميسورة يبرهنون على مستوى من النمو العملي المبكر وكذلك الشأن بالنسبة لنمط لغوي أكثر تلاؤما مع متطلبات المدرسة . وهذا الرأسمال يوجد في شكل متموضع داخل بيئة هؤلاء الأطفال : كتب وأعمال فنية وسفريات ووسائل إعلام .. كل هذه العناصر تشكل محيطاً ملائما للتمرن والتدريب وتفسر النجاح المدرسي للأطفال المنحدرين من هذه الطبقة . كل هذه المكتسبات المكونة للملكة HABITUS تعطي آثارها خلال المسار المدرسي وحينئذ، ليس من الغريب أن الورثة طلبة منحدرون من البرجوازية يكون تمثيلهم أقوى في الجامعات مقارنة بالطلبة المنحدرين من أصل متواضع. 2 - مقاييس الحكم على الامتياز المدرسي مقاييس اجتماعية : إن المدرسة فوضتها الجماعة المسيطرة سلطة الفرض أي سلطة فرض المحتويات المطابقة فقط لمصالح هذه الجماعة . إن الاختبارات الشفوية يمكن اعتبارها ( اختبارات حول الأسلوب) هدفها تقويم الشكل أكثر من المحتوى وعلى أساس دلائل حذقة خاصة بالاعتراف الاجتماعي والذي يتجلى في المظهر والنبرة وهو ماتسميه لجنة التحكيم ب ( الحضور) واللباقة والأسلوب الجيد . أما الاختبارات الكتابية – كالإنشاء مثلاً – فهي تخضع لنفس الاستعدادات في الأسلوب المستعمل . وهكذا يتجلى أن المقاييس الصريحة للتقويم لها أهمية أقل من المعايير الأخرى . لأن مانحكم عليه ، ليس هو الامتياز المدرسي بقدر ماهو الامتياز الاجتماعي كما تبينه ملكة المترشحين . إن النجاح المدرسي وارد جداً كلما تشابهت ملكة الأساتذة مع ملكة المتعلمين . 3 - أيديولوجية الموهبة تخفي آليات إعادة الإنتاج: - إن أيديولوجية الموهبة مطابقة للحس المشترك. حتى تتمكن المدرسة من ضمان إعادة الإنتاج بمعنى ضمان سيطرة المسيطرين يتوجب عليها أن تتزود بمنظومة من التمثلات قائمة على نفي هذه الوظيفة وهو دور الأيديولوجيا المعرفة في المعنى الماركسي ، بجملة من التمثلات المشوهة للعلاقات الاجتماعية المنتجة من قبل جماعة أو طبقة وتعمل على إضفاء مشروعية على ممارساتها فهي ترضي الفاعلين وتهدف إلى تأسيس ممارستهم في شكل ممارسات شرعية تجاه الجماعات و/ أو الطبقات الأخرى . وفي المنظومة التربوية فهي تأخذ شكل “أيديولوجية الموهبة” IDEOLOGIE DU DON وهذه الأيدلوجية المتأصلة في صلب المدرسة تسلم بأن التفاوت في النجاح المدرسي يعكس التفاوت في المقدرات المعتبرة فطرية ومنه فهي تلازم بأيديولوجية الاستحقاق التي تعتقد أن كل فرد يمكن أن يصل إلى المواقع الاجتماعية العليا إذا كانت مواهبه وعمله وأذواقه تسمح له بذلك . إن مثل هذا الاعتقاد يستلزم أن تعامل المدرسة كل الأفراد سواسية في الحقوق والواجبات وتضمن لهم تساوي الفرص المدرسية وتتجاهل كل فرق ناتج عن الأصل الاجتماعي . في هذه الحالة فإن المدرسة تنضوي إذن في إطار الأيديولوجية السياسية الليبرالية التي تجعل من الحرية الفردية القيمة الأساسية في المجتمع ومعترفة بذلك للإنسان بحقه في الاستقلالية والمبادرة وتنمية كل مقدراته هذه الأيديو لوجية يتقاسمها حسب بورديو كل أعضاء سلك التعليم . - أيديولوجية الموهبة تبرر التفاوت وعدم المساواة المدرسية ومنها الاجتماعية . - إن الحياد المصرح به للمقررات والبرامج يؤدي في الواقع إلى إقصاء الطبقات المسيطر عليها ويدعم شرعية الطبقات المسيطرة . في الواقع فإن مقاييس النجاح اجتماعية وليست مدرسية والتدرج المدرسي هو في حقيقة الأمر تدرج اجتماعي مغطى بأيديولوجية الموهبة وهذه الايديولوجية لابد أن تكون في الصدارة حتى تؤدي المدرسة وظيفتها المتمثلة في إضفاء الشرعية على النظام الاجتماعي . - فهي مطالبة بفعل كل شيء حتى يدرك اشتغالها وكأنه شرعي ، بمعنى أنه معترف به ومقبول من طرف الجميع .ومن خلال أيديولوجية الموهبة فإن المدرسة تقوم بتطبيع الاجتماعي NATURALISATION DU SOCIAL مترجمة بذلك عدم المساواة الاجتماعية إلى عدم مساواة في الكفاءات . المدرسة تحول التفاوت الاجتماعي في شكل نتائج تنافس منصف وعادل ، وهكذا فإن منظومة التقويم المدرسي تصبح اعتباطية ومتعسفة . تبرر الامتحانات والمسابقات – نظراً للتقسيمات التي لا تستند بالضرورة إلى العقلانية وكذلك الشهادات والألقاب التي تتوج النتائج تمثل ضمانة الكفاءة التقنية للكفاءة الاجتماعية وهي في هذا الصدد أقرب إلى ألقاب النبالة(...) الوظيفة التقنية البديهية والبديهية جداً للتكوين ولتلقين الكفاءة التقنية وأن انتقاء أكثر كفاءة تقنية يخفي الوظيفة الاجتماعية المتمثلة في تكريس المالكين بحكم مواقعهم للكفاءة الاجتماعية لحق التسيير (...) إذن نحن أمام نبالة مدرسية وريثة قادة الصناعة والأطباء الكبار والموظفين السامين وحتى الزعماء السياسيين . ونبالة المدرسة هذه تتضمن جزءاً كبيرا من ورثة النبالة القديمة الذين حولوا ألقابهم النبيلة إلى ألقاب مدرسية وهكذا فإن المؤسسة المدرسية – التي كنا نعتقد في وقت ما انها تستطيع إدخال شكل من الاستحقاق وذلك بتفضيل القدرات الفردية على الامتيازات الوراثية – تنزع إلى إقامة عبر العلاقة الخفية بين المقدرة المدرسية والإرث الثقافي – نبالة دولة حقيقية NOBLESSE D ETAT سلطتها وشرعيتها مضمونة بواسطة اللقب المدرسي«3» . المدرسة موظفة بوصفها أداة لإضفاء الشرعية على التفاوت الاجتماعي وبعيداً من تكون تحررية فهي محافظة وتعمل على إبقاء سيطرة المسيطرين على الطبقات الشعبية.